لم تكن تتخيّل حتى قبل أيّامٍ قليلة أنها ستعود إلى هذا المكان مجددًا.
“……”
كان الشعورُ مزيجًا من الراحةِ والضيقِ في آنٍ واحد.
وبعد فسخِ الخطوبة هذه المرّة، ربما كان من الأفضل أن تُسرع في البحث عن زواجٍ آخر.
فإن لم تكن تهتمّ باللقبِ كثيرًا، فسيكون من السهل أن تجد رجلًا ميسورَ الحال، حسنَ الخُلق، وتعيش معه حياةً هادئة.
لكن لتحقيق ذلك، كان عليها أن تجد أدلّةً تدعم موقفها، وتقنع بها دوقَ فالنسيا.
ولحسن الحظ، وبما أنها كانت قد سمعت أشياءَ قبل عودتها بالزمن، فقد كانت تعرف أين تبحث.
وبعد أن أجّلت التفكير في أمر 「السِّجلّ」 مؤقّتًا، قرّرت رايتشل أن تُركّز في الوقت الحالي على فسخِ الخطوبة.
“بيكي، اعرفي لي جدولَ باريس غدًا. بسرعة.”
“حسنًا.”
“وإن أمكن، جدولَ الدوقة أيضًا.”
“……حسنًا.”
لحسن الحظ، لم يكن من الغريب أن تسأل عن جدولِ خطيبها.
لم تكن بحاجةٍ فعلية لرؤية وجهه.
يكفي أن تحصل على أقربِ دليلٍ وأسهلِه، لتقنع دوقَ فالنسيا.
أما الباقي، فليبحث عنه الدوقُ بنفسه.
صعدت رايتشل إلى غرفتها، ونظّمت في ذهنها مواقعَ الأدلّة التي تعرفها، ثم كتبت رسالةً سترسلها إلى دوقِ فالنسيا.
كان الدوقُ في مكانةٍ يصعب على ابنةِ ماركيز بلا لقبٍ أن تواجهه، لكن بما أنها كانت خطيبةَ ابنه الوحيد، فقد كان التواصلُ معه أمرًا طبيعيًّا.
طرَق طَرقًا خفيفًا—
دخلت بيكي بعد أن استأذنت، وقالت:
“آنستي، غدًا سيذهب السيد باريس منذ الصباح برفقة الدوق إلى القصر الإمبراطوري. أما الدوقة، فالأمر غير مؤكد، لكن يُحتمل أن تحضر حفلةَ شايٍ لدى ماركيزة دولتشي.”
“حقًّا؟”
لم يكن من السهل على رايتشل، التي لم تصبح بعد فردًا حقيقيًّا من العائلة، أن تعرف تفاصيلَ دقيقة عن جدولِ دوقةِ فالنسيا.
لكن هذا يكفي.
بهذا، لن يكون هناك ما يدعو للقلق من مصادفتهم.
غالبًا ما تبدأ حفلاتُ الشاي قرابةَ الظهيرة.
وأثناء ختمها الرسالةَ ووضعِ الخاتم، أعلنت رايتشل جدولَ الغد.
“سأزور قصرَ دوقِ فالنسيا بعد الظهر. لا تُخبريهم مسبقًا.”
“……حسنًا.”
لم يتبقَّ على الزفاف سوى شهرٍ واحد.
ولتقليل أيّ ضجيجٍ أو مشاكل، كان لا بدّ من التحرّك بسرعة.
آه، وقبل ذلك.
رفعت رايتشل نظرها إلى بيكي بعد أن جمعت الرسالة.
“هل يمكنكِ أن تحصلي لي على مجرفةٍ صغيرة؟ واحدةٌ مناسبةٌ للحفر.”
“ماذا؟”
بدت على بيكي ملامحُ الاستغراب للحظة.
لكنها سرعان ما عادت ومعها مجرفةٌ صغيرة وقدّمتها لها.
تناولت رايتشل طعامها وحدها في غرفتها، على غير عادتها، ثم وضعت المجرفة بعناية على الطاولة الجانبية قرب السرير، وخلدت إلى النوم.
فالتفكيرُ فيما سيحدث غدًا يجعل الحفاظَ على الطاقة أمرًا ضروريًّا.
***
في اليوم التالي، استيقظت رايتشل في وقتٍ متأخر نسبيًّا، وبدأت الاستعداد للخروج فورًا.
