بعد أن غادر الأطفال، ظلّت روزالي غارقةً في التفكير.
صحيح أنّ كلامهم لا يصلح كدليلٍ قاطع، لكن تسلّلت إلى ذهنها أسئلةٌ كثيرة.
قصةُ الراهب السابق الذي قيل إنّه اختفى لم تفارق بالها، إلى جانب خبرِ زوجة صاحب النُّزل التي ماتت بعد أن عضّها مصّاص دماء، والطفلة المفقودة.
كانت تعرف أنّ طبيعة القرى الريفيّة المغلقة قد تُخفي الجرائم بسهولة، لكن مع ذلك، كان عددُ الوفيات والاختفاءات الغامضة في هذه القرية الصغيرة مريبًا للغاية.
إن كانت أخت ميخائيل قد ماتت فعلًا على يد مصّاص دماء، فكان يكفي مراجعة سجلات كارديف لمعرفة الأمر.
فلماذا لم يُخبرها ميخائيل بذلك؟
أم هل يكون أطفال الميتم قد أخطأوا؟
وإن لم يكن مصّاص دماء، فما الذي يخشاه أهل القرية؟
‘هل يمكن أن تكون سلسلة جرائم قتل متتابعة؟’
أو ربما قاتلٌ متسلسل يختبئ في هذه القرية التي تبدو وادعة.
قالت روزالي وهي تسند ذقنها إلى كفّيها المتشابكتين.
“لو كان الأمر قتلًا متسلسلًا… فيجب إبلاغ الشرطة، أليس كذلك؟ فالقتل يُعالج وفق القانون الجنائي على أي حال، وليس من اختصاص قسم الإعدام…”
“إن لم يكن القاتل المتسلسل مصّاص دماء، فصحيح.”
“لا أظنّه مصّاص دماء، أليس كذلك؟ ماذا عنك؟”
“لا أدري.”
“لكن قبل قليل قلتَ إنّك شممتَ رائحة دم.”
“كانت رائحة دمٍ بشريّ، لا دم مصّاص دماء.”
“إذًا… هو قاتلٌ متسلسل على الأرجح.”
ابتلعت روزالي ريقها.
قال غيل: “لكن وتيرة الحوادث متباعدةٌ جدًّا.
لو كانت منذ 13 سنة، فهل سيبقى من يتذكرها بوضوح؟”
خطر ببال روزالي شخصٌ ما، فتبادلت مع غيل النظرات.
كان السيّد توماس لا يزال متجهّم الملامح كما في السابق، لكن يبدو أنّ ميخائيل قد شرح له أمرهما، فلم يعد يطردهما كما فعل بالأمس.
وبما أنّها لم تُرِد الدخول في الموضوع مباشرة، جلست روزالي وطلبت طبق لازانيا مع بطاطس مقليّة، فقد كان وقت الغداء.
وكما مدحه ميخائيل، كان توماس طباخًا ماهرًا.
كانت روزالي مستغرقةً في الاستمتاع بالمزيج الرائع من صلصة الطماطم والجبن ولحم البقر المفروم، حين بادرها توماس بالكلام فجأةً.
“حتى لو لم يكن لديكم مكان تنامون فيه، تنامان في المكان الذي يديره ذلك الحقير؟! أيّ جرأة هذه!”
رفعت روزالي رأسها، “عن مَن تتحدث؟”
“عن ذاك الراهب المزيّف، طبعًا.”
قالها ببرود وهو يمسح الطاولات.
“إن لم تُرِدا رؤية أشياء قذرة، فارحلا فورًا. هذه القرية ملعونة. شبح مصّاص الدماء ما يزال يهيم هنا، وما نفع تمجيد جلّاد مات قبل أن يُنهي عمله…”
“يبدو أنّ هناك من لا يحبّ ريك هانت، مع أنّ الجميع هنا يبدون معجبين به.”
