2
2. جلّادة مصّاصي الدماء على ضفاف نهر التايمز (2)
“لا بد أنّ الأمر في غاية الصعوبة. آمل أن تتمكّن هايزل من تجاوزه… على كلّ حال، من حسن الحظّ أنّك وصلتِ بسرعة. إن بالغتُ قليلًا، فقد دخلتِ تقريبًا في اللحظة التي هممتُ فيها بوضع السمّاعة.”
“لقد حالفني الحظّ. كنتُ في الجوار لأمرٍ آخر.”
“…سمعتُ أنّكِ تبحثين عن مصّاص دماء. هل من الممكن أن يكون هذا هو الذي تقصدينه؟”
“على الأرجح لا. مصّاص الدماء الذي أبحث عنه لا ينتمي إلى سلالة بيستمونت. لكن إن كان هذا قد خرق اتفاق لندن، فلا بدّ من أنّ ثمّة صلةً بطريقةٍ أو بأخرى.”
“هل الشائعاتُ صحيحةٌ؟” خفض الشرطي راينولد صوته فجأةً.
“من بين العائلات الخمس التي تدير شؤون مصّاصي الدماء… هناك اثنتان قد أختفيتا و لم يوجد لهما أيّ أثرٍ…”
“من الأفضل ألّا نخوض في معلومات لم يُصدّقها الفاتيكان رسميًّا. فهي تبقى مجرّد شائعات. كما هي الإشاعة بأنّني مصّاصة دماء.”
منذ ذلك الوقت، مرّت عدّة أيّام دون أن يحدث شيء يُذكر، على نحوٍ يبعث على الدهشة.
سكان شارع ريفرسايد شاهدوا الجلّادة الموفدة من قِبل الفاتيكان وهي تتناول فطورها في المخبز القريب بطريقة عاديّة تمامًا، وأحيانًا تتجوّل في ضوء الشمس وكأنّها سيّدة من سكّان الحيّ.
لكنّهم لم يشهدوا كلّ شيء. فالأناس الطيّبون الذين يلتزمون بحظر التجوّل لم يكونوا يعرفون أنّ روزالي تقوم بدوريّات كلّ ليلة على ضفاف نهر التايمز، بالقرب من مسرح الجريمة.
كانت روزالي تغيّر شكلها كلّ ليلة؛ فمرّةً تبدو كفتاة سوداء الشعر كثيرة النمش، ومرّةً أخرى كصبيّ ذي شعر بلاتيني مضفور، وأحيانًا بشكلٍ غريب تمامًا.
بل إنّها في بعض الليالي كانت تسير على ضفاف النهر مرتديةً جينزًا وحذاءً جلديًّا، كشابٍ مراهق.
“همم، من أين تسلّل هذا اللعين يا تُرى؟”
وضعت روزالي مرفقيها على ركبتيها وسندت ذقنها بيدها، بدَت في تلك اللحظة كصبيٍّ مشاكس لا أكثر.
الرجل الواقف إلى جانبها كان ينظر هو الآخر بصمتٍ إلى مياه التايمز.
“بما أنّ أسلوبه متهور، ظننتُ أنّه سيقع في الفخّ بسرعة.”
“ربّما يكون أكثر حذرًا ممّا اعتقدتِ.”
“همم، هل سيكون المظهر الأنثويّ أفضل؟”
وبينما كانت تفكّر، قلّدت روزالي سيّدةً كانت تنزل من يختٍ قريب، فحوّلت مظهرها ليشبهها.
ربطت شعرها الطويل المجعّد في خصلةٍ واحدة، وتحوّلت ثيابها إلى فستانٍ ناصع البياض مزركش بالدانتيل، والعصا التي كانت تحملها أصبحت مظلّة أنيقة.
“مظهركِ اليوم مختلفٌ من جديد.”
التفتت روزالي لترى هايزل واقفةً خلفها وهي تحمل شيئًا في يدها.
