وقفتْ بصمت، تُحدِّق في النافذة الصغيرة بحجم راحة اليد، المثبّتة في موضعٍ مرتفعٍ قليلًا.
لم تعد الزهور تُرى من خارج النافذة. لم يكن هناك سوى بعض التراب المُقلَّب.
“مع ذلك، لقد أوفيتُ بوعدي. قلتُ إنني سأأتي لرؤيتكَ حين تنكشف كلّ الحقائق، أليس كذلك؟”
“……!”
سرعان ما تشوّهت ملامح باريس تشوّهًا وحشيًّا. اندفع نحوها، فاصطدم بـ بالحاجز! حاجزٍ سحريٍّ تولَّد في لحظة، فاعترض طريقه.
وبسببه، بدا وكأن الباب اهتزّ بعنفٍ للحظة.
“أنتِ، أنتِ! لا تقُلّي… هل كنتِ تخطّطين لهذا منذ ذلك الوقت؟!”
“…….”
ضربة!
راح يضرب الحاجز الشفّاف وهو يستجوبها بانفعال.
“لماذا فعلتِ ذلك؟ كنا بخير معًا! حتى لو عرفتِ بتلك الأمور، كان يكفي أن تُبقي فمكِ مغلقًا بصمت! ألم تكوني ملتصقةً بي كلّ ذلك لأنكِ أردتِ أن تصبحي من عائلة فالينسيا؟!”
كانت عيناه المحتقنتان بالدم تلمعان غضبًا وسخرية.
“كان يجب أن أشكّ! قلتِ إنكِ تتجنبينني في النهاية. لماذا؟ طالما كنتِ تظنين أنني وريث فالينسيا كان الأمر مقبولًا، لكن ما إن عرفتِ أنني ابن فارسٍ من أصلٍ عبوديّ حتى كرهتِ حتى لمسي، أليس كذلك؟ يا لكِ من وضِيعة تغيّرين سلوككِ حسب النسب! هل ظننتِ أنني سأنتهي هكذا فقط—!”
لم يكن هناك سبب لسماع المزيد.
كانت رايتشل صامتة منذ فترة، لكنها فتحت فمها أخيرًا.
“السبب الذي جعلني أشمئزّ منكَ كان مختلفًا.”
“وما هو؟!”
قد لا يعلم هو الآن. لكن قبل العودة بالزمن، كانت رايتشل قد تخيّلت النهاية بالفعل. في الحقيقة، حتى قبل حدوث كلّ ذلك، لم تكن الحياة الزوجية سعيدة أصلًا.
في عائلةٍ تُعدّ مسألة الوريث أهمّ شيء، مرّت خمس سنوات بلا أيّ خبرٍ عن طفل.
كانت العلاقة الزوجية منتظمة، وحتى الفحوصات التي أُجريت أظهرت أن كليهما سليم، ومع ذلك لم يكن هناك جواب.
ثم علمتْ، متأخّرةً، أنه كان يتناول شاي منع الحمل.
***
-“ما هذا…؟ -ذلك لأن….”
تهرّب باريس، ثم غادر المكان.
وبعد قليل، جاءت دوقة فالنسيا، أبعدت الجميع، وبدأت الحديث.
-“قال باريس إنه غيرُ مستعدٍّ بعد لإنجاب طفل،
ولهذا ارتكب ذلك الفعل—”
-“هل كنتِ تعلمين بذلك أيضًا، سيدتي؟”
-“لا. لم أكن أعلم. كيف لي أن أعلم؟”
-“…….”
أكثر من بادر إلى توجيه اللوم بسبب عدم وجود طفل
كانت دوقة فالينسيا نفسها.
لكنها، دون أيّ اعتذار، حدّقت بها وقالت:
-“على أيّ حال، لا داعي للقلق بعد الآن. قلتُ له ألا يفعل ذلك مجددًا.”