“ذلك الصرح الديني ليس سوى زينة. لن يحميكم من مصّاص دماء.”
“إذًا، كان الأجدر بك أن تؤجّر لنا غرفةً نحن المساكين الغرباء.”
“لن أؤوي مصّاص دماء في نزلي.”
“لكنني لستُ مصّاصة دماء.”
“ومن لا يعرف ذلك؟ أتظنينني غبيًّا؟ الكلّ يعرف أنّ مصّاص الدماء هو ذاك الجالس أمامكِ.”
ثم اتّجه إلى الطاولة التالية ودار بجسده مبتعدًا عنها.
سألت روزالي بعد لحظة.
“وكيف عرفتَ؟”
“أنتِ وحدكِ التي تأكلين. ذاك لم يشرب حتى كوب شاي.”
“… إذًا، كان عليكَ أن تؤجّر لي غرفة على الأقل.”
لكنها تذكّرت شيئًا.
“في اليوم الأول… كيف عرفتَ حينها أنّه مصّاص دماء؟”
توقّف توماس عن المسح، وحدّق فيها، ثم انقبضت ملامحه وهو ينظر إلى غيل.
وبدأ يضطرب وهو يمسك المنديل في يده.
“مصّاص الدماء يلمع بصره في الليل. لقد رأيتُ واحدًا حقيقيًّا من قبل. والآن… إن كنتما قد انتهيتما من الطعام، فارحلا. هذه أقصى درجات اللطف التي أبديها. مصّاصو الدماء جميعهم سواء… وحوشٌ جائعة تكبح غريزتها. تقولين إنّ القانون يضبطهم؟ هاه… لا أصدق ذلك. لن أصدق.”
ظلّ يمسح الطاولة وهو يتمتم ببرود.
وضعت روزالي البقشيش على الطاولة ونهضت.
“سؤالٌ واحد فقط، بما أنك من أبناء القرية، هل تذكر حادثة موت أخت الأب ميخائيل؟”
“أذكرها. فقد كانت في نفس السنة التي ماتت فيها زوجتي. وإن أردتِ أن تعرفي، فاسألي ذاك الراهب، هو يعرف كل شيء. أما أنا، فلن أقول أكثر.”
“إذًا، سؤالٌ أخير، هل تتذكّر الراهب الذي عمل في كاتدرائية ترينيتي قبل ميخائيل؟ ذاك الذي قيل إنّه اختفى…”
“اختفى؟”
ضحك توماس بسخرية.
“ومن قال ذلك؟”
“أفهم أنّك تنكر إذًا؟”
“لقد قُتل في نفس السنة.”
“إذًا، كل تلك الحوادث… وقعت في نفس العام؟”
لكن توماس أدبر عنها ولم يُجب.
***
كان نهار قرية ترينيتي موحشًا وهادئًا.
بدا أنّ أشعة الشمس الدافئة لم تصل إلى أعمق أركانها.
توقّفت روزالي أمام تمثال كاتدرائية ترينيتي.
كان التمثال يصوّر ريك هانت وهو يغرس رمحه في مصّاص دماء تحته.
وجه الجلّاد بدا مهيبًا، ووجه مصّاص الدماء بدا مرعبًا.
نُقش على قاعدة التمثال:
< أيّها السائر في الظلام، لا تخف.
فحياةُ الإنسان في دمه،
ومن يشتهِ تلك الحياة فإنما بفعل اللعنة.
فاهرب، واهرب حتى ينتهي ظلام الليل الطويل،
إلى أن نلتقي تحت أشعة شمس النهار من جديد. >
رفعت روزالي بصرها إلى السماء المشرقة.
وبجانبها كان غيل يقرأ النقش أيضًا، مرتديًا نظّارات الحماية، ووجهه مخفي تحت القلنسوة.
“أظن أنّ أسرع طريقة هي أن نذهب لنسأل ميخائيل مباشرة.”
