ما إن سمعت أنجيليكا ذلك الاسم حتى أشرق وجهها على الفور. ‘ أخيرًا!.’
ها هو الخيط الذي يمكن أن يقودها إلى حقيقة ما جرى لـ«أنجيليكا» داخل الحلم يأتيها بنفسه. كانت قد أوشكت على الاستسلام بعد أن عجزت عن إيجاد أي سبيلٍ يقودها إلى الحقيقة، وها هو الدليل يطرق بابها دون عناء.
‘ لا بدّ أن يكون لديه ما يدلّني…’
فما جرى في الحلم، وما سيقع لاحقًا، لا بدّ أن يكون لهذا الرجل يد فيه.
“حقًّا؟ هيبيريون جيرفي سيأتي؟”
لم تستطع أنجيليكا إخفاء ابتسامتها وهي تسأل، مما جعل ردّة فعل سيريل مرتبكة بعض الشيء، إذ لم تكن تتوقع هذا الحماس.
“نعم… ويبدو أنّه سيأتي خصيصًا لرؤيتك.”
“أظن ذلك أيضًا.”
هزّت أنجيليكا رأسها بحماس، ثم تناولت قطعة من البسكويت. وكان طعمها حلوًا إلى درجة أنها أنستها الصداع الذي كان يطرق رأسها قبل لحظات.
راقبتها سيريل بصمت، ثم سألتها بتردّد وقد بدا القلق في عينيها:
“أنجيليكا… لا أظن ذلك، ولكن… أليس من الممكن أن يكون ما زال لديكِ مشاعر نحوه؟”
“هاه؟”
توقّفت أنجيليكا عن المضغ وقد انفرج فمها دهشة. وبالرغم من إدراكها أنّ ذلك تصرّف غير لائق، سارعت بابتلاع ما في فمها، لكن الارتباك ظلّ عالقًا في حلقها.
لوّحت بيديها على عجل.
“طبعًا لا! أبدًا! كل ما في الأمر أنني أريد التأكد من أمرٍ ما فقط.”
“أليس كذلك؟ أعني… أنتِ تحبين هيوغو كثيرًا.”
“بالطبع! لا يوجد في حياتي سواه!”
شعرت بالغيظ لأن أحدًا قد يظن غير ذلك، فهزّت رأسها بقوة تأكيدًا على نفيها.
‘ما الذي جعلها تفكر بهذا أصلًا؟’
كادت أن تعاتب سيريل، لكن قبل أن تنبس ببنت شفة، تقدّمت إيزابيل بينهما قاطعة الحديث.
“آنسة أنجيليكا، جلالته يستدعيكِ إلى المختبر.”
“آه… يبدو أن وقت الشاي انتهى إذًا.”
وهكذا، اقتيدت أنجيليكا إلى المختبر الخاص بالإمبراطور.
‘إنه يختار توقيتًا غريبًا دائمًا…’
في كل مرة، يقطع عليها لحظة مهمّة على نحو يثير الضيق. ومع هذا، ابتلعت شعورها المزعج وسارت خلف المرافقة حتى دخلت المختبر.
❈❈❈
“واو…”
كان يقع بعيدًا عن القصر الرئيسي، وقد ظنّت في البداية أنه سيكون مظلمًا وكئيبًا، لكن الداخل فاجأها بتناسق فريد بين الضوء والظل.
‘كأنني في عمق غابة…’
على الرغم من إدراكها أنه مبنى مغلق، إلا أن الإحساس كان واقعيًا إلى حد غريب.
وبينما كانت تتلفت حولها، وقعت عيناها على باب ثانٍ ففتحته.
صرير الباب المعدني الصدئ تردّد في المكان، كاشفًا عن غرفة بسيطة على غير المتوقع.
‘أوه…’
غرفة يغلب عليها الخشب بالكامل، لا تشبه أجواء القصر إطلاقًا، ومع ذلك بدت منسجمة مع الطبيعة المحيطة بها على نحو غريب.