ارتدت فستانًا مصنوعًا من قماشٍ ناعم.
وجدلت شعرَها في ضفيرةٍ واحدة وثبّتتها بشريط.
وتزيّنت بمكياجٍ أنيقٍ زاد ملامحَها إشراقًا.
وعندما أخفت المجرفةَ الصغيرة داخل الفستان، تبادلت بيكي والخادمات نظراتٍ متحيّرة.
لكن، كما يليق بخدمِ عائلةٍ نبيلةٍ رفيعة، لم يطرحن أيّ سؤال.
“العربة جاهزة، آنستي.”
“لننطلق الآن.”
وبفضل الحذاء المسطّح، استطاعت الحركةَ بحرّية رغم إخفاءِ المجرفة داخل الفستان.
وبينما كانت رايتشل على وشك الخروج من المدخل—
“إلى أين تذهبين؟”
جاءها صوتٌ مألوفٌ من الخلف.
كانت والدتها، ماركيزة إنغريف.
توقّفت رايتشل لبرهة، ثم استدارت بهدوء.
“أمّي.”
شعرٌ بنيٌّ فاتح.
وعينان زرقاوان تشبهان عينيها.
بعكس آخر صورةٍ مشوّهةٍ تتذكّرها، كان وجهُ والدتها الآن هادئًا ودافئًا إلى أقصى حدّ.
وكأن تلك الذكريات لم تكن سوى سراب.
اقتربت الأمّ بوجهٍ قَلِق.
“سمعتُ أنكِ أغمي عليكِ أمس. أليس هذا إرهاقًا زائدًا؟”
“……لم يتبقَّ على الزفاف سوى شهر. لكنني أفكّر أن أبدأ من اليوم بالراحة قليلًا، وأعمل بهدوء.”
“حسنًا. سمعتُ أنكِ نمتِ مبكرًا أمس.”
تفحّصت عيناها الزرقاوان ملامحَ رايتشل بدقّة.
وبعد لحظةٍ من التمحيص، ارتسم ارتياحٌ خفيف في عينيها.
“إذًا، إلى أين أنتِ ذاهبة الآن؟”
“سأزور قصرَ دوقِ فالنسيا قليلًا. أودّ أن أستفيد من حديقتهم في تزيين قاعةِ الزفاف.”
“فكرةٌ جيّدة. إن التقيتِ بالسيد، بلّغيه سلامي.”
“نعم.”
كما في العادة، أنهت رايتشل الحديث بانحناءةٍ خفيفة، واستدارت للمغادرة.
لكن صوتَ والدتها لحق بها من الخلف، كأنه أمسك بكاحلها.
“بالمناسبة، لأنكِ لم تنزلي إلى غرفة الطعام أمس، بدا إيليا قَلِقًا عليكِ. هل تذهبين لتطمئنيه لاحقًا؟”
“……سأفعل.”
تذكّرت رايتشل أخاها الأصغر، الذي يفصلها عنه أربعُ سنوات.
كان طفلًا قليلَ الكلام، لكنه كان صريحًا معها، ولهذا أحبّته.
لكن… ليس الآن.
صعدت رايتشل إلى العربة دون أن تنظر خلفها.
ومع ابتعاد قصرِ إنغريف تدريجيًّا، خرج من فمها زفيرٌ خفيف.
‘ليس بالأمر السيّئ كما توقّعت.’
كانت تظنّ أنها ستفقد السيطرة إذا رأت والديها مجددًا بسبب شعورِ الخيانة.
لكنها كانت أكثر هدوءًا مِما توقّعت.
وبينما تشعر بالطمأنينة من القوّة التي تدور بهدوء حول قلبها، نظرت إلى مشاهد العاصمة المألوفة.
قصورٌ ومتاجر تمرّ تباعًا.
ثم ظهر علمٌ تتوسّطه حلقةٌ ذهبيّة، يلتفّ داخلها تنين.
عائلةٌ لا تزال تختم وحشَ العصورِ القديمة.
واحدةٌ من أعظم بيوتِ الدوقيّات الأربع.
كان قصرُ أهلِ زوجها السابق يقترب شيئًا فَشيئًا.
عندما رأى فرسانُ فالنسيا الواقفون عند البوابة رايتشل من نافذة العربة، انحنوا باحترام.
