3
3. جلّادة مصّاصي الدماء على ضفاف نهر التايمز (3)
حين غطّت الكائنات التي تعيش في ضوء النهار في سباتها، خيّم السكون على نهر التيمز. لم يُسمع سوى صوت الرياح وهي تعصف، وصوت الماء وهو يجري.
وقفت روزالي تُراقب نهر التيمز تحت ضوء القمر، تنتظر… وتنتظر.
وبينما كانت تحدّق طويلاً في الماء الجاري، أسقطت بضع قطرات من دم هايزل على منديلها اليدوي، وإذا بصوتٍ ينادي:
“أختي!”
استدارت روزالي بذهول.
أقبلت هايزل تركض نحوها بكلّ ما أوتيت من قوّة.
“لقد نسيتِ هذا.”
مدّت هايزل ساعة جيبٍ فضّية.
تلك الساعة كانت ملكًا خالصًا للجلّاد.
مدّت روزالي يدها إلى جيب معطفها دون تفكير.
كان الجيب خاليًا بالطبع. عندها تذكّرت أنّها أخرجت الساعة لترى الوقت، ثم نسيتها تمامًا.
“لا يجوز لكِ التجوال ليلًا. الأمر خطير. كان يمكنكِ إعطائي إياها غدًا.”
“لكنّكِ دائمًا تكونين هنا ليلًا، فأردتُ إعادتها لكِ على الفور…”
“لكن، كيف علمتِ أنّني هنا؟ ألم يُفرَض حظر تجوّل على شارع ريفرسايد بأكمله؟”
“في الحقيقة… خرجتُ في الليل مرّات عدّة بدافع الفضول. ولم أعد أستطيع النوم ليلًا مؤخرًا.”
“لو علم الشرطي راينولد أنّكِ خالفتِ حظر التجوّل، لأُغمي عليه من الصدمة. أشكركِ على إحضار الساعة، لكن في المرّة القادمة، عليكِ أن تنتظري حتى بزوغ الفجر. فهمتِ؟”
أومأت هايزل برأسها. فربّتت روزالي على رأسها مرّة واحدة، ثم التفتت إلى غيل تطلب منه أن يعيد الطفلة إلى منزلها.
“هيا، عودي الآن. غيل سيُوصلكِ.”
لوّحت روزالي بيدها، لتُشجّعها على الرحيل. وأشار غيل لهايزل أن تتبعه.
ولوّحت هايزل بدورها إلى روزالي، ثم مدّت يدها لتُمسك بيد غيل، لكنه تفادى يدها.
نظر إليها لبرهة بوجهٍ متجمّد، ثم مدّ يده ببطء. بعد تردّد، أمسكت هايزل بيده المُغطّاة بالقفّاز.
وبينما كانت تسير معه في ظلمة الليل، أخذت تتأمّل غيل وقد نزع نظّاراته الواقية بنظراتٍ مفعمة بالدهشة.
“هل أنتَ حقًّا لستَ ساحرًا؟”
“لستُ ساحرًا.”
“إذًا ماذا تكون؟”
“إن أردتِ توصيفًا… فأنا أُساعد سيّدتي. ربما يمكن اعتبار عملي كعمل الخادم.”
“هذا رائع.”
“ليس عملًا رائعًا إلى هذه الدرجة.”
“الشرطي راينولد قال إنّ عائلة إيفنهارت عائلة نبيلة من طبقة الكونت. إذًا لا بدّ أنّ القصر مليء بالخدم.”
“…ليس تمامًا…”
كان غيل على وشك قول شيءٍ آخر، لكنه التزم الصمت فجأة.
لم يُسمع سوى صوت خطواتهما وهما تطآن الأرض الحجريّة.
وساد الصمت، فانقطعت المحادثة.
أرادت هايزل الحديث، لكنها لم تعرف كيف تتصرّف أمام صمت غيل، فاستمرّ التوتّر.
وبينما كانا يسيران وسط ذلك الليل الكئيب، توقّف غيل فجأة. فتوقّفت هايزل معه دون تفكير.
شعرت بقوّة تشدّ يدها، فرفعت رأسها إليه وقد ارتسم القلق على وجهها.
كان وجهه مُتجمّدًا وهو ينظر إلى الخلف.
التفتت هايزل بدورها لتنظر خلفها، لكنها لم ترَ شيئًا غير طريق ريفرسايد المُظلِم وأشجار الرصيف.
لم يكن هناك ما يُثير الريبة.
أخيرًا، تحدث غيل بوجهٍ حائر.
” هايزل علينا أن نعود فورًا. أنا آسف.”
