في اليوم التالي، اقتادت الشرطة المُرسَلة من كارديف ميخائيل مُقيَّدًا بالأصفاد.
وقبل أن يصعد إلى سيارة الترحيل، التقى روزالي للمرة الأخيرة.
كان لزامًا على روزالي أن تلتقيه، بوصفها جلّادة لأجل كتابة التقرير.
كان من المهمّ توثيق ما جرى، إذ لم يكن يُمكن إجراء تشريح لجثث مصاصي الدماء، ولا حتى العثور على أثرٍ لهم بعد موتهم، خلافًا للبشر.
ولهذا، فإنّ المبدأ هو أن يُدوِّن الجلّاد، بصفته الشاهد الأوّل، كلّ ما يتعلق بموت مصاص الدماء.
“الإجراء هذا شكليّ، لكن هل يُمكنك أن تُخبرني ما الذي حدث؟”
في البداية، لم يبدو أن ميخائيل ينوي الكلام، لكنّه ما لبث أن فتح فمه وأجاب عن أسئلة روزالي بإخلاص.
بدأ من الوقت الذي تُرك فيه أمام كاتدرائية ترينيتي.
أو، على وجه الدقّة، من أقدم ذكرى يستطيع تذكُّرها.
“أنا وأختي، وقد كنّا يتيمين، تُركنا أمام كاتدرائية ترينيتي. الراهب الذي كان هناك أخذنا وربّانا.”
“هل هو الراهب الذي أدار المكان قبل أن تأتي أنت؟”
“نعم، كان سلفي هنا. لكن، لكن! ذلك الوغد كان شيطانًا في ثوب رجل دين!”
قال ميخائيل ذلك وهو يضغط على أسنانه غضبًا. وضرب الطاولة بقبضته المُكبّلة.
لكنّه هدأ سريعًا، وكأنّه أدرك أنّه لا يختلف كثيرًا عن ذاك الراهب الآن.
“تابع، هل كان يسيء معاملتكما؟”
“أتسأل إن كان يكتفي بالإساءة؟”سخر بمرارة.
“لكان الموت على يد مصّاص دماء أهون من العيش مع شيطانٍ يرتدي الثوب الكهنوتي.”
“ما الذي فعله بالضبط؟”
أبى ميخائيل أن يُفصح عن جرائم الراهب حتى النهاية، متمسكًا بالصمت.
“…إذًا ومتى علمتَ أن هايداد بلاد لورد، ما زال حيًّا؟”
“كنتُ صغيرًا، فكنتُ أهرب إلى الكاتدرائية لأصلّي هناك. وعندها بدأت أعرف أنّ في قبو الكاتدرائية يرقد مصّاص دماء. وبكلّ سذاجة الطفولة، طلبتُ من مصّاص الدماء أن يأخذ روح ذلك الوحش المجنون. وبعد فترة قصيرة، عُثر على جثّة الراهب ممزّقة بوحشية عند أطراف الغابة.”
“أتقصد أنّ بلاد لورد استجاب لطلبك؟”
هزّ ميخائيل كتفيه.
“أهل القرية ظنّوا أنّ وحشًا من الجبال فعل ذلك. لم تكن هناك مصابيح غاز، ولا أسوار كما هي اليوم.”
“وأنت؟ ما الذي كنتَ تظنه؟”
“ظننتُ أنّ طلبي استُجيب له. كنتُ طفلًل لا يعرف شيئًا، لا يرى أكثر من أنّ معجزةً قد وقعت، فركضتُ إلى القبو وأنا أسرد ما حصل كأنّي أعترف به. وفي ذلك اليوم… عضّ بلاد لورد أختي.”
وحين بلغ هذا الحدّ، بدا وكأنّ ذكريات الرعب طغت عليه، فصمت طويلًا.
“وماذا حصل بعد ذلك؟”
“……لم يُصدّقني أحد. لم يكن أحد يُريد أن يُصدّق أنّ أختي، الفاقدة لعقلها، تعرّضت لعضّة مصّاص دماء.”
كان صوته قد هبط إلى حضيض الألم.
“كان ذلك بسبب خرافة نشأت في بلدةٍ يعتقد أهلها أنّ كاتدرائية ريك هانت تقيهم من كلّ مصّاص دماء.”
ثمّ ضحك بسخرية، “أطفال بلا أبوين، متروكون في الشوارع، من سيأبه لما يقولونه؟ هذه بلدة نائية تُخفي جرائم البشر، فكيف بحديث صبيّ؟”
“وماذا عن السيّد توماس؟ ما الذي جرى معه؟”
“لقد تغيّر هذا الرجلُ كثيرًا. منذ ثلاثة عشر عامًا، كان إذا قرعنا باب النزل، أنا وأختي، ونحن نتضوّر جوعًا، ركلنا وبصق في وجوهنا. لكن بعد أن فقد زوجته، ثمّ ابنته الكبرى، صار أكثر هدوءًا ولينًا مع الأطفال. على ذمّة ما أعرف، ابنته الصغرى تتابع دراستها جيّدًا في كارديف.”