“ما الأمر، هايزل؟”
“ذلك السحر الذي تقومين به، هل هو فعّال ضدّ مصّاصي الدماء؟ ألا يمكن أن يهرب أحدهم لمجرّد أنّه عرف أنّكِ جلّادة؟”
“هذا ليس سوى بعض الخداع البصري لإرباكهم. مصّاصو الدماء لا يظهرون غالبًا في النهار. وبحسب نوعهم، فإنّهم يميلون إلى الاعتماد أكثر على حاسّة الشمّ تحت أشعة الشمس. ثمّ إنّي أستخدم دمكِ أيضًا، لذا لن يلاحظ شيئًا. وهناك سرّ صغير، لا توجد نسبة 1% لكي يستطيع احدٌ معرفة شكلي الحقيقي، لا من البشر ولا من مصّاصي الدماء لأنهم سينسونه.”
“وأنا؟”
“أنتِ أيضًا ستنسين قريبًا. سحر عائلة إيفنهارت مميّز للغاية.”
“هذا… مؤسفٌ قليلًا.”
“لكن عندما نلتقي من جديد، ستتذكّرين.”
أخذت روزالي من هايزل قطعة البسكويت الدافئة التي ناولتها إيّاها.
مدّت هايزل قطعة أخرى إلى غيل، لكنّه لم يأكلها بل أعادها إلى روزالي. نظرت إليه هايزل بتعجّب.
“أنا بخير، لا داعي. وعلى فكرة، لم أقدّم نفسي بعد. اسمي غيلهيلم.”
“أنا هايزل.”
مدّت هايزل يدها أولًا، لكنّ غيل اكتفى بالنظر إليها، فما كان منها إلّا أن سحبت يدها بخجل.
كانت تراقب روزالي وهي تلتهم حصّتين من البسكويت بنهم.
“لِمَ ترتدي نظّارات واقية، يا أخي؟”
“لأنّ عيني تتحسّسان من هواء لندن…”
“لكنّ الطقس جميل اليوم.”
“هايزل، هل ترغبين في رؤية شيء؟”
نهضت روزالي ورمت قطعة من البسكويت في النهر. أسرعت بعض الطيور والتقطتها من الماء.
“هل تعلمين ما الذي يحتاجه الصيّاد؟ الصبر، والقدرة على التمثيل. هذا ما قاله لي كبير الجلّادين الذي علّمني.”
“هل أنتِ… أقوى من مصّاصي الدماء؟”
“همم، ربّما. من يدري؟”
“وإذا كان المصّاص أقوى منكِ… وأكلكِ، ماذا سيحصل؟”
“حينها، هذا الرجل سينقذني. إن كان لديه ضميرٌ بالطبع.”
رفعت هايزل رأسها من جديد.
“هل أنتَ ساحرٌ أيضًا؟”
“لستُ ساحرًا…”
“هايزل، لماذا قدّمتِ لنا البسكويت؟”
تردّدت هايزل قليلًا.
“لأنّي… كنتُ فظّة جدًّا في اليوم الأوّل.”
ضحكت روزالي بمرحٍ.
مدّ غيل يده المغطّاة بالقفّاز ومسح آثار الشوكولاتة عن فمها.
“لو رآكِ أبناء العائلات الأخرى، لضحكوا على أنّ آنسة عائلة إيفنهارت تأكل بهذه الطريقة.”
“ما بكَ؟ تبدو جديًّا اليوم.”
جلست هايزل إلى جانب روزالي التي بدَت مختلفة تمامًا عن أمس، مرحة، خفيفة الروح، بل وساذجة قليلًا.
كانتا على صخورٍ تتمايل أمواج نهر التايمز أمامها.
“هل فكّرتِ قليلًا في ما قلتُه لكِ؟”
“آه— أمم، لا.”
“انظري إلى هذا النهر. كم هو ملوّث. ومع ذلك، لا يمكن لأحدٍ من سكّان لندن أن يعيش من دونه. أعتقد أنّ الحياة تسير هكذا.”
قبل عدّة ساعات، انتهت مراسم جنازة آنيتا هوارد.
أصبحت هايزل الآن وحيدةً بحقّ.
“لديّ سؤال يحيرني.”
“ما هو؟”
“لقد قلتِ إنّ عائلتكِ أيضًا قُتلت على يد مصّاص دماء… فهل كنتِ بخير؟ أنا… ما زلتُ أشعر وكأنّ قلبي خاوٍ.”
وضعت هايزل يدها الصغيرة على صدرها.
“لا أعرفُ كيف أعيش من دون أختي آنيتا.”
نظرت روزالي إلى مياه النهر.
