الفصل 10 :
كانت رايتشل تهمّ بمغادرة المدخل المألوف بملامح أكثر ارتياحًا، حين حدث ذلك.
ـ تشَكّـ!
انفتح الباب الأمامي المُغلق بإحكام.
ودخل رجلٌ ذو شعرٍ أسود، يبدو غريبًا ومألوفًا في آنٍ واحد، برفقة مساعد عائلة فالينسيا وفرسانها.
كان هو ملك المرتزقة، نيدين.
في اللحظة التي التقت فيها عيناه القرمزيتان الهادئتان بنظرتها، كادت الذكريات التي دفنتها أن تطفو من جديد، لكن—
على النقيض، كان مظهره الحرّ غير المتكلّف يعيدها إلى الواقع في لحظة.
وعندها، لمحت في عينيه لمعة دهشة ٍعابرة.
كأنّه تعرّف عليها.
“آنسة؟”
“……”
تصلّبت رايتشل في مكانها، ولم تُخفض بصرها إلا بصعوبة عند سماعها نداء بيكي.
‘لا بدّ أنه مجرّد وهم.’
لم يكن بينه وبينها أي تقاطع حقيقي.
كل ما هنالك هو ذكريات أحادية الجانب، وانزعاجٌ وعدم ارتياحٍ من طرفها فقط.
خطر ببالها للحظة ذاك اللقاء القصير في الطريق المركزي، لكن—
كان عابرًا لا أكثر.
استدارت رايتشل نحو العربة قبل أن يصل هو.
“لنذهب.”
“تفضّلي، أمسكي.”
كان السير هوفمان قد اقترب منها ومدّ يده.
استندت إلى يده وصعدت مباشرةً إلى عربة عائلة فالينسيا التي كانت بانتظارها، فلحقت بها بيكي على عجل.
أغلق كبير خدم فالينسيا الباب بهدوء واحترام.
“مع السلامة، يا آنسة.”
“انطلق!”
حرّك السير هوفمان العربة فورًا.
وحين همّت بيكي بفتح النافذة، أوقفتها رايتشل.
“انتظري قليلًا.”
“……؟”
مرّت أمام النافذة التي كانت بيكي على وشك فتحها ظلال أشخاصٍ عابرين.
لم تتعمّد رايتشل النظر إلى هناك.
تجاوزت العربة وتلك الظلال بعضها بعضًا.
“الآن، لا بأس.”
“……نعم.”
فتحت بيكي النافذة.
وتسلّل الهواء البارد، فهدّأ الغثيان الذي كان يعتصر معدتها.
ومن خلف نافذة العربة، مرّت حدائق فاخرة متتالية.
لقد كان هذا الأخير حقًا.
هذه العربة التابعة لعائلة فالينسيا أيضًا.
وهذا الاقتراب من ذلك الرجل.
وهذا القصر نفسه—لن تعود إليه مرةً أخرى أبدًا.
آه، هل بقيت مرّة واحدة فقط؟
تذكّرت رايتشل باريس، الذي ستلتقيه بعد انكشاف الحقيقة.
نهايةٌ قريبة.
***
كان نيدين يحدّق في العربة التي مرّت بمحاذاته.
لمح خلف النافذة ظلًّا صغيرًا ظهر واختفى في لمح البصر.
‘إذًا، كانت فعلًا آنسةً من عائلة فالينسيا؟’
رأى كيف نظرت إليه بعينين متوتّرتين قليلًا قبل أن تدخل العربة على عجل، ما جعله يعتقد أنها تعرّفت عليه هو أيضًا.
“……”
يبدو أن شحوبها ذاك حين التقيا في الطريق المركزي كان بسببه هو.
“مرحبًا بك.”
استقبله كبير خدم فالينسيا بأدب.
وبينما كان نيدين يترجّل عن حصانه، أشار بعينيه نحو العربة التي كانت تغادر.