“وماذا حدث لزوجته؟”
“كان انتقامًا… تصرّف طفلٍ في قلبه حقد. كانت أولى قرابيني. آه، لكن ابنته الكبرى ماتت فعلًا بسبب المرض، لم أكن أنا السبب. كنتُ أرى المصائب تنزل على ذلك الوغد فأشعر بنشوة. لكن… أرجوكِ، صدّقيني، لم أكن هكذا من البداية. كنتُ مُهمَّشًا، مسحوقًا في قاع المجتمع…”
ثم توقّف عن الكلام فتولّت روزالي إتمام الحديث.
“لكن تلك الظروف لا تُبرّر ما فعلته. لقد ساعدتَ في القتل، وهذا بحدّ ذاته جريمة. حتى لو كانت شقيقتك على قيد الحياة، فإنّ قتل الآخرين لأجل إنقاذها ليس تضحيات، بل سلبٌ للحياة.”
“كنتُ… فقط أبحث عن تبرير. ولم أكن في البداية… لم أكن أنوي…”
“على الأقل، لا ترتدِ ثوب الراهب وأنت تقول ذلك.”
“هاه هذا مثيرٌ للسخرية… لم أدرِ إلا وأنا قد صرتُ هذا الشخص.”
ظلّت روزالي تنظر إليه بصمت، ثم سألت: “من الذي أعطاك المعلومات عن مصّاصي الدماء؟ من الذي أخبرك أنّ عليك تقديم قرابين لإنقاذ أختك؟”
“سمعتُ ذلك من بلاد لورد نفسه، في اليوم الذي عضّ فيه أختي.”
“هل أنت متأكد أنّه هو؟”
فكر قليلًا، ثم أجاب بعد لحظة.
“في البداية سمعتُ الصوت في الغابة، ثمّ في الكاتدرائية. كان الصوت نفسه تقريبًا. قال لي إنّ عليه أن يُعيد تكوين قلبه، ولهذا يحتاج إلى ثلاث قرابين حيّة.”
“ولماذا لم تتواصل مع فرع الإعدام في كانتربري؟”
“لا أعلم… حين أخبرتُ الناس في البداية، لم يصدقني أحد.”
لم يُبلَّغ رسميًّا عن شيء. وهو أمر معتاد في القرى التي تفتقر إلى النظام.
“لكن، لماذا لم تتّصل بعد أن أصبحتَ راهبًا؟ بصفة كاهن، لم يكن من الصعب عليكَ أن تأخذ أختكَ إلى فرع الإعدام.”
“أتُريدين منّي أن أُقدِّم رقبة أختي بيدي؟”
“يبدو أنّ هناك سوء فهم، فنحن لا نُعدِم كلّ مصّاص دماء.”
“…لم أستطع مغادرة ويلز لمدّة طويلة. لقد هدّد بقتل أختي إن فعلت.”
“وماذا حدث مع آبيغيل؟”
“آه في ذلك الوقت، لم أكن أعلم أنّ تقديم طفلٍ واحد لا يكفي.”
نظرت روزالي مطوّلًا إلى ميخائيل المنحني الرأس.
ولم يغب عن خاطرها مشهد الفتاة الصغيرة التي قيل إنّها ضلّت طريقها وهي تبحث عن أمّها في الغابة فسقطت، ثم مشهد ميخائيل وهو يعثر عليها تنزف وتلفظ أنفاسها الأخيرة أمامه.
أكمل الكاتب المكلّف بالتدوين تقريره بخطٍّ أنيق، ثمّ وضعه في ملفّ الأوراق.
“شكرًا لتعاونكَ الصادق في الاستجواب، يا سيّد ميخائيل. مصيرك سيُقرَّر في فرع الإعدام في كانتربري.
حتى وإن لم تقتل أحدًا بنفسك، فإنّ تغاضيك عن القتل لا يمكن تجاهله.”
وقفت روزالي عن مقعدها، ثمّ توقّفت لحظة وسألته: “سؤالٌ أخير، على مستوى شخصيّ… لكن، ألستَ في الحقيقة كنتَ تعلم؟ أعني أنّ أختك قد ماتت. من خلال مراقبتك لها عن قرب، أعتقد أنّ التغيّرات لم تكن من النوع الذي يصعب ملاحظته.”
“هل تُلمّحين إلى أنّني تجاهلتُ الأمر عمدًا؟”
قالها ميخائيل، ثمّ سكت.
ما تعرفه روزالي عن “القونصوك” (التابع أو الخادم لمصّاص الدماء) يقتصر على ما ورد في الوثائق والمراجع.
لكن بحسب ما هو مكتوب، فإنّ ردّة فعل أقاربهم كانت متشابهة دائمًا، لا سيّما عندما يتحوّلون إلى جثث حيّة تسير بين الناس… كما هو حال ميخائيل الآن.
“لو اعترفتُ بذلك، لأصبحتُ بائسًا أكثر ممّا أنا عليه الآن.”
تلك كانت آخر كلمات ميخائيل.
وانتهى بذلك الاستجواب.
***
قيل إنّ ميخائيل سيُنقل إلى كارديف. وأُخبِرَت روزالي بأنّ بِن في حالة مستقرّة ولا خطر على حياته.