-“……ألا يوجد ما تريدين قوله لي غير هذا؟”
-“لا تخبري الدوق. لن يكون في إخباره أيّ خير، أليس كذلك؟”
نهضت الدوقة من مكانها. وعند الباب، كان باريس يقف، نظر إلى رايتشل ببرود، ثم خرج خلف والدته.
عندها، وباندفاع، فتحت رايتشل فمها.
-“ولِمَ لا يكون في ذلك خير؟ أنتِ تعلمين ما الذي سمعته طوال هذه الفترة. أليس هذا فرصةً مثالية لإزالة الوصمة التي أُلصقت بي؟”
-“ماذا؟”
اتّسعت عينا الدوقة ذهولًا، وكذلك باريس، الذي وقف بوجهٍ مصدوم. كما لو أنهما لا يصدّقان تمرد الزوجة التي كانت مطيعةً وصامتة دومًا.
لكن بالنسبة لرايتشل، كان ذلك طبيعيًّا.
حين دخلت هذا المنزل حديثة الزواج، لم يكن لها شخصٌ واحد إلى جانبها، فلم تستطع فعل أيّ شيء.
وحين مرّ بعض الوقت، وبسبب عدم إنجابها، لم يكن أمامها سوى كتم أنفاسها والعيش بصمت.
-‘لماذا لا يحدث حمل؟’
-‘أليس الخلل لدى السيدة رايتشل؟’
-‘بهذا الشكل، هل يمكن إقامة طقس الختم؟ ألا ينبغي التأكد مِما المشكلة—’
ذلك الهمس. وتلك الوصمات كلّها. كانت بسبب عبثه هو.
-“سأخبر الدوق.”
-“رايتشل!”
-“سيدتي!”
خرجت رايتشل مسرعةً من الغرفة، وركضت حتى مكتب الدوق. لحق بها باريس بوجهٍ متوحّش، لكن مع كثرة العيون، لم يستطع إجبارها على شيء.
ربما في ذلك الوقت، كانت قد شعرتْ حدسًا بأن نهاية هذا الزواج الغريب تقترب.
بالطبع، عندما كُشف أمر تناوله لشاي منع الحمل، انقلبت العائلة رأسًا على عقب.
لكنها لم تتوقّع أبدًا أن تسمع، بعد طقس الختم مباشرة،
بأنّه كان مزيّفًا.
‘……لم أتخيّل أنه كان يعرف حتى بأصله.’
في النهاية، كان باريس شريكًا في الجريمة.
ولو لم تُفعّل <العودة>، ولو لم تطّلع على 「السجل」، لما عرفت ذلك أبدًا طوال حياتها.
“…….”
أنهت رايتشل استرجاع ذكرياتها، ونظرت إلى باريس بهدوء.
في الحقيقة، لم تكن متأكدة تمامًا من سبب مجيئها لرؤيته.
هل أرادت فقط التأكد أن حياتها التي تحطّمت لم تكن خطأها، بل خطأ هذا الرجل الواقف أمامها؟
بطريقة ما، كان هو الرجل الذي أثّر في حياتها أكثر حتى من نيدين فالينسيا.
هو من سحبها من ذاك البريق، وما زال، حتى الآن، يجُرّها نحو القاع.
“لماذا لا تجيبين؟ إذن كلامي صحيح—”
“أنتَ… كنتَ تعرفُ بنسبكَ، أليس كذلك؟”
“……!”
بدت عليه ملامحُ من تلقّى ضربةً مباغتة.
ثم قال متلعثمًا:
“م-ماذا تقولين؟ أنا لا أعرف شيئًا كهذا—”
“حين كنتَ في الرابعة عشرة، سمعتَ الحديث الذي دار بين أمك والسير وين. ولهذا قبلتَ دون اعتراض قرار الدوقة بتأجيل طقس الختم. بل وبدأتَ سرًّا بالبحث عن طريقةٍ لإنجاح الطقس. أليس كذلك؟”
“……!”
من تعابير وجهه، بدا الأمر صحيحًا.
كما توقّعت، ما كُتب في 「السجل」 عن الماضي والحاضر والمستقبل كان حقيقة.