“من تلك الآنسة؟”
“آه، إنها آنسةٌ من عائلة إنغريف. وهي على وشك الزواج من سيّدنا الشاب.”
الزواج؟
تفاجأ أولًا لأنها من عائلةٍ أخرى، ثم صُدم مرةً ثانية حين علم بقرب زواجها.
وبالتفكير بالأمر، لم يكن زواج النبلاء المبكر أمرًا نادرًا، فلم يكن هناك ما يستدعي كل هذا الاندهاش.
“تفضّل، دعني آخذ اللجام.”
“……”
ناول اللجام لكبير الخدم بعد أن ألقى نظرةً أخيرة نحو العربة التي اختفت.
ومرّر نيدين يده على وجهه، وقد ازدادت ملامحه تعقيدًا.
“من هنا.”
تبع المساعد الذي تقدّم للإرشاد، متّجهًا إلى مكتب دوق فالينسيا.
كان القصر أفخم من أي قصرٍ رآه من قبل، باستثناء القصر الإمبراطوري.
قاعة دائرية ذات طابقين، وسلالم مزخرفة بنقوش دقيقة.
وأثناء صعوده، استرجع بعض المعلومات المقتضبة عن عائلة دوق فالينسيا.
العائلة التي يُقال إنها تختم وحشًا عظيمًا عاش لأكثر من ألف عام.
وكان يُقال إن السلالة المباشرة بالغة الأهمية.
وإمكانيتهم الفريدة هي <الختم>.
عدا ذلك، لم يكن يعلم الكثير.
وكان ذلك طبيعيًا، إذ لم يكن يهتم كثيرًا بالبلاط أو عالم النبلاء ما لم يكن هناك تكليفٌ مباشر.
توقّف المساعد أمام بابٍ يقف عنده فرسان فالينسيا بحراسة مشدّدة.
ـ طَق طَق ـ
طرق المساعد الباب.
“سيدي الدوق. أنا غيكس. لقد أحضرتُ ملك المرتزقة.”
“ادخل.”
“تفضّل بالدخول.”
فُتح الباب دون صوت.
ودخل نيدين، ناشرًا إحساسه القتالي بحذرٍ حاد.
ثلاثة في السقف.
اثنان قرب النافذة الزجاجية الواسعة.
واحد عند كلٍّ من الخزانة، والجدار، والأرض.
وكان هناك أيضًا ذلك الإحساس المألوف قرب دوق فالينسيا نفسه.
التقت عينان حمراوان قرمزيتان بأخريين بلون العقيق في الهواء.
انحنى نيدبن بخفّة.
“قيل لي إن لديك ما تقوله بخصوص والدتي.”
“……نعم. اجلس.”
أشار إلى الأريكة المقابلة.
وبينما جلسا، راقب نيدين الدوق الشاب أمامه.
دوق فالينسيا.
أحد أعظم نبلاء الإمبراطورية.
لكن، وعلى عكس توقّعاته، بدا شابًا للغاية.
في أواخر الثلاثينيات؟ أو أوائل الأربعينيات؟
وفي الوقت ذاته، كان الدوق يحدّق فيه بلا انقطاع.
“……”
“……”
ـ طَقّ ـ
انكسر الصمت حين عاد المساعد ووضع الضيافة.
لمس نيدين فنجان الشاي العتيق بطرف إصبعه.
“يبدو أنك وضعت من يراقبني أيضًا.”
“……!”
التقط نيدين فورًا القاسم المشترك بين الظلال المختبئة هنا وتلك العيون التي كانت تراقبه.
إحساسٌ متشابه.
الإمكانية ذاتها.
وحتى طريقة تشغيل المانا متطابقة.
الآن فهم سبب استعجال المساعد في استيقافه.
لقد تدخّل لأنه أدرك أن نيدين كان على وشك القضاء على الظلال.
نظر الدوق إلى مساعده للحظة، وقد بدا عليه الحرج.
“يبدو أن من بلغ مرتبةً عالية في السيف قادرٌ على هذا أيضًا.”
