قبل كلّ شيء، كانت فرقة المرتزقة هذه مشهورة بتكوّنها حصريًا من أشخاص يدينون بولاءٍ مطلق لملك المرتزقة، ولذلك كان من المعروف أنّ محاولات الاستمالة لا تجدي نفعًا معهم.
وحسبما سمعت، فقد تبعوهم أيضًا عندما دخل ملك المرتزقة إلى قصر فالينسيا.
“…….”
قرّرت رايتشل ألّا تستحضر في ذهنها الوجوه التي كانت تقف خلفه قبل عودتها بالزمن.
بعد قليل، توقّفت العربة التي خرجت إلى الأسوار الخارجية أمام سياجٍ خشبيٍّ عالٍ.
عند مدخل السياج، الذي لم تُعلَّق عليه أيُّ لافتة، وقف مرتزقٌ غريب.
تقدّم السير هوفمان ممتطيًا حصانه.
“لدينا موعدٌ مسبق.”
“آه.”
تفحّص المرتزق الشعار المعلّق على العربة، ثم فتح باب السياج.
“تفضّلوا بالدخول.”
بدا السير هوفمان هادئًا، لكن كان واضحًا أنّ الحراس المرافقين يشعرون إمّا بالتوتّر أو بقليلٍ من الترقّب.
في النهاية، أليس هذا المكان الذي يقيم فيه أحدُ ثلاثة فقط في الإمبراطورية بلغوا مرتبة القمّة في المبارزة؟
حتى رايتشل، كانت هذه المرّة الأولى التي تطأ فيها عشّ فرقة الصقر الأحمر.
“…….”
وضعت ذقنها على يدها وهي تتأمّل المشهد الذي أخذ يتكشّف ببطء.
وعلى عكس توتّرها بسبب السياج العالي، كان الداخل عاديًا على نحوٍ غير متوقّع.
ساحةٌ واسعة، وعلى أحد الجدران عُلّقت شتّى أنواع الأسلحة.
وخلف ذلك، بدلًا من حديقة، امتدّت حقولٌ مزروعة بمحاصيل مجهولة.
ولم يظهر مبنى حقيقيٌّ من ثلاثة طوابق إلا عند أقصى النهاية، ويبدو أنّه كان مقرّ إقامة المرتزقة.
توقّفت العربة أمام مدخل المبنى، حيث خرج عددٌ من الأشخاص لاستقبالهم.
وسرعان ما فُتح الباب.
“آنستي.”
“…….”
مدّ السير هوفمان يده.
أخذت رايتشل نفسًا قصيرًا ثم أمسكت بيده.
كانت قد أدركت وجود ذلك الرجل مسبقًا من خلال النافذة، لذلك لم تتردّد في حركتها.
طَبَق—
نزلت من العربة ورفعت بصرها.
كان الرجل الذي اضطرت إلى إمالة عنقها كثيرًا لتراه ما يزال، على عكس آخر مرة رأته فيها قبل الرجوع بالزمن،
ذو هيئةٍ متحرّرة وغير مقيّدة.
شعرٌ أسود أشعث، وعينان حمراوان حادّتان قليلًا.
‘……هل يبدو مُرهقًا بعض الشيء؟’
خطرت الفكرة للحظة، لكنّه ليس مِمَّن ينبغي لها القلق بشأنه.
كان الرجل يبادلها النظر، ثم انحنى برأسه.
“أهلًا وسهلًا بكِ، آنسة إنغريف. أشكركِ على تلبية الدعوة رغم أنّها جاءت على حين غرّة.”
“لا داعي للشكر. بل أرى أنّني أنا من نال الشرف بدعوة ملك المرتزقة.”
خرج التحية بسلاسةٍ على غير المتوقّع.
تنحّى جانبًا، فانقسم المرتزقة الواقفون خلفه إلى صفّين على الجانبين.
“تفضّلي إلى الداخل. لقد أعددنا بعض الضيافة.”
“……نعم.”
قد يكون الاقتراب من هذا الرجل أمرًا يتطلّب استعدادًا نفسيًا، لكن رايتشل تبعته بهدوء.
قادها ملك المرتزقة إلى غرفة استقبال في الطابق الثاني.
نوافذٌ زجاجية صغيرة لكن شفّافة.
وفي الوسط، أريكة أنيقة وطاولة من الخشب الصلب،
بدت كأنّها المساحة المخصّصة لاستقبال طلبات النبلاء.
توقّفت رايتشل عند المدخل لحظة، ثم التفتت إلى بيكي والحراس.
“انتظروا هنا. وأنتِ أيضًا، بيكي.”
“نعم، آنستي.”
“…….”
بعد لحظة صمت، انضمّ السير هوفمان والحراس إلى الجدار من أحد الجانبين.
كان المقصود واضحًا.
وبإشارةٍ من نيدين، اصطفّ رجاله على الجدار المقابل.
