فزعت آيشا وانحنت برأسها إلى الأسفل بسرعة. فضحك هو. لم يتغيّر أبدًا.
كونها مرشّحةً للإمبراطورة، كان يراها كثيرًا حتى قبل بلوغها سنّ الرشد.
لكنها، في كل مرة يلتقيان، لم تُخفِ مشاعرها. وكانت تلك الصراحة لا تبدو سيئة في عينيه.
“كنتُ أمزح. تفضّلي بالجلوس. أظن أنكِ كنتِ تحبّين شاي الفواكه الحامضة. آخر مرة شربنا الشاي معًا كانت قبل ثلاث سنوات، لذا ذاكرتي مشوّشةٌ قليلًا. أهذا صحيح؟”
“……نعم.”
تحرّكت شفتاها الجميلتان بخفّة، وكأنها سعيدة لأنه تذكّر. وفي اللحظة التي ابتسم فيها تيريوس دون وعي—
سألت آيشا:
“بالمناسبة، هل حدث شيء في القصر، جلالتك؟
حتى الخادمات، وأجواء القصر الإمبراطوري عمومًا، بدت مضطربة قليلًا.”
“آه، ذاك الأمر.”
ارتسمت على شفتي تيريوس ابتسامةٌ عميقة.
“لا بأس. بفضل آنسةٍ ذكيةٍ للغاية، سارت الأمور على خير ما يُرام.”
“……آنسة؟”
“نعم. تُدعى رايتشل إنغريف. هل سمعتِ بها؟”
تردّدت آيشا قليلًا، ثم رفعت فنجان الشاي وهمست بصوت خافت:
“سمعتُ عنها. يقال إنها تُدعى جوهرة أولشير …….”
“همم؟ آه، الآن وقد ذكرتِ ذلك.”
تذكّر الإمبراطور، تيريوس، أمرًا كان قد نسيه.
إن كانت آيشا ليبلين تُدعى زهرة أولشير —
فإن رايتشل إنغريف، قبل خطبتها لذلك المزيّف، كانت تُدعى جوهرة أولشير.
“لهذا بدا الاسم مألوفًا.”
“…….”
وبينما كان يومئ متفهمًا، كانت آيشا تراقب الإمبراطور بصمت. ثم مالت رأسها ميلًا خفيفًا. تلألأت عيناها البرتقاليتان بوميضٍ غريب—
وفي لحظة، التوت شفتاها التواءً خفيفًا غير مألوف.
كان تيريوس يتحدث عن موضوعٍ آخر، ثم التفت إليها فجأة.
“آنسة؟”
“نعم؟ آه، أعتذر. لقد شرد ذهني قليلًا……!”
لوّح بيده بخفّة، ثم أعاد السؤال.
“لا بأس. كنتُ أتساءل فقط، كيف كانت حياتكِ في برج السحر؟”
“آه…….”
استعادت آيشا ذكرياتها بوجهٍ مشرق. فكّر الإمبراطور لحظة، ثم ابتسم.
‘ما زالت، أحيانًا، تُظهر تعابير غريبة.’
في ذلك اليوم، تبادلت آيشا ليبلين حديثًا طويلًا مع الإمبراطور، ثم عادت إلى دوقية ليبلين.
كانت عودة زهرة إمبراطورية أولشير كفيلةً بهزّّ العاصمة، لكن بسبب قضية الإبن المزيّف من فالينسيا، لم يُتناقل الخبر سوى على نطاق ضيّق، ثم خبا سريعًا.
لم يكن أحدٌ يعلم.
أن ذلك كان بداية التغيّر الحقيقي.
***
في الوقت الراهن، كان البلاط الإمبراطوري والمجتمع الأرستقراطي يغليان بقضية الإبن المزيّف.
تمّت الموافقة على إبطال الزواج الذي طلبه دوق فالينسيا.