“……”
ـ طَق ـ
أنزل نيدين فنجان الشاي الذي لم يمسّه، وحدّق بحدة في الدوق.
“والآن، تفضّل بالشرح. لماذا قمت بالتحقيق في شأني؟”
“……غيكس.”
أشار الدوق بهدوء إلى مساعده.
أخرج غيكس قارورةً زجاجية تحتوي على سائلٍ شفاف.
استلّ الدوق خنجرًا وشقّ راحة يده، وأسقط قطرة دمٍ حمراء داخل القارورة.
فتلوّن السائل الشفاف بلونٍ داكن.
ثم ناول القارورة لنيدين.
“هل يمكنك أن تضيف قليلًا من دمك هنا؟”
“لقد طالبتُ بتفسير.”
“وهذا هو التفسير. ظننتُ أنكَ ابني، وكان لا بدّ من التأكّد. خشيتُ أن ينتبه أحد، فقرّرتُ حمايتك في الخفاء.”
تقدّم المساعد وقدّم له خنجرًا جديدًا.
نظر نيدين إلى الخنجر والقارورة بهدوء، ثم رفع بصره إلى الدوق.
الآن فهم سبب التحقيق حتى مع القابلة.
اتكأ نيدين بظهره إلى الأريكة بهدوء.
ولم تتحرّك يداه قيد أنملة.
“أرفض. لا أرغب بالتورّط مع نبلاء كبار.”
“……لا تبدو متفاجئًا كثيرًا. هل توقّعتَ الأمر مسبقًا؟”
لا يدري.
هزّ رأسه بملامح خالية من الانفعال.
“لم أتوقّع هذا. كل ما خطر ببالي هو أنه بما أنني أيقظتُ إمكانية <الختم>، فقد تحاول فالينسيا ربط النسب بي إن علموا بذلك.”
“……!”
أبٌ بيولوجي، الآن؟
منذ قليل، كان يشعر بغليانٍ في صدره.
لم يكن صدمة، بقدر ما كان غضبًا أو نفورًا.
“هل هذا كل ما أردت قوله؟”
حدّق نيدين في والده البيولوجي بلا اهتمام.
وتجمّدت ملامح الأب، التي كانت تبدو سعيدةً قبل لحظات.
“……لا تبدو سعيدًا. هل تكرهني لأنني جئتُ متأخرًا؟ ذلك—”
“لا أريد أن أسمع.”
قطع نيدين كلامه بنبرةٍ حازمة.
رغم أن الدوق كان قد تأكّد بالفعل من كونه ابنه، وغيّر نبرته تبعًا لذلك—
إلا أن هذا أيضًا لم يكن مِما يهمّ نيدين.
المشهد الفاخر الممتد خلف النوافذ الزجاجية الواسعة.
لا يعلم ما الذي كان والده يتوقّعه—
“لو أردتَ العثور عليّ، لكان عليك أن تأتي حين كانت أمي على قيد الحياة.”
“……!”
لكي لا تعاني.
لكي لا تموت بتلك الطريقة العبثية.
على الأقل، كان عليه أن يأتي حين كان نيدين قاصرًا.
لكنه لم يفعل.
كل هذا كان قد انتهى قبل ستّ سنوات، أو على الأقل قبل ثلاث سنوات، حين بلغ نيدين سن الرشد.
بل إنه، حتى قبل اليوم، كان قد نسي وجود والده البيولوجي تمامًا.
ولهذا—كان حقًا متأخرًا جدًا.
بدأ البرد يتسلّل إلى عينيه الحمراوين.
“لماذا تبدو مصدومًا؟ تخلّيت عني حين شئت، والآن بعدما أصبح الابن ملك المرتزقة، صار مفيدًا لك؟”
“ليس هذا ما—”
ارتسم الارتباك على وجه الأب.
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
《 قناة التيلجرام مثبتة في التعليقات 》
حسابي ✿ 《انستا: fofolata1 》
التعليقات لهذا الفصل " 10"