“توقف.”
ارتجفَ كارل قليلًا عندَ سماعِ صوتِ ليليث الباردِ.
“لا أريدُ سماعَ مثلِ هذا الكلامِ.”
كانت ردةَ فعلٍ مبالغًا فيها بوضوحٍ.
لكن، أيُّ امرأةٍ لن تكونَ كذلكَ؟
إنهُ يتعلقُ بمسألةِ خطيبها السابقِ المفقودِ.
فهمَ كارل قلبَ صديقتهِ،
فتّقبلَ حدةَ موقفها برحابةِ صدرٍ.
قبلَ كلِّ شيءٍ، لم تكن تخميناتهُ مؤكدةً،
لذا بدا ردُّ فعلها منطقيًا من وجهةِ نظرٍ ما.
وهذا مفهومٌ، لأنهُ إذا كانت تخميناتهُ صحيحةً،
فهذا يعني أنَّ اختفاءَ كاليكس يحملُ حادثةً ما.
وإذا كانت هناك حادثة،
فلن يكونَ شيئًا جيدًا بالتأكيدِ،
ومن ثمَّ لن يكونَ كلامًا مرحبًا بهِ من وجهةِ نظرِ ليليث.
“حسنًا. أعتذرُ. هذا خطأي.”
تحدثَ كارل إلى ليليث بنبرةٍ تهدئةٍ.
حافظت ليليث على وجهٍ خالٍ من التعبيرِ،
لكنها بدت شاحبةً بعضَ الشيءِ.
حدقت في نقطةٍ ما في الفضاءِ ثمَّ فتحت فمها.
“…كفى. لننهِ هذا الحديثَ.”
شعرت ليليث بألمٍ في رأسها فعبست و ضغطت على صدغيها بقوةٍ.
“لم آتِ إليكَ من أجلِ الخاتمِ. بل لأمرٍ آخرَ.”
“ماذا؟”
تظاهرَ كارل بالدهشةِ.
“ظننتُ أنكِ جئتِ لأطلبَ مني استنتاجاتٍ حولَ الخاتمِ.”
بالطبعِ، لو تمكنت منَ الفوزِ بالرهانِ عبرَ كارل،
لكانَ ذلكَ جيدًا، لكنها لم تكن تعتمدُ على ذلكَ منَ البدايةِ.
قبلَ كلِّ شيءٍ،
لم تكن ليليث مستعدةً بعدُ لمواجهةِ اختفاءِ كاليكس.
لذا، لم تكن ترغبُ في تعمقِ هذا الموضوعِ أكثرَ.
“لدي طلبٌ آخرُ. لنعقدْ صفقةً، كارل.”
استعادت ليليث إيقاعها المعتادَ واقترحت بنبرةٍ هادئةٍ. أمامَ نبرتها الحاسمةِ، هزَّ كارل كتفيهِ.
“صفقةٌ؟ جيدٌ. ما الذي تريدينَ مني أن أفعلهُ؟”
أخرجت ليليث شيئًا من حقيبتها ومدتهُ إلى كارل.
“ما هذا…؟”
تناولهُ كارل دونَ تفكيرٍ وأمالَ رأسهُ.
ثمَّ أدركَ فجأةً ماهيةَ ما في يدهِ فارتاع.
“ما هذا؟ لماذا تعطينني إياهُ؟”
ما تلقاهُ كانَ خنجرًا مرصعًا بالجواهرِ،
أحدَ كنوزِ عائلةِ الدوقِ.
بدا ليليث وكأنها غيرُ مباليةٍ تمامًا رغمَ أنها سلمت كنزَ عائلتها إلى شخصٍ آخرَ.
“ألم تقل من قبلُ إنكَ تريدُ فحصهُ؟
قلتَ إنهُ من عصرِ قديم وأنكَ مهتمٌ بهِ.
لذا أنا أحققُ رغبتكَ.”
“حتى لو كانَ كذلكَ، هذا…”
نظرَ كارل إلى الخنجرِ بحيرةٍ وهوَ يقلبهُ بينَ يديهِ.
بدا خائفًا من أن يتسببَ في خدشهِ حتى.
لكن ليليث لم تبدُ معنيةً بذلكَ على الإطلاقِ.
“سأعطيكَ إياهُ لمدةِ سنةٍ.
العب بهِ جيدًا وأعدهُ لي خلالَ تلكَ المدةِ.”
بالطبعِ، حتى بالنسبةِ لليليث،
لم يكن تسليمُ كنزِ العائلةِ -ولو على سبيلِ الإعارةِ-
أمرًا تافهًا تمامًا.
لكن كارل كان رجلًا يتحركُ بدافعِ الفضولِ.
كانَ عليها أن تقدمَ شيئًا كهذا لتحفزهُ على الحركةِ.