وهو ما يزال ممسكًا بمقبض الباب، التفت إليها.
“تفضّلي بالدخول.”
“……نعم.”
ما إن دخلت حتى أُغلق الباب بصوتٍ خافت.
ارتعشت رايتشل للحظة، لكنها تماسكت، ثم توجّهت وجلست على إحدى الأرائك.
كان الرجل يقف عند طاولةٍ بمحاذاة الجدار، يصدر عنها صوت خفيف من ارتطام الأدوات، ثم عاد حاملاً ضيافةً صغيرة غير متوقّعة في بساطتها.
“قد تكون الخادمة على علمٍ بالأمر إلى حدٍّ ما، لكن داخل قصر الماركيز، لا أحد يعرف سواي.”
“فهمت.”
“ما الذي أردتَ قوله؟ حسبما سمعت، لم تدخل بعدُ إلى قصر فالينسيا.”
“…….”
قال وهو يدفع نحوها فنجان الشاي المتصاعد بالبخار:
“سمعتُ من دوق فالينسيا. قال إنّكِ اكتشفتِ الحقيقة أثناء التحقيق في أمر خطيبكِ، وأنّكِ عرفتِ بوجودي خلال ذلك—”
وُضع ملفٌّ سميك على الطاولة.
“في الحقيقة، كان يكفي لكِ إثبات أنّ ذاك الرجل مزيّف لتفسخي الخطبة. لا أفهم لماذا كشفتِ عن وجودي أيضًا.”
“…….”
“وفوق ذلك، وبالنظر إلى كمّ التحقيق الذي قمتِ به، فإنّ ما تطلبينه قليلٌ على نحوٍ يثير الحيرة. هل كلّ ما تريدينه فعلًا هو تعويض فسخ الخطبة، وألّا يستغلّ والداكِ الأمر للتقرّب من فالينسيا، وأن تلتقي بذلك الرجل مرّةً أخيرة بعد صدور قرار العقوبة؟”
كان معنى كلامه واضحًا.
إنّه لا يفهم نواياها، ولذلك يشكّ بها.
رايتشل لم تكن تريد سوى ألّا تتورّط عميقًا مع فالينسيا.
لكن من وجهة نظرٍ خارجيّة، كانت طلباتها بسيطةً إلى حدٍّ يبعث على الريبة.
“هل يصعب عليكِ الجواب؟”
تلألأت عيناه فجأة كبلّورٍ أحمر.
“……لا.”
تنفّست رايتشل بارتياحٍ خفي.
يبدو أنّ الأمر ليس خطيرًا إلى هذا الحدّ.
رفعت رأسها والتقت بنظره، فحدّق بها بصمت.
ارتفع شعورٌ بالنفور في صدرها، لكنّها حافظت على هدوء ملامحها وبدأت بالكلام.
“في الحقيقة، لم يكن أمر ملك المرتزقة ضمن اعتباراتِي أصلًا. كنتُ أريد فسخ الخطبة سريعًا، وظننتُ أنّ معرفة فالينسيا بوجود وريثٍ حقيقيّ آخر قد تجعلهم يتحرّكون بحزمٍ أكبر، لا أكثر.”
“……ومع ذلك، فقد جمعتِ تقريبًا كلّ الأدلّة بإلحاحٍ شديد.”
“كلّما حفرتُ أكثر، ظهرت أشياءٌ جديدة. وبصراحة، كان ذلك مخيفًا. ولهذا أردتُ الابتعاد عن فالينسيا. فكّرتُ أنّ التورّط مع عائلة دوقية يعني التعرّض لأمورٍ مخيفة كهذه، وربّما يكون الزواج من ابنِ أحدِ الكونتات خيارًا أفضل…طبعًا، قد يكون لوالدَيّ رأيٌ مختلف.”
“…….”
أنزلت رايتشل بصرها عمدًا.
لا بدّ أنّه تذكّر تلك الجملة الأخيرة.
-“وأرجو أيضًا ألّا يستغلّ والداي علاقتي بفالينسيا لمصالحهما.”
“بما أنّك تعرف ما طلبتُه من الدوق، فالأمر أسهل شرحًا.
لهذا تقدّمتُ بذلك الطلب. فقد يحاول والداي الاستمرار في ربط اسمي بفالينسيا.”
“…….”
“على أيّ حال، لا أطمح إلى أكثر من ذلك. لذا يمكنك أن تطمئن.”
أنهت كلامها وابتسمت وهي تُغمض عينيها قليلًا، راجيةً أن تبدو غير مؤذيةٍ قدر الإمكان.
هل كان ذلك كافيًا؟
تردّد الرجل لحظة، ثم مرّر يده على وجهه ببطء.
ورغم ذلك، ظلّت عيناه معلّقتين بها، بنظرةٍ معقّدة يصعب تفسيرها.
التعليقات لهذا الفصل " 12"