وكُشفت فظائع كاي سافانيو، التي كانت دوقة فالينسيا، كاملةً مع الأدلة.
وانتشرت الشائعات بأن دوقية سافانيو، إضافةً إلى تعويضاتٍ هائلة، ستتعرّض لتخفيض الرتبة ومصادرة الأراضي، وأنهم يبحثون بيأس عن وسيلةٍ لتخفيف العقوبة.
وفوق ذلك، تردّد خبر أن الابن الحقيقي للدوق، ملك المرتزقة نيدين، وبإذنٍ من الإمبراطور، أصدر حكم الإعدام على كاي سافانيو وعشيقها الفارس وين، وكذلك على باريس فالينسيا.
المكان الوحيد الذي بقي هادئًا—
كان غرفة رايتشل.
فقد كان ماركيز إنغريف وزوجته، اللذان نهضا من وصمة “عائلة خطيبة الإبن المزيّف” إلى “محسني فالينسيا”، منشغلين باستغلال هذه الفوضى لتلميع إنجازاتهم وإنجازات رايتشل.
“آنستي.”
لكن حتى ذلك، لا بد له من نهاية.
نظرت رايتشل إلى الرسالة التي جلبتها لها خادمتها الخاصة، بيكي.
ختمٌ من الشمع الأحمر، يتوسطه شعار عائلة فالينسيا.
كانت الشائعات عن صدور الأحكام بحقّ المجرمين صحيحة، على ما يبدو.
فتحت الختم واطّلعت على المحتوى، ثم أمرت بيكي:
“جهّزي للخروج.”
“إلى عائلة فالينسيا؟”
“نعم. سنذهب حالًا.”
رغم أن الأنظار كانت مسلّطة عليها—
كان هذا أمرًا لا بدّ منه.
كان نوعًا من الانتقام، وندمًا على الماضي قبل العودة بالزمن، وخطوةٌ لتصفية كل شيء قبل بدء حياةٍ جديدة.
‘ويجب أن أتحقّق من «السجلّ» أيضًا.’
رغم تعريف «السجلّ» بأنه ما كُتب عن الماضي والحاضر والمستقبل،
فإنها، حتى الآن، لم تفعل سوى الاعتماد على ذكرياتها السابقة، وكان لا بدّ من تأكيدٍ صحيح.
انطلقت رايتشل نحو قصر فالينسيا في عربةٍ تُخفي شعار العائلة.
لفّت شعرها الأشقر البلاتيني بعناية وأدخلته تحت القبعة، وأسدلَت على وجهها حجابًا داكنًا.
حتى الحرس وبيكي أخفوا الشعارات كي لا تُعرف العائلة.
وسرعان ما ظهر قصر فالينسيا.
كان الفرسان يحرسون المدخل والأسوار بحراسةٍ أشدّ وأكثف من المعتاد، فتقدّموا نحو العربة.
“نعتذر، لكن—”
“أنا هي.”
رفعت رايتشل الحجاب عن وجهها.
وحين أظهر الفارس هوفمان لمحةً من شعار إنغريف، انحنى الفرسان فورًا.
“مرحبًا بكم. سنفتح البوابة حالًا.”
تشاك—
انفتح الباب الرئيسي للقصر، الذي كان مغلقًا بإحكام.
أسندت رايتشل ذقنها، وحدّقت في المشهد الذي طرأ عليه بعض التغيير.
حديقة أُعيد اقتلاعها بالكامل.
لا زهور، ولا أشجار، ولا نباتات زينة—
خلف الأرض الجرداء لم يبقَ سوى القصر والملاحق.
لا تعرف ما الذي تغيّر في الداخل—
لكن الخارج، وكل ما يُحتمل أن كاي سافانيو قد لمسته، كان قد أُزيل بالكامل.
“…….”
حين وصلت العربة إلى مدخل القصر ونزلت، تقدّم خادم بوجهٍ لم تره من قبل بخطى سريعة.