شحُب وجه باريس.
“كيف… كيف عرفتِ ذلك؟ هل كان هناك من سمع ذلك الحديث؟ لهذا لم يُصدّقني أبي حين قلتُ إنني لا أعرف…!”
“…….”
لم يكن هناك من سمع.
لكن رايتشل لم تُنكر.
كما أن الدوق في هذا الزمن كان قد عثر فعلًا على أدلّة لمحاولات باريس السرّية لإجراء طقس الختم.
هل عثر عليها الدوق في الزمن السابق؟ لا تعلم.
“آه…”
انهار باريس، وجثا على ركبتيه بيأس. فوق رأسه الأشيب المنحني، طرحت رايتشل سؤالها الأخير.
“ربما أعرف الجواب، لكنني سأسأل على أيّ حال. لماذا فعلتَ ذلك بي؟ حتى لو أُقيم الطقس، كان سينكشف نسبكَ في النهاية.”
“…….”
“لماذا جررتني إلى الأمر؟ في الحقيقة، هذا ما جئتُ لأعرفه.”
رفع باريس رأسه وهو يضغط على أسنانه. كانت عيناه ممتلئتين باليأس والخبث. ثم تفوّه بالإجابة.
“لأنكِ كنتِ الأعلى قيمة.”
“……!”
“كنتِ تُدعين جوهرة أولشير، أليس كذلك؟ الزهرة كانت قد ذهبت إلى برج السحر، والضغوط للزواج كانت من كلّ صوب، فلم يعد هناك مجال للتأجيل. لذلك اخترتكِ فحسب. كنتِ زينةً صالحةً للاستعمال.”
قبضت رايتشل على يديها بقوّة.
نهض باريس، وأشار بإصبعه وهو يصرخ:
“لا تجعلي كلّ شيء خطئي! كنتُ وريث فالينسيا! هكذا وُلدت! هل تظنين أنني أستطيع التخلّي عن ذلك الآن؟ هل أنا المخطئ؟ أنتِ أيضًا تزوجتِني لتُصبحي دوقة فالينسيا، وحين اكتشفتِ العيب أردتِ استبدالي بغيري!”
“…….”
استدارت وهي تستمع إلى كلماته المتشنّجة التي يحاول بها إيذاءها بأيّ ثمن.
سواء هو هنا، أو هو هناك، لم يتغيّر شيء.
لم يعد هناك ما يستحق الاهتمام.
هنا كان نهايتهما.
“وداعًا. سأمضي الآن، باريس. على الأقل، بما أنك كنتَ تفكّر هكذا، فلن يكون في الأمر ظلمٌ كبير. فبينك وبيني، لم يكن هناك سوى الخداع.”
“……!”
“إلى اللقاء.”
في تلك اللحظة، استعاد باريس وعيّه، وصرخ بيأس:
“انتظري!”
توقّف حذاء رايتشل مباشرةً أمام الباب. اقترب باريس محاولًا اللحاق بها، لكن الحاجز السحري منعه، فتوسّل بصوتٍ مرتجف:
“ما قصدته هو أن الخطأ ليس خطئي وحدي! أن أولد ابنًا لتلك المرأة وذلك الرجل ليس ذنبي! سأغفر لكِ كلّ ما فعلتِه، فقط امنحيني فرصة للعيش! توسّطي لي عند الدوق، قولي له—!”
“…….”
استمعت رايتشل إلى صوته من الخلف بهدوء. ثم، دون حاجة لسماع المزيد، استدارت.
كان الأمر مضحكًا بعض الشيء. لم يتغيّر أبدًا.
ولا يزال بلا ندم، ولا يحمل حتى اعتذارًا واحدًا.
“رايتشل!”
تجاهلت صرخته، وخرجت.
كانت على وشك استدعاء أحد الفرسان، لكنها رأت ظلّ شخصٍ يقف بجانبها مباشرةً، فارتجف جسدها دهشة.
التعليقات لهذا الفصل " 18"