“أنا أبحثُ عن مصّاص دماء، في الحقيقة.”
“مصّاص دماء؟”
“غالبُ الظنّ أنّه ليس نفسه الذي قتل آنيتا. لا أعلم أين هو الآن، ولا حتّى شكله، لكنّ عليّ العثور عليه. إنّه أمر يتعلّق بشرف العائلة.”
“هل مصّاص الدماء هذا… هو الذي قتل عائلتكِ…؟”
“نعم، ذلك الوغد.”
ابتسمت روزالي، وقد رأت التوتّر على وجه هايزل.
“هل هذا يعني أنّكِ أصبحتِ جلّادةً فقط كي تنتقمي منه؟”
“نصف السبب، نعم.”
“ماذا؟”
“همم، كيف أقولها… في الآونة الأخيرة، أشعر بأنّني أتحمّل مسؤوليّة ازدياد عدد مصّاصي الدماء الخارجين عن ميثاق الدم. لو كانت عائلة إيبنهايت لا تزال قويّة، لما حصل كلّ هذا… بهذا المعنى، نعم. لكن في البداية، كنتُ فقط أريد الانتقام.”
اكتفت هيزل بالإنصات في صمت.
كنتُ أريد أن أغرس رمح الصليب و وتد الخشب في قلبه، ثمّ أُسأله: لماذا قتلتَ عائلتي؟ ماذا كان يدور في بالك؟ لو كنتَ تريد الدم فقط، لكان بوسعي أن أُعطيك منه ما تشاء. ثمّ أتركه يتعذّب تحت أشعّة الشمس ببطء…”
ضحكت روزالي وهي تلوّح بيدها حين رأت هايزل وقد اتّسعت عيناها دهشةً.
“أعني، كنتُ كذلك في الماضي.”
لكن هيزل كانت قد اتّخذت تعبيرًا حازمًا على وجهها بالفعل.
“أجل، هو يستحقّ ذلك العقاب.”
نظرت روزالي من طرف عينها نحو غيل لتتأكّد من ملامحه، فرأته متلبّكًا للغاية، متظاهرًا بعدم سماع أيّ شيء.
“لكن الشخص الذي درّبني لأصبح جلّادةً طلب منّي أن أضع هدفًا آخر، غير الانتقام. لذا صار في المرتبة الثانية الآن.”
“هل هناك جلّادون آخرون غيركِ؟”
“بما أنّهم أشخاصٌ معترَفٌ بهم من قبل الدولة، فعددهم ليس بقليل. أعتقد أنّهم أكثر من عدد أصابع اليدين؟ لا أعرف الرقم الدقيق.”
حكّت روزالي رأسها.
“لأسبابٍ تتعلّق بالسّلامة، لا يعرف الجلّادون بعضهم البعض جيّدًا. على أيّ حال، من درّبني قال إنّ دافع الانتقام ليس أفضل وسيلة لأن أصبح جلّادةً جيّدة، ونصحني باختيار شيءٍ آخر.”
“شيء آخر مثل ماذا؟”
“مثل أن أستيقظ في الصباح لأتناول خبزًا طازجًا من مخبزٍ لذيذ، أو أن أختار النوم على سريرٍ فخم محشوٍّ بريشٍ فاخر. حتى هذه الأهداف البسيطة تُعدّ جيّدة. أمّا أنا، فقد قرّرت أن أساعد أولئك الذين عانوا مثلما عانيتُ، وأن أطارد مصّاصي الدماء الذين يؤذون الناس، بأسلوبي الأكثر فاعليّة. أي، لمساعدة أشخاصٍ مثلِكِ يا هايزل. هذه هي قصّتي.”
انحنت روزالي قليلًا حتى تتساوى عيناها بعيني هيزل.
“وماذا عنكِ، هايزل؟ ما الذي تظنّين أنّكِ تستطيعين فعله؟ سأقوم بالانتقام نيابةً عنكِ.”
“أممم… أنا… قلتُ إنّي سأعمل مساعدةً في المخبز الذي كانت أختي تعملُ فيه، سأقومُ بالأعمال البسيطة، مثل التنظيف، أو نقل الخبز…آه أستطيعُ فعل ذلك.”
“وماذا أيضًا؟”
احمرّ وجه هايزل.
