بينما كانت ليليث تتجولُ في الممرِ، فكرت.
بصراحةٍ،
فإنَّ احتمالَ فوزها في هذا الرهانِ يكادُ يكونُ معدومًا.
الشخصُ الذي يعرفُ الجوابَ هوَ زينون أو كاليكس.
أحدهما مفقودُ،
لذا فإنَّ الوحيدَ الذي يمكنُ سؤالهُ هوَ زينون.
لكن بما أنهُ هوَ من اقترحَ الرهانَ على ليليث،
فمنَ المستحيلِ أن يكشفَ الجوابَ بسهولةٍ.
وبالتالي، فإنَّ نهايةَ هذا الرهانِ تبدو محددةً سلفًا.
بالطبعِ،
قالَ زينون إنَّ الأمرَ يتعلقُ بأن تتذكرَ ليليث بنفسها.
لكنها لم تصدق كلامهُ.
لو كانت الأمرُ بهذه البساطةِ،
فلماذا يتكبدُ كلَّ هذا العناءِ ويمرُّ بهذه العمليةِ المعقدةِ؟
زينون ليسَ من الأشخاصِ الذينَ يقومونَ بأمورٍ
“غيرِ ضروريةٍ” أو “بلا قيمةٍ”.
كانت ليليث متأكدةً أنَّ هناكَ نيةً مخفيةً وراءَ كلِّ هذا.
على سبيلِ المثالِ، ربما كانَ الأمرُ -خلافاً لما قالهُ زينون- حدثاً معقداً يصعبُ تذكرهُ. أو ربما…
‘حتى لو اكتشفتُ الحقيقةَ، قد لا أستطيعَ الكشفَ عنها.’
وحتى لو فازت بأعجوبةٍ، فلن تحصلَ على الكثيرِ.
في حالِ فوزها بالرهانِ، كلُّ ما ستحصلُ عليهِ هوَ “إجاباتُ زينون على جميعِ أسئلتها”.
بعبارةٍ أخرى، لا شيءَ يُذكرُ سوى ذلكَ.
لن تستطيعَ منعَ زواجها -فمنَ المحتملِ أن يكونَ الإمبراطورُ قد قررَ بالفعلِ إجبارَ ليليث على الزواجِ.
ولا يمكنها الانتقامُ من زينون أيضاً.
من أيِّ زاويةٍ نظرت،
كانَ هذا الرهانُ خسارةً خالصةً بالنسبةِ لها.
ومعَ ذلكَ، قبلت ليليث هذا الرهانَ لأنهُ
سواء فعلت ذلكَ أم لا، لن يتغيرَ شيءٌ كثيراً.
ما دامت الأمورُ التي تستطيعُ السيطرةَ عليها قليلةً جداً في هذا الوضعِ، فمنَ الأفضلِ أن تتركَ الخصمَ يتحركُ بحريةٍ ويتمادى.
قد يتسربُ منهُ معلوماتٌ مهمةٌ أثناءَ غفلتهِ.
أغمضت ليليث عينيها ثمَّ فتحتهما بوجهٍ متصلبٍ، وأمرت الخادمَ مباشرةً بإحضارِ العربةِ.
هدفها هوَ استفزازُ زينون ماير للحصولِ على أكبرِ قدرٍ ممكنٍ منَ المعلوماتِ.
ولهذا، كانت تنوي استخدامَ بعضِ الحيلِ الخفيفةِ.
“ما هي وجهتكِ؟”
عندَ سؤالِ الخادمِ، أجابت ليليث بنبرةٍ غيرِ مباليةٍ:
“هيلوس، الشارعُ الثالثُ.”
تغيرت ملامحُ الخادمِ.
“هناكَ…”
لكن ليليث لم تلتفت إلى وجههِ حتى، بل أشارت بذقنها.
كانَ ذلكَ يعني أن ينفذَ أمرها فوراً.
أمامَ موقفها الحازمِ، أغلقَ الخادمُ فمهُ بإحكامٍ وتحركَ.
نظرت ليليث إلى ظهرهِ وهوَ يبتعدُ بعينينِ حادتينِ تلتمعانِ بشراسةٍ.
* * *
اتجهتِ العربةُ تدريجياً نحوَ مكانٍ أقلَّ ازدحاماً بالناسِ.
“لقد مرت فترةٌ طويلة.”
تمتمت ليليث بتعليقٍ عابرٍ وهيَ تنظرُ منَ النافذةِ.
لم تتخيل أبداً أن تعودَ إلى مكانٍ قذرٍ كهذا.
كانت تعتقدُ أنَّ تلكَ المرةَ السابقةَ كانت الأخيرةَ حقاً…
في الواقعِ، لولا تداخلُ بعضِ الصدفِ هذه المرةَ،
لما جاءت إلى هنا أبداً.
لكن بما أنها عادت الآنَ، فهذا أمرٌ مؤسفٌ حقاً.
ضيقت ليليث حاجبيها من الضيقِ وأبعدت نظرها عنِ النافذةِ. لم تطق النظرَ أكثرَ.