لذا تخلت ليليث عن أيَّ ترددٍ فورًا.
“على أيِّ حالٍ. سأدخلُ في صلبِ الموضوعِ.”
عندَ ذلكَ الكلامِ، رفعَ كارل ،الذي كانَ مرتبكًا،
عينيهِ عنِ الخنجرِ ونظرَ إليها.
ترددَ صوتُ ليليث المتعجرفُ في المكانِ.
“أريدُ منكَ التحقيقَ في خلفيةِ زينون ماير.
اجمع المعلوماتِ بنفسكَ.”
عبسَ كارل.
“ماذا قلتِ؟”
كانَ نبرتهُ تعبرُ عن الذهولِ.
وكانَ ذلكَ متوقعًا،
فحتى لو بدا كشخصٍ متسكعٍ، فهوَ نبيلٌ.
لم يكن من نوعِ الأشخاصِ الذينَ يتجسسونَ على الآخرينَ. لكن ليليث لم تهتم بردةِ فعلهِ أبدًا.
“أحتاجُ إلى شخصٍ موثوقٍ.
لو كانَ جنديًا عاديًا في فرقةِ التطهيرِ،
لأرسلتُ أيَّ أحدٍ، لكن زينون كانَ فارسًا ممثلًا لعائلتنا.
لذا، من يعرفونَ عن زينون سيكونونَ من رتبِ القادةِ. ولا يمكنُ الوصولُ إلى هؤلاءِ إلا بشخصٍ ذي مكانةٍ مرموقةٍ.”
بالطبعِ، لم يكن الأمرُ مستحيلًا تمامًا بطرقٍ أخرى،
لكن كانَ منَ الواضحِ أنَّ كارل هوَ الخيارُ الأمثلُ.
“على أيِّ حالٍ، كنتَ مهتمًا بفرقةِ التطهيرِ أصلًا، أليسَ كذلكَ؟ بينما تلتقي بهمْ، يمكنكَ جمعُ معلوماتٍ عن زينون ماير أيضًا. أمرٌ بسيطٌ.”
أصدرَ كارل همهمةً خافتةً،
لأنَّ كلامها كانَ صحيحًا.
“…حتى لو كانَ كذلكَ.”
لما رأت ليليث ترددهُ الواضحَ، سددت الضربةَ الحاسمةَ.
“إنهُ الرجلُ الذي سأتزوجهُ.
أليسَ منَ الطبيعيِّ أن أعرفَ عنهُ، أم أنَّ ذلكَ خطأٌ؟”
عندَ ذلكَ الكلامِ، أومأَ كارل برأسهِ أخيرًا.
“حسنًا، حسنًا فهمتُ. سأفعلُ ذلكَ.”
كانت تلك النتيجةَ المتوقعةَ.
كانَ كلٌّ من كارل وليليث يعرفانِ بعضهما جيدًا بفضلِ السنواتِ الطويلةِ التي قضياها معًا.
لذا توقعت أنهُ سيقتنعُ بمثلِ هذا الكلامِ.
ابتسمت ليليث ساخرةً ورفعت زاويةَ فمها.
“إذًا، ما الذي يثيرُ فضولكِ؟”
بعدَ أن وضعَ الخنجرَ بعنايةٍ،
تمتمَ كارل بسؤالٍ.
أجابت ليليث باختصارٍ: “كلُّ شيءٍ.”
“ماذا؟”
رفعَ كارل صوتهُ بدهشةٍ.
“ما هذا الكلامُ!”
بالطبعِ، لم تهتم ليليث بذلكَ.
أجابت فقط بنبرةٍ تعبرُ عن المللِ.
“كلُّ شيءٍ. أيُّ شيءٍ يناسبكَ.
كيفَ عاشَ زينون هناكَ. هل حدثَ شيءٌ خاصٌّ.
نقاطُ ضعفٍ محتملةٍ أو مشاكلُ معَ النساءِ.
كلما زادتِ المعلوماتُ، كانَ أفضلَ.”
كانَ من اختصاصِ ليليث أن تحددَ ما إذا كانتِ المعلوماتُ التي يجمعها كارل مفيدةً أم لا.
فكرت في ذلكَ وهيَ تعيدُ مراجعةَ خطتها في ذهنها.
كانت تثقُ بعقلِ كارل اللامعِ،
لكنها لم تكن تريدُ منه أن يستخدمَ ذلكَ العقلَ في مشاكلها الخاصةِ.
“وهناكَ شيءٌ آخرُ.”
“آخرُ؟”
“انشر شائعةً عني.”
زادَ عدمُ فهمِ كارل.
“شائعةٌ؟ أيُّ نوعٍ؟”
قالت ليليث دونَ أن يتغيرَ تعبيرُ وجهها.