“مرحبًا بكِ، آنسة إنغريف.”
فُتحت البوابةُ الحديديّة الموصدة في الحال.
وعندما وصلت إلى المدخل بعد عبورِ الحديقة الفاخرة، خرج كبيرُ الخدم مسرعًا بعد أن بلغه الخبر.
تغيّر تعبيرُ رايتشل لوهلة عند رؤيته، ثم عاد لطبيعته.
انحنى كبيرُ الخدم بعمق.
“آنسة إنغريف. نعتذر لتأخّرنا في الاستقبال.”
“……”
مرّت ذكرياتُ ما قبل العودة بالزمن في ذهنها للحظة.
لكن رايتشل تمالكت نفسها بسرعة، وتحدّثت بنبرةٍ عاديّة.
“لا بأس. أين باريس؟”
“السيد توجّه إلى القصر الإمبراطوري. يبدو أنه لم يتلقَّ إشعارًا بزيارتكِ.”
“هذا مفهوم. جئتُ على عَجل لأستلهم من المكان أفكارًا لتزيين قاعة الزفاف.”
“أفهم. هل ترغبين بمرافقٍ يرشدكِ؟”
هزّت رايتشل رأسها، واتجهت نحو الحديقة الخلفيّة.
“لا داعي. واصلوا أعمالكم. سأجول قليلًا وأغادر.”
“حسنًا. إن احتجتِ أيّ مساعدة، لا تتردّدي في إخباري، آنستي.”
وبهذه الطريقة، أبعدت رايتشل كبيرَ الخدم عنها بسلاسة.
تجوّلت قليلًا في الحديقة الخلفيّة، ثم ألقت نظرةً خلفها.
كان هناك خادمٌ واحد يتبعها من بعيد، على ما يبدو خوفًا من أن تضلّ الطريق.
“سير.”
“نعم، آنستي.”
اقترب قائدُ الحرس، السير هوفمان، فور مناداتها.
“تزعجني تلك النظرات. هل يمكنك أن تحجبني عن نظره؟”
وبإيماءةٍ منها، فهم الفارسُ المقصود، وأشار فورًا إلى الخلف.
اصطفّ الفرسان الثلاثة المتبقّون ليشكّلوا حاجزًا يحجب رؤيةَ الخادم.
“شكرًا لك.”
“على الرحب والسعة.”
بقيت رايتشل قليلًا في الحديقة، ثم اتّجهت غربًا ومعها بيكي فقط.
وبصفتها سيدةً صغيرة في عائلةِ فالنسيا لخمسِ سنوات، كانت تعرف مواقعَ مساكنِ الخدم جيّدًا.
أما خادمُ فالنسيا، الذي لم يرَ سوى ظهورِ الفرسان طوال الوقت، فقد انشغل بأمرٍ آخر ولم ينتبه لتحرّكها.
كان الفرسان في آخر مجالِ الرؤية، بعد أن وافقوا بسهولة على طلبِها برؤية المكان من بعيد بمفردها.
وصلت رايتشل بأمان إلى الجدارِ الجنوبيّ قرب مسكنِ الأطبّاء، وأمرت بيكي وهي تضعها كحاجزِ رؤيةٍ وحارسة.
“انتظري هنا قليلًا. راقبي إن كان أحدٌ قادمًا.”
“آنستي…”
“سأعود سريعًا.”
انعطفت رايتشل عند الزاوية، ووقفت عند نهايةِ الجدارِ الجنوبي.
من هناك… عشرون خطوة.
وقفت في الموضعِ الدقيق، وأخرجت المجرفةَ الصغيرة التي خبّأتها في ثوبها.
تحت هذا المكان، كان مدفونًا أحدُ الأدلّة التي عثرت عليها آيشا ليبيلين، أثناء بحثها عن الابنِ الحقيقيّ لدوقِ فالنسيا.
وكان هذا الدليلُ حاسمًا، يثبت خيانةَ الدوقة، وكانت رايتشل تتذكّره بوضوح.
طَخ—
جلست على الأرض، وبدأت تحفر بجدّ.
وسُمِع من خلف الزاوية صوتُ شهقةٍ صغيرة، حين أطلّت بيكي برأسها مذهولة.
ألقت رايتشل نظرةً سريعة، ثم واصلت الحفر دون اكتراث.
التعليقات لهذا الفصل " 2"