أما السيّد توماس، فرغم جراحه العميقة، فقد جاء ليرى ميخائيل قبل نقله.
و كان كلاهما قد تبادل النظرات، لكنّهما لم يتحدّثا.
وسط همسات سكّان القرية، خرج أطفال الميتم يزاحمون الحشود.
كانوا بملامح بريئة، يجهلون ما جرى بالضبط، ولوّحوا لميخائيل مودّعين ببراءة.
فابتسم ابتسامة خفيفة، ثمّ اختفت تلك الابتسامة عن وجهه.
نظرت روزالي إلى مركبة الترحيل وهي تغادر، وتنهدت بصوت خافت.
“أعتقد أنّ الحرب ضدّ مصّاصي الدماء كانت فظيعة بحقّ… مجرّد عضة واحدة تجعلك واحدًا منهم.”
“لا خلاف في ذلك.”
“ألا يوجد حقًّا أيّ وسيلة لإعادة من أصبح مصّاص دماء إلى حالته البشريّة؟”
“لأنّهم لم يعثروا على طريقة، جرى اصطياد كلّ أولئك الذين تحوّلوا إلى أتباع مصّاصي الدماء أو قُتلوا.
وحدهم القليل حالفهم الحظّ ونجوا.”
“مجرّد التفكير بعدد الضحايا الذي سبّبه هايداد يجعل جسدي يقشعرّ… والأسوأ أنّه بقي حيًّا بهذه الصورة طوال أربعمئة عام.”
“سمعت عن طقوس تعيد إحياء الجسد مقابل تقديم حياة بشريّة بدلًا من الدم… لكن رؤيتها بأمّ عيني، أمر آخر تمامًا. في النهاية، نحنُ مصّاصي الدماء مغتصبون… نغتصب الحياة ونسرقها…”
قانون حظر تحويل البشر إلى مصّاصي دماء لم يُسنّ إلا لراحة البشر أنفسهم.
“ربّما كان علينا أن نُبقي هايداد حيًّا قليلًا، ونسأله أكثر.”
“حتى لو عرف، ما كان ليُخبرنا. وربّما كنّا سنُقتل لو فعلنا.”
“كم هو مزعج أن نُجرّ إلى أمر كهذا بعد مهمّة فاشلة…”
“لكن لم نخرج خاليي الوفاض تمامًا. سنقدّم تقريرًا في الاجتماع القادم، كما أنّنا حصلنا على هذا أيضًا.”
رفع غيل رمح “ريك هانت”.
“ربّما يجب أن نُعيده إلى أحد أفراد عائلة هانت.”
“بما أنّ هذا السلاح كان السبب في بقاء هايداد حيًّا، قد لا يُسرّون بذلك.”
“ما باليد حيلة. لم تكن هناك أسلحة فضيّة متطوّرة في ذلك الزمن، ولا حتى رماحٌ بشكل صليب.”
“ثلاث قضايا تواطؤ في القتل، ومحاولتا قتل… يبدو أنّ الحكم سيكون ثقيلًا… ما الذي كان يحدث مع المتعاونين مع مصّاصي الدماء في السابق؟”
“كانوا يُعدَمون. سمعتُ ذلك… أولئك الذين قدّموا القرابين، كانوا يُقتَلون مع مصّاص الدماء.”
“حتى وإن كانوا مهدَّدين أو خُدعوا؟”
“نعم، لأنّه لو لم يُفعل ذلك، لَقَتَلهم أهالي الضحايا الآخرين بوحشيّة.”
“هل شعروا بالظلم؟”
“أظنّهم لم يشعروا بشيء… كما أشعر أنا الآن.”
تمتم غيل: “لو اختفى كلّ مصّاصي الدماء، لاختفى كلّ هذا الألم و لَأنتهت كلّ المآسي.”
“هاييي اتفقنا أن لا نقول شيئًا كهذا.”
بعد إنهاء التقرير المُرسل إلى فرع الإعدام، والانتهاء من تقديم الشهادة للشرطة في كارديف، كانت روزالي منهكة بحقّ.
“أوه… ماذا سنفعل بشأن الأضرار الماديّة؟”
الطابق العلوي من كاتدرائيّة ترينيتي قد انهار، وأصبح مائلًا تمامًا.
حتّى تمثال ريك هانت قد سقط بسبب الميلان.
شعرت روزالي ببعض الحزن على راتبها، الذي سيُخصم منه مبلغ كبير لتغطية الأضرار.
لحسن الحظّ أنّ مصّاص الدماء قُبِض عليه. وإلا، لكان سكّان القرية قد صبّوا جام غضبهم عليها لتخريب مبنى تاريخي.
بمجرّد تخيّل ذلك، شعرت روزالي بقشعريرة.
الآن، لم يتبقّ شيء في قبو الكاتدرائيّة. في المكان الذي مات فيه هايداد، لم يتبقَّ سوى كومة من الرماد.
وقد سقط ضوء الشمس على تمثال السيّدة المقدس وهي تبتسم بوداعة.
“غيل، لنذهب. القطار المتّجه إلى إدنبرة سيصل قريبًا.”
“حسنًا.”
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 10"