“مرحبًا بكِ، آنسة إنغريف.”
“…….”
“آنسة؟”
وبعد أن ألقت نظرة هادئة حولها، فتحت رايتشل فمها ببطء.
“أين هو؟”
“سأقودكِ بنفسي. من هنا، من فضلكِ.”
اتبعت الظهر الغريب.
شعرت رايتشل بإحساسٍ غير مألوف.
لم تتخيّل أن القصر الذي ظنّت أنه لن يتغيّر أبدًا، قد تغيّر إلى هذا الحد.
ومع ذلك، كان هناك ما لم يتغيّر.
الطريق الذي تسلكه الآن خلف خادم فالينسيا —
كانت قد سلكته من قبل.
قبل العودة بالزمن، حين كانت تُساق مكبّلة الذراعين.
وفي نهايته، كان يقبع المبنى المألوف الذي رأته آنذاك.
اقترب أحد الفرسان الذين كانوا يحرسون المبنى بإحكام حين رآها، فانحنى الخادم بأدب.
“مسموح لي بالمرافقة حتى هنا فقط. سأنتظر هنا، تفضّلي بالذهاب، آنسة.”
“سأتولى الإرشاد من هنا، آنسة.”
أدّى الفارس التحية باحترام، ثم ألقى نظرةً خلفها.
“لكن يجب أن تبقى الخادمة والحرس هنا. هل هذا مقبول؟”
“نعم، لا بأس.”
أشارت رايتشل إلى بيكي والحرس بألا يتبعوها، ثم دخلت المبنى وحدها برفقة فارس فالينسيا.
أضاءت المشاعل المعلّقة على الجدران الخشنة الطريق وسط الظلام.
تسلّل إلى ذهنها طيف الذكريات، فبدأ نفسُها يضطرب قليلًا.
بعد قليل—
ستصل إلى تلك الغرفة.
غرفة في القبو، لا يدخلها سوى الرياح والأمطار من نافذة صغيرة بحجم الكف، مثبتة قرب السقف.
أهو عبث القدر؟
توقّف الفارس أمام الغرفة نفسها التي كانت محتجزةً فيها قبل العودة بالزمن.
فكّ تعاويذ الحماية، ثم أخرج حلقة مفاتيح وفتح الباب المقفل.
“هناك سحرٌ عازل. يمكنكما التحدّث بأمان.”
كِيييك—
احتكّ الباب الحديدي بالأرض بقسوة.
وفي داخل الغرفة المألوفة—
نهض باريس، الذي كان جالسًا على الأرض، متردّدًا.
وبفضل الضوء الداخل من النافذة الصغيرة، لم تكن الغرفة شديدة الظلام.
“أ، أنتِ… كيف جئتِ إلى هنا……؟”
“…….”
هل كان من حسن الحظ أنها جاءت في يومٍ جميل؟
نظرت إلى الأرض الرطبة قليلًا رغم خلوّها من الماء، ثم رفعت بصرها إلى الفارس.
“سأتحدّث معه على انفراد.”
“……حسنًا.”
بعد تردّدٍ قصير، ابتعد الفارس حتى نهاية الممر.
وحين تأكّدت رايتشل من ذلك، خطت إلى داخل الغرفة.
تركت الباب مواربًا.
رغم وجود السحر الذي يمنع السجين من الهرب أو الهيجان، لم تكن تريد المخاطرة.
صرّ باريس على أسنانه وسأل:
“لماذا جئتِ إلى هنا؟ ألا تعرفين معنى الوقاحة؟ سمعتُ أن من بلّغ عن هذه القضية كان أنتِ.”
“…….”
“لم تكتفي بتحطيمي إلى هذا الحد. والآن جئتِ لتشاهدي سقوطي بعينيكِ؟”
نظرت رايتشل إلى القيود السحرية المقيّدة في كاحليه، ثم قالت بهدوء:
التعليقات لهذا الفصل " 17"