“ألم تقولي إنّ القتل البشري لا يدخل في نطاق عملكِ؟”
“سنكتفي بسؤالٍ بسيط. قد يكون كل هذا مجرد مصادفة.”
***
لكن خطّتهما لمقابلة ميخائيل تبخّرت تمامًا.
فقد وقع الحادث عند الثانية بعد الظهر تقريبًا.
إذ لم يجداه في أيّ مكان، حتى بعد أن تفقدا الكنيسة والميتم، فقيل لهما إنّه خرج مع بِن، فذهبا إلى الساحة بحثًا عنه.
ركض أحدُ رجال القرية نحو روزالي وهو يلهث بشدّة، وكان في أواخر العشرينات أو أوائل الثلاثينات، ووجهه شاحبٌ حدّ الاصفرار.
قال وهو يتنفّس بصعوبة، وصوته يرتجف من شدّة الاضطراب:
“سمعتُ من الأب ميخائيل… أنّكما من فِرقة الإعدام…”
كان يلهث بقوّة، ويرتجف كما لو أنّه شهد أمرًا صادمًا.
ثمّ خرجت من فمه كلماتٌ لم تكن روزالي لتتوقّعها مطلقًا.
“إنّه مصّاص دماء! لقد ظهر مصّاص دماء! فجأةً خرج من الغابة… وأمسك بأحد أطفال الميتم وفرّ إلى داخل الكنيسة! والأب ميخائيل تبعه لإنقاذ الطفل!”
اتّسعت عينا روزالي دهشة.
“تقول إنّ مصّاص دماء ظهر في وضح النهار؟”
“عليكما الإسراع… يجب أن تذهبا الآن!”
سارت خلفه، وما هي إلا لحظات حتى بانَ مشهدُ فوضى عارمة أمام كنيسة ترينيتي.
فالناس الذين كانوا يحضرون القدّاس بهدوء، صاروا يصرخون ويهرعون إلى الخارج.
حتى شرطة القرية، الذين كان جلُّ عملهم إصلاح الأسوار أو البحث عن قطٍّ ضائع، بدوا مذهولين ومشلولي الحركة.
أما روزالي، فقد وجدت الأمر في غاية الغرابة؛ إذ من المعروف أنّ مصّاصي الدماء لا يخرجون للصيد في وضح النهار، وإن حدث، فهو نادرٌ جدًّا.
وكان هناك ما هو أغرب.
أيُّ مصّاص دماءٍ أحمق يهرب إلى الكنيسة؟
صحيح أنّ روزالي عرفت في السابق مصّاص دماءٍ فعل ذلك… لكنّها فكّرت أنّه ربما يكون قاتلًا متسلسلًا يتظاهر بأنّه مصّاص دماء، وهذا أقرب إلى المعقول.
وفيما كانت تفكّر، وقع بصرها على السيّد توماس وسط الحشود المرتجفة، وهو يندفع شجاعًا إلى داخل الكنيسة.
كان اندفاعه إلى حيث الخطر لإنقاذ طفلٍ أمرًا يبدو بطوليًّا، لكنّ قلب روزالي ازداد قلقًا.
فاكتفت بإبراز بطاقتها الخاصة بالإعدام للشرطة، وطلبت منهم منع الناس من الاقتراب، ثمّ تبعت توماس مع غيل إلى داخل الكنيسة.
كان الطابق الأوّل خاليًا تمامًا.
ومن ناحية الدرج، سُمعت خطوات توماس تتّجه إلى القبو.
أسرعت روزالي في أثره.
وحين بلغت منتصف السلّم تقريبًا، دوّى من الأسفل صوتُ عراك.
وبدأت تميل أكثر إلى أنّ الجاني قاتلٌ متسلسل، لا مصّاص دماء… لأنّ الأصوات العالية انقطعت فجأة، وكان آخر ما سمعته صوت السيّد توماس نفسه.
ثمّ جاء صوت سقوط معدنٍ على الأرض، رنّةٌ حادّة جعلت قلبها ينقبض.