أغمضت عينيها بهدوءٍ وانتظرت، فلم تمضِ لحظاتٌ حتى بدأتِ العربةُ تتباطأُ تدريجياً. ثمَّ…
“لقد وصلنا.”
عندَ كلامِ السائقِ،
رفعت ليليث القناعَ الذي وضعتهُ بجانبها بهدوءٍ.
حانَ وقتُ الذهابِ فعلاً.
لم تكن هناكَ مرافقةٌ أو خادمةٌ تتبعُ الآنسةَ النبيلةَ كالمعتادِ.
بالطبعِ، ربما كانَ هناكَ حارسٌ يحميها سراً من بعيدٍ، لكنها أبعدتهُ عن مرمى بصرها على الأقلِّ.
كانَ ذلكَ لتجنبِ جذبِ الانتباهِ غيرِ الضروريِّ.
ارتدت ليليث القناعَ، نظرت حولَ الشارعِ مرةً واحدةً،
ثمَّ اتجهت مباشرةً نحوَ مبنى معينٍ.
عندما وصلت أخيراً، كانَ هناكَ حارسُ بابٍ يقفُ عندَ المدخلِ.
“توقفي.”
أوقفَ الحارسُ ليليث.
“رسومُ الدخولِ؟”
نظرت ليليث إلى الرجلِ بنظرةٍ كأنها ترى قمامةً،
ثمَّ ألقت إليهِ كيساً.
كانَ واضحاً من نظرةٍ واحدةٍ أنهُ ثقيلٌ جداً.
“هذا، هذا…!”
بينما كانَ الحارسُ يتفاجأُ بالمبلغِ الضخمِ الذي فاقَ توقعاتهُ بكثيرٍ، مرت ليليث بجانبهِ بهدوءٍ.
لم تكن ترغبُ حتى في الحديثِ معَ حارسِ بابٍ في مكانٍ كهذا، فهوَ في نظرها دونَ مستواها.
وهكذا، المكانُ الذي دخلتهُ ليليث كانَ ما يسمى بـ”الفوضى العارمةِ”.
“تباً لهذا! هذا النردُ اللعينُ!”
ما إن دخلت حتى دوى صراخُ رجلٍ كأنهُ يمزقُ أذنيها.
“أنتَ، أنتَ، أيها النصابُ!
لابدَّ أنكَ لعبتَ حيلةً ما، أيها الوغدُ!”
“ماذا تقصد؟ هذا مجردُ حظٍّ وقفَ إلى جانبي،
هذا كلُّ شيءٍ!”
“أعد خلطَ الأوراقِ. يبدو أنَّ هذه الجولةَ لم تكن عادلةً تماماً. يجبُ أن نستمرَ حتى نحددَ الفائزَ بدقةٍ.”
كانَ المشهدُ الداخليُّ فوضوياً ومليئاً بالحماسِ.
أناسٌ ثملونَ بحمرةِ الخمرِ على وجوههم و دخانُ السجائرِ الكثيفُ يعكرُ الرؤيةَ ويخنقُ الأنفاسَ.
أنواعٌ مختلفةٌ منَ البشرِ يغرقونَ في المقامرةِ و يتفاخرونَ أو يسخرونَ من بعضهم بعضاً.
حقاً، كانَ يستحقُّ لقبَ صندوقِ القمامةِ
الذي أُطلِقَ عليهِ كملهبٍ للقمارِ.
لم يتغير شيءٌ هنا.
نظرت ليليث حولها بعينينِ باردتينِ.
آخرُ مرةٍ جاءت فيها كانت أيامَ الأكاديميةِ،
أي منذُ ما يقاربُ خمسَ سنواتٍ،
ومعَ ذلكَ كانَ المكانُ كما هوَ بشكلٍ مقززٍ.
بل ربما أصبحَ أسوأَ.
قد يكونُ ذلكَ متوقعاً، لكن ثباتهُ على حالهِ جعلها تشعرُ بالاشمئزازِ أكثرَ.
كانَ هذا أكبرَ ملهى قمارٍ سريٍّ في العاصمةِ.
النصابونَ والمحتالونَ ومدمنو القمارِ المجانينُ -أسوأُ أنواعِ البشرِ يخدعونَ بعضهم ويسرقونَ أموالَ بعضٍ-
كانَ هذا هوَ المكانُ بالضبطِ.
في الأحوالِ العاديةِ، لم تكن لتضعَ قدماً هنا أبداً.
لكن اليومَ، اضطرت ليليث إلى كبحِ انزعاجها والمجيءِ إلى هنا. لماذا؟ لأنَّ…
“يا إلهي، ذلكَ المجنونُ راهنَ بكلِّ ثروتهِ مجدداً!”
…هدفها كانَ موجوداً هنا على الأرجحِ.
التفتت ليليث نحوَ الصوتِ الذي لفتَ انتباهها بحدسها، فرأت حشداً منَ الناسِ يتجمعونَ.
من حجمِ المتفرجينَ،
يبدو أنَّ أكبرَ جولةٍ تجري هناكَ الآنَ.
على الأغلبِ… هو هناكَ.
كانَ ذلكَ تخميناً، لكنهُ قريبٌ منَ اليقينِ.