وما إن قال ذلك، وقبل أن تسأله عن السبب، حتى أمسكها من خصرها وقفز بها في السماء بسرعةٍ مذهلة.
شهقت هايزل من الذهول.
كان ذلك الليلُ ليلة بدرٍ مكتمل.
رأت القمر ينعكس مشوَّهًا على سطح نهر التايمز، ورأت ظلال الأزقّة والنوافذ والبيوت تتّضح بفضل ضوءه الساطع.
لكن لم يُتح لها تأمّل جمال السماء، إذ امتدّت يدٌ مغطّاة بقفّاز فغطّت عينيها.
ومنذ تلك اللحظة، لم تعد ترى شيئًا.
راودها للحظةٍ شعورٌ بأنّ البشر لا يمكنهم القفز بهذه السرعة والعلوّ، لكنّ اليد المُغطاة بالقفّاز أُزيلت قبل أن تغرق في التفكير، لتجد نفسها عادت إلى ضفاف نهر التايمز.
اتّسعت عيناها دهشةً.
كانت روزالي واقفةً على الأرضيّة الحجريّة حيث تصطدم مياه النهر، ترتدي فستانًا أبيض ناصعًا.
لكن ذلك الفستان الأبيض تحوّل في طرفة عين إلى معطفها الأحمر المعتاد.
وصنادلها المكشوفة التي بلغت ظاهر قدميها صارت حذاءً جلديًّا متينًا برقبةٍ عالية.
وشعرها المضفور الطويل عاد إلى لونه الأحمر.
ارتفع ماء نهر التايمز فجأة.
تراجعت روزالي إلى الخلف و هي تتفادى شيئًا ما، وسالت بقعٌ من الدم على الأرض الحجريّة.
قفز غيل إلى الأمام. وشعرت هايزل أنّها ارتفعت عن الأرض، لكن أحدهم التقطها على الفور.
“يا كلب بيستموند القذر… دماء هذه المتعاقدة ليّ وحدي.”
“آه، ها قد بدأ مجددًا. كفّ عن هذه الحوارات الطفوليّة و المبتذلة. ثم إنّي طلبتُ منكَ أن تعيد الطفلة إلى المنزل، لا أن تعود بها إليّ!”
صوت غيل الغاضب الذي تحوّل فجأة، وصوت روزالي الهادئ وسط كلّ هذا الفوضى، بدا غريبًا عن هايزل.
لكنّ ما أذهلها حقًّا كان أمرًا آخر.
كانت هايزل تطفو في الهواء.
أو بتحديدٍ أدقّ، كانت معلّقة بخفّة فوق ذراعي روزالي الممدودتين.
وكأنّ هناك سحرٌ يُبقي البشر في الهواء.
وبعد لحظات، لامست قدماها الأرض.
“أختي… دمكِ…”
كان هناك خدشٌ بسيط في ذراع روزالي.
“لم أكن أريد توريطكِ، لكن الوضع كان سيئًا. وهذه ليست إصابةً تُذكر يا هايزل. لا تقلقي.”
بصق مصّاص الدماء الذي هاجم روزالي على الأرض.
“لقد تبعتُ رائحة الدم، فوجدتُ شيئًا آخر. ما أسوأ حظّي، جلّادةٌ في طريقي، ومعها خائنٌ تحالف مع البشر.”
نقرت روزالي بأصابعها، فأضاءت المصابيح الغازيّة المحيطة بهم بقوّة أكبر.
وتحت ضوء تلك المصابيح، ظهر مصّاص الدماء بشعره الأسود، وبشرته الشاحبة، وعينيه الرماديّتين.
تراجعت هايزل خطوة إلى الوراء، فاصطدمت بروزالي.
وضعت روزالي يدها بلُطف على كتفها.
“من مظهره… يبدو أنّه ماكاي بيستموند. أليس كذلك؟ الهارب من عائلة غراهام منذ نحو ثلاثة أشهر.”
مصّاص الدماء الذي دُعي باسم ماكاي بيستموند لم يُجب، بل راح يدور حول غيل بشكل نصف دائرة.
لحس ماكاي دم روزالي العالق بأطراف أصابعه.
وبما أنّ غيل تحرّك تلقائيًّا ليتبع نظره، أصبح واقفًا بين روزالي ومصّاص الدماء.
“أتسأل وأنت تعرف الجواب؟ منذ متى وأنت تهتمّ لأمرنا؟”
“الأمر إجراءٌ ضروريّ. لا يمكننا القبض على مصّاص دماءٍ بالخطأ.”
ضاقت عينا ماكاي الحادّتين أكثر مما كانت عليه.
“قبل مدّة قصيرة، قتلتَ إمرأةُ في شارع ريفرسايد، أليس كذلك؟”
“تناولتُ طعامي فحسب، لم أقتلها.”