“سـ… سيكون من الرائع لو أمكنني أن أصبح شخصًا قويًّا مثلكِ أختي روزالي.”
“آه، هاها، أشعر بالإحراج. لستُ بتلك القوّة التي تتخيّلينها.”
كان ذلك اليوم مشمسًا على غير العادة في لندن، ولهذا كان نهر التايمز يعجّ بالمتنزّهين.
أما هايزل، فقد جلست وقد ضمّت كاحليها معًا، تنظر إلى التايمز بوجهٍ أكثر ارتياحًا من ذي قبل.
“الشمس توشك على المغيب. حان وقت العودة إلى المنزل.”
رافقت روزالي هيزل حتى منزلها.
وعندما وصلتا، أسرعت هايزل إلى خزانة الغرفة الصغيرة تفتحها و أخرجت فناجين الشاي قائلة إنّه من عادات آنيتا أن تُقدَّم الشاي للضيوف.
ثمّ شرعت في الحديث المتواصل عمّا حدث معها في المخبز اليوم وأمس.
أنصتت لها روزالي بلطف، بينما أخذ غيل يتفقّد الداخل الصغير للغرفة.
وعند مغادرتهم لمنزل هايزل، كانت أشعّة الغروب قد غمرت الزقاق الضيّق بأكمله.
“أ-أختي روزالي، سأبذلُ جهدي…”
قالتها هايزل بتردّد عند الباب.
“لن أظلّ أبكي على حظّي العاثر، بل سأحاول أن أفعل ما أستطيع فعله.”
مدّت روزالي يدها بلطف وجذبت خدّ هايزل الممتلئ قليلًا مداعبةً.
“في المستقبل، ستكتشفين أنّكِ أقوى بكثير ممّا كنتِ تعتقدين هذا وعدٌ مني.”
***
لم تنبس روزالي بكلمة أثناء سيرها في الزقاق الذي غمره الشفق، بعد أن افترقت عن هايزل.
وبعد قليل، وصلت مع غيل إلى مركز شرطة شارع ‘ريفرسايد’.
هناك التقت بالشرطي راينولد العائد من جولته.
كان ينظر إلى نهر التايمز المتوهّج بحمرة الغروب حين تحدث.
“الشمس تغيب.”
“أجل، تغيب الآن.”
أجابت روزالي.
كان اللون القرمزي الذي زيّن التايمز يرسم ذيلًا طويلًا ثمّ يتلاشى.
وقد لفّ الصمت الأزرق العالم من حولهم.
فمرّ بهم عامل الإضاءة، وقد أتمّ إشعال مصابيح الغاز أبكر من المعتاد، حاملاً سلّمًا على كتفه وعصًا طويلة لإشعال المصابيح، ملوّحًا لهم بالتحيّة. فلوّح له كلّ من روزالي والشرطي راينولد بدورهما.
كان ذلك وقت تجوال صيّادي الليل.
نزع غيل قبعته ونظّاراته الواقية، بعدما أخفى وجهه طوال الوقت.
وفي العتمة، تلألأت عيناه البنفسجيّتان.
فقال الشرطي راينولد وهو ينظر إليه:
“لا أُصدّق أنّه لم يتبقَّ سوى فردٌ واحد من سلالة ‘سونا آمور’، كما حدث لعائلة إيفنهارت… كيف وصلت الأمور إلى هذا الحدّ؟”
“ربّما لأنّهم ظلّوا يطاردون مصّاصي الدماء لفترةٍ طويلة، قد جلب ذلك لهم الأحقاد. ومع ذلك، فإنّ الجلّادين حالهم أفضل نسبيًّا. فعلى الأقلّ، لا يكرههم البشر.”
“باستثناء العنصريّين، طبعًا.”
قالها الشرطي راينولد بنبرة ذات مغزى، فضحكت روزالي.
“أجل، باستثناء العنصريّين.”
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
Chapters
Comments
- 3 - جلّادة مصّاصي الدماء على ضفاف نهر التايمز (3) 2025-08-08
- 2 - جلّادة مصّاصي الدماء على ضفاف نهر التايمز (2) 2025-08-08
- 1 - 1. جلاّدة مصّاصي الدّماء قرب نهر التايمز (1) 2025-08-03
التعليقات لهذا الفصل " 2"