إذا كانَ ذلكَ الشخصُ،
فلا شكَّ أنهُ تسببَ في شيءٍ ما مجدداً.
بدأت ليليث تتقدمُ ببطءٍ بينَ الناسِ نحوَ الطاولةِ المركزيةِ.
بينما كانَ الجميعُ يغرقونَ في الحماسِ،
كانت هيَ الوحيدةُ التي تنظرُ إلى الموقفِ بعينينِ باردتينِ.
“سأراهن على كلُّ شيءٍ!”
صاحَ رجلٌ يرتدي قناعاً أسودَ نصفياً بجرأةٍ.
عندما هتفَ المتفرجونَ،
انحنت زاويةُ فمهِ في ابتسامةٍ واثقةٍ.
تلكَ الابتسامةُ المتعجرفةُ، وذلكَ الفكُّ المألوفُ،
جعلا ليليث تدركُ هويتهُ فوراً.
‘كارل رايمر…’
كانَ صديقها كارل بالضبطِ.
وقفت ليليث متشابكةَ الذراعينِ تراقبُ تصرفاتهُ.
كانت أقربَ إلى مجردِ مشاهدةٍ لمدى ما سيفعلهُ.
بالطبعِ، لم ينتبه كارل -المنغمسُ تماماً في القمارِ-
إلى نظراتها أبداً.
“كم جولةً مرت حتى الآنَ؟ هل هذا حقيقيٌّ؟”
“هل يعقلُ هذا؟ كيفَ يمكنُ أن يفوزَ بكلِّ الجولاتِ؟”
من كلامِ الآخرينَ، يبدو أنهُ لعبَ عدةَ جولاتٍ بالفعلِ، مراهناً بكلِّ ثروتهِ في كلِّ مرةٍ.
وإن كانَ ذلكَ لا يعني الكثيرَ، فثروتهُ الشخصيةُ -وليست ثروةَ عائلتهِ- ليست كبيرةً على أيِّ حالٍ.
لكن، كانَ هذا سلوكاً نمطياً لكارل.
نعم، كانَ كارل رايمر ذكياً جداً،
ويحبُّ التباهي بعقلهِ النشطِ بطرقٍ غيرِ ضروريةٍ.
لتوضيحِ الأمرِ أكثرَ، كانَ يستمتعُ بزيارةِ ملاعبِ القمارِ.
لكنهُ لم يكن يستمتعُ بالقمارِ بحدِّ ذاتهِ.
بالأحرى، كانَ يستمتعُ بسحقِ الآخرينَ بعقلهِ اللامعِ واستثارةِ إعجابهم.
كان هذه هوايةٌ سيئةٌ حقًا.
“أنا… لا أستطيعُ الاستمرارَ!”
صرخَ الرجلُ الجالسُ مقابلَ كارل بوجهٍ محمَّرٍ منَ الغضبِ.
“هذا أحتيال،إنه أحتيال!”
أشارَ إلى كارل بغيظٍ كأنهُ يشعرُ بالظلمِ.
لكن كارل هزَّ كتفيهِ بلا مبالاةٍ فقط.
“أحتيال؟ مستحيل.”
نعم، لم يكن احتيالًا.
إنما عقلُ كارل متفوقُ جداً فحسبُ.
“أعترفُ أنَّ مهارتي متميزةُ.
لكن احتيال؟ ما هذا الكلامُ اللا معقولُ.”
ما إن أنهى كارل كلامهُ حتى نهضَ واقتربَ منَ الرجلِ.
ثمَّ تمتمَ بنبرةٍ منخفضةٍ تهديديةٍ،”لكن للأسفِ… تتهمنني بالنصبِ؟ عندما تتهم شخصاً ما، يجبُ أن تكون مستعدًا للعواقبِ. ألا تعرف أينَ نحنُ الآنَ؟”
“ذلك، ذلك…!”
عندما بدأَ الرجلُ يتلعثمُ تحتَ ضغطِ كارل،
أصبحَ الجوُّ متوتراً أكثرَ.
في لحظةٍ، بردَ الهواءُ فجأةً،
وبدأَ الناسُ يتبادلونَ النظراتِ بحذرٍ.
ها هوَ ذلكَ الوغدُ يبدأُ مجدداً.
تنهدت ليليث. أدركت أنَّ الوقتَ قد حانَ لتتدخلَ.
يجبُ أن تنهي الأمرَ قبلَ أن يتفاقمَ.
ليسَ منَ المفيدِ أن يجذبوا الانتباهَ هنا ويتذكرَ الناسُ لقاءها معَ كارل.
لذا، كانت هي الوحيدةُ القادرةُ على حلِّ هذا الموقفِ الآنَ.
…لكن، لا مفرَّ من أن يكونَ ذلكَ مزعجاً.
في النهايةِ، عبست ليليث منَ الضيقِ ثمَّ رفعت صوتها وقالت:
“ألن تتوقفُ عندَ هذا الحدِّ؟”
توقفَ كارل فجأةً عندَ سماعِ صوتها.
التعليقات لهذا الفصل " 17"