“لكنها توفّيت لاحقًا في المستشفى بسبب نزيفٍ حادّ. وبحسب اتفاقية لندن، فثمّة ما يكفي لمعاقبتك.
مَن الذي حرّرك من عهد الدم؟”
لم يُجِب ماكاي، واكتفى بإمالة رأسه بصمت.
“ولِمَ شربتَ من دم إنسانٍ عاديّ، لا من دم المتعاقد معك، والذي يُستثنى من بنود الاتفاقية؟”
“أنا لستُ ماشيةً تُربّى.”
“تسك، وقحٌ لا يعرف الخجل.”
“أخرِس فمكَ، أيّها المعتوه ذو الشهوة الشاذّة. لابد أنّ عائلتك خلال حرب مصّاصي الدماء، ما إن رأتَ كفّة الميزان تميل ضدّهم، حتّى أسرعوا بالانضمام إلى البَشر!”
“لم أكن أعلم أنّ دمَ تلك السلالة القذرة يجري في عروقك أيضًا… يا لها من صدمة.”
فقد كانت عائلة بيستموند هي الآخرى من السلالات التي وقّعت على اتفاقية لندن بعد الحرب.
توهّجت عينا ماكاي غضبًا وهو يُحدّق في غريمه، ثمّ خرج من فمه كلامٌ خشنٌ غاضب.
“من الذي لا يعرفُ الخجل؟ من الذي لا يعرفُ العار؟ لستُ أنا، بالتأكيد. فأنا لا أُشبهك أيّها الماشية، الذي لا يملك أيَّ فخرٍ بانتمائه إلى مصّاصي الدماء. أنا نلتُ حرّيتي، ولا يمكن لأحدٍ أن ينتهك حقوقي، حتى وإن كان جلّادًا.”
استمعت روزالي إلى كلماته دون أن تتحرّك، أمّا وجه هايزل فقد شحبَ تمامًا.
وقد تحوّل بصر ماكاي نحو روزالي الآن.
“مجرد اتفاقٍ تافه عُقِدَ قبل أن أُولد حتى… البشر ينعمون بأشهى المأكولات، فلماذا يُحرَم هذا المسكين من أن يأكل وقتما يشاء وبالقدر الذي يرغب؟ آه، صحيح… امرأة بشرية ماتت، فماذا في ذلك؟ ماتت واحدة، فتتحدثون عن المحاكم والقوانين، وتطاردونني بتفاهاتكم. إنكم تُثيرون اشمئزازي…أنتم مقززون بحق.”
أجابه غيل بسخرية: “وهل كنتَ تتوقّع منّا أن نُصفّق لك ونرحّب بك لأنك قتلت إنسانًا؟”
“غيل، يكفي.”
أوقفت روزالي غيل عن الكلام و أردفت.
“هل لديك نيّة للخضوع لعلاج إعادة التأهيل؟ هل ترغب في تقديم اعتذار للطفلة التي فقدت آخر فردٍ من عائلتها؟”
كانت نبرة روزالي وهي تطرح الأسئلة حزينة، على غير ما اعتاده الناس من جلّادة تكره مصّاصي الدماء.
في المقابل، بدا أنّ مصّاص الدماء الجائع بدأ يفقد صبره.
راح يُحدّق في روزالي من أعلى رأسها حتى قدميها، ثم ابتسم ابتسامةً بغيضة.
“أعتقد أنّ بإمكاني شكرها على الأقل. فقد شبعتُ بفضلها.”
ثم غيّر مجرى الحديث فجأة.
“…بالمناسبة، هل سمعتِ بتلك الشائعة؟ يُقال إنّ من يأكل جلّادًا ينال قوّة تضاهي قوّة لورد مصّاصي الدماء( كان يتم وصفه باسم لورد الدم و هذا بالغالب هو رئيس العشيرة او العائلة) لم أتذوّق لحم جلّادٍ من قبل. ويُقال إنّه لذيذ أكثر مما تتوقّع—”
وهنا انتهى الحديث.
هجم ماكاي على هايزل فجأة دون إنذار، وفي اللحظة نفسها اعترضت روزالي طريقه، بينما حمل غيل هازل بين ذراعيه.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
Chapters
Comments
- 3 - جلّادة مصّاصي الدماء على ضفاف نهر التايمز (3) 2025-08-08
- 2 - جلّادة مصّاصي الدماء على ضفاف نهر التايمز (2) 2025-08-08
- 1 - 1. جلاّدة مصّاصي الدّماء قرب نهر التايمز (1) 2025-08-03
التعليقات لهذا الفصل " 3"