لكن حين وصلت القبو، توقّفت فجأة.
كانت يدُ الأب ميخائيل ترتجف قليلًا، وعليها آثار دماء.
وعند قدميه كان السيّد توماس ممدّدًا على الأرض، وبجانبه خنجرٌ سقط منه، والدم ينزف من جرحٍ في جانبه.
كان الأب ميخائيل واقفًا أمام جثة مصّاص دماءٍ المحنطة في قبو الكنيسة، بينما توماس يضغط على جرحه و يرفع رأسه نحو ميخائيل بنظرة غاضبة، قبل أن يُسقط رأسه ويغشى عليه.
قال ميخائيل ببرود وهو ينظر إلى توماس: “أنتَ ذكيٌّ بلا فائدة…”
لم يبقَ في ملامحه أثرٌ من وداعة الراهب التي اعتادتها روزالي، فشعرت بالتوتّر على الفور.
وكان هناك بِن أيضًا، الطفل الذي رمى الثوم الطازج في وجه روزالي أوّل مرّة التقوا، ممدّدًا خلف ميخائيل، والدم يسيل من رأسه وعنقه.
لكنّ عينَي روزالي لم تتوقّفا على الجريحين، بل خطفتهما صورةُ شخصٍ ثالث غريب، جعلتها تسأل فورًا.
“الأب ميخائيل، ما الذي تفعله هنا؟”
كان دم توماس يسيل باتجاه تمثال إمراةٍ مقدس، ليتجمّع عند جسد مصّاص الدماء الملقى أمامها، وقد اخترقه رمح.
أشارت روزالي إلى المرأة المقيّدة بالأصفاد في معصميها وكاحليها، وهي شبه هيكلٍ عظميّ، ذات عينين غائرتين، وشفاه متشقّقة، تبرز من بينها أنياب، وبشرة متغيّرة اللون، وشعر أسود طويل متشابك… لولا أنّها تتحرّك قليلًا، لظنّتها جثّة.
لكنّ أكثر ما صدمها أنّ ملامح هذه المرأة تشبه ميخائيل إلى حدٍّ مخيف.
وبينما كانت تفكّر في ما رواه أطفال القرية عن “مصّاصة دماء امرأة”، سمعت خلفها صوت غيل وهو يهيّئ مسدّسه بإرجاع مطرقة الإطلاق إلى الخلف.
سألت روزالي ميخائيل بغير وعي، “هل هي أختك؟”
لم يُجب، بل تحدث بصوتٍ بارد وهو يحدّق في توماس الممدّد.
“على أيّ حال، هذه المرة الثالثة التي أقدّم فيها ثلاثة أشخاص… لقد تمّ الأمر. لو كنتُ أعلم أنّ الأمر سينقلب هكذا، لما اضطررتِ لاصطياد شخصٍ إضافي… لكن كل شيء فسد، بفضل شخصٍ ما.”
“ما الذي تعنيه؟”
“كنتُ أريد منكما أن تكتفيا بالبحث في وثائق ريك هانت وترحلان.”
رفع ميخائيل رأسه ببطء، وفي عينيه إرهاقٌ قاتم، ونظر مباشرةً نحو روزالي.
أدركت أنّ الوقت لا يسمح بالمزيد من الكلام، فتقدّمت نحو بِن وتوماس لتتفقد حالهما.
لكن فجأةً دوّى صوت إطلاق نار.
استدارت روزالي برعب، فرأت فوهة مسدّس غيل موجّهة إلى السقف.
“ما الأمر، غيل؟”
“لا تقتربي. هناك شيء غير طبيعي… أخبريني، كم عدد الأشخاص الموجودين هنا؟”
“أنا… ومعنا أربعة آخرون.”
“خطأ. الموجودون أحياء هنا أربعةٌ فقط… وأنتِ واحدةٌ منهم.”
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 8"