“أنني لم أنسَ كاليكس
وأنني أحضرتُ رجلًا يشبههُ سرًا إلى منزلي.”
ارتعب كارل عندَ ذلكَ.
“ماذا قلتِ؟ رجلٌ للمتعةِ؟”
كلما سمعَ أكثر، زادَ ذهولهُ.
أن تلوثَ سمعتها بنفسها بينما ينبغي أن تسعى لرفعِ شأنها، كانَ أمرًا لا يمكنُ فهمهُ حتى لو كانت ليليث.
حاولَ كارل منعها بسرعةٍ.
“ما هذا الجنونُ الذي تقولينهُ؟ حتى لو كنتِ أنتِ،
مثلُ هذه الشائعةِ لن تكونَ بلا تأثيرٍ.
لا أعرفُ ما هوَ هدفكِ من ذلكَ، لكن…”
“لا يهمُّ.”
قاطعتْ ليليث كلامَ كارل.
“الهدفُ واحدٌ فقط. زينون ماير. يكفي أن تصلَ إلى أذنيهِ. الآخرونَ لن يصدقوا الشائعةَ على أيِّ حالٍ.”
بينَ الناسِ، كان لقبُ ليليث هي الشريرةُ
التي لا دمَ لها ولا دموعَ.
كانَ ذلكَ جزئيًا نتيجةَ تعديلٍ متعمدٍ منها.
فهيَ ستتولى قيادةَ عائلةٍ يومًا ما.
بالنسبةِ لامرأةٍ،
كانَ منَ الأفضلِ أن توصفَ بالشراسةِ بدلًا منَ اللينِ.
لذلكَ، يعرفُ الناسُ أنَّ ليليث لن تكونَ عاجزةً
عن نسيانِ خطيبها السابقِ.
لم تظهر أبدًا أيَّ علامةٍ على ذلكَ من قبلُ.
لذا، حتى لو سمعوا تلكَ الشائعةَ،
فمنَ المرجحِ أن يعتبرونها مجردَ هراءٍ.
وبما أنها شائعةٌ مرتبطةٌ بأميرٍ مفقودٍ،
فلن يجرؤوا على التفوهِ بها بسهولةٍ.
بالطبعِ، هي ليست مرتبطةً بهِ مباشرةً،
لكن لا أحدَ يريدُ استثارةَ غضبِ الإمبراطورِ بكلامٍ عبثيٍّ.
لكنْ ذلكَ الرجل…
“…إذا كنتُ على صوابٍ، فإنَّ زينون ماير سيتفاعلُ بالتأكيدِ. أريدُ فقط التأكدَ من ذلكَ.”
أمامَ ذلكَ الكلامِ الحازمِ،
أومأَ كارل برأسهِ على مضضٍ.
“حسنًا. إذا كانَ الأمرُ كذلكَ، سأحرصُ على ألا تنتشرَ الشائعةُ كثيرًا. يكفي أنْ تصلَ إلى أذني السير زينون.”
أرادت ليليث أن تقولَ إنهُ لا داعي لذلكَ،
لكنها اكتفت بقولِ “حسنًا” من بابِ الكسلِ.
“جيدٌ. انتهى كلامي. هل لديكَ المزيدُ منَ الأسئلةِ؟”
هزَّ كارل رأسهُ. ثمَّ، كأنما تذكرَ شيئًا فجأةً، فتحَ فمهُ.
“ليليث.”
“ماذا؟”
ترددَ كارل قليلًا قبلَ أن يكمل.
“هل تحاولينَ استفزازَ السيرِ زينون للتأكدِ مما إذا كانَ يكنُّ لكِ مشاعرَ حقًا؟”
لم تجبْ ليليث. لكن من عبوسِ حاجبيها الخفيفِ الذي يعبرُ عن الانزعاجِ،
شعرَ كارل وكأنهُ عرفَ الجوابَ نوعًا ما.
“ليسَ لديكَ المزيدُ منَ الأسئلةِ،
أليسَ كذلكَ؟ إذًا سأذهبُ.”
لم تلتفت ليليث إلى كلامهِ وتحركتْ دونَ ترددٍ.
بدت وكأنها انتهت من جميعِ أعمالها تمامًا.
نظرَ كارل إلى ظهرها بصمتٍ وهيَ تبتعدُ، ثمَّ ناداها.
“ليليث!”
توقفت للحظةٍ عندَ سماعِ صوتهِ.
صرخَ كارل وهوَ ينظرُ إلى ظهرها:
“أنتِ حقًا شخصٌ سيءٌ!”
أجابت ليليث دونَ أدنى ترددٍ.
“أعرفُ ذلكَ.”
استأنفت ليليث سيرها.
هذه المرةَ، لم تتوقف مهما سمعت من كلامٍ خلفها.
التعليقات لهذا الفصل " 19"