“أوه، السيدة، وصلتِ؟”
قالها كاين دون أن يرفع نظره عمّا كان يعمل عليه.
أما أنجيليكا فلم تُعره اهتمامًا كبيرًا، بل اكتفت بردٍ مشتّت:
“نعم…”
ثم اتجهت بخطوات بطيئة نحو الرفوف المحيطة.
“يا لها من كمية هائلة من المواد!”
“عندما يكون الإمبراطور نفسه ساحرًا عظيمًا، فالأمر طبيعي.”
قالها بلا مبالاة، وكأن الأمر لا يستحق الذكر.
لم تُبدِ أنجيليكا أي تردد وهي تلمس الأدوات والمواد المختلفة، فيما ظلّ كاين منشغلًا بما بين يديه.
وبعد قليل، بدأت تركز بدورها.
‘حسنًا… أحتاج إلى جذر ميلونكا من الشمال المتجمد… وأيضًا أوراق فورولون…’
راحت تختار المكوّنات واحدًا تلو الآخر وتضعها فوق الطاولة.
وبعد فترة، لم يبقَ في الغرفة سوى صوت خطواتها الخفيفة، وأنين كاين الغامض.
‘همم… وجدت ثمار شجرة السان الجافة، بقي فقط…’
تمتمت وهي تعيد تعداد المكونات في ذهنها.
“أين قرن الوايفرن الصغير؟”
بحثت في كل زاوية، لكن دون جدوى، فعبست حاجباها.
وفي تلك اللحظة، دوّى صوت تأوّه خافت من كاين، كأن أمرًا ما قد ساء فجأة.
“آه… تبًّا، أخطأت الحساب.”
“جلالتك… ألا يوجد قرن لوايفرن صغير؟”
“ذاك؟ في هذا الوقت من السنة تستعد الوايفرنات للسبات، لذلك من الصعب الحصول عليه. هل تحتاجينه فعلًا؟”
“نعم، لا بدّ منه.”
“همم… حتى الورشة التي أتعامل معها عادةً لا أظن أنّها تملكه.”
توقّف كاين لحظة وهو يفكّر، ثم أطلق صوتًا خافتًا وكأنه تذكّر أمرًا ما.
“آه، قد يوجد في المعبد. يستخدمونه كثيرًا لمعالجة الكهنة الصغار عند إصابتهم بالحمّى، لذلك يحتفظون بكمية لا بأس بها.”
“هل… هل يمكننا الحصول عليه منهم؟”
“بالطبع.”
فكّرت أنجيليكا أنّ عليها الذهاب بنفسها، وجلست على الكرسي القريب بتنهيدة خفيفة. أن يتوقّف العمل بسبب نقص مادة واحدة فقط… أمر محبط بحق.
وحين لم يعد لديها ما تفعله، انزلقت نظراتها تلقائيًا نحو كاين.
‘كان قبل أيام يتعامل مع الجرعات وكأن حياته متوقفة عليها…’
لكنّه اليوم بدا هادئًا أكثر من اللازم، وكأن اهتمامه بالأبحاث قد تلاشى فجأة، مما جعلها أكثر توترًا.
شعر كاين بنظراتها المعلّقة عليه، فرفع رأسه فجأة، ثم عرض عليها ما كان يعمل عليه.
“ما رأيك؟ أليست متقنة؟”
“هذه… منديل؟”
كانت تتساءل عمّا يفعل بالضبط، فإذا به يطرّز بيديه شكل ابن عرس أحمر بخيط دقيق ومتقن.
رمشت أنجيليكا بدهشة، فقال وهو يشيح بنظره قليلًا وقد احمرّت وجنتاه:
“سيقام مهرجان الصيد قريبًا، أليس كذلك؟ أردت أن أقدّمه لسيريل… عربونًا عن مشاعري.”
“لكن… أليس من المعتاد أن تُهدي المرأة الرجلَ المنديل؟”
“يبدو أن كونكِ من راتلاي جعلكِ متمسكة بأفكار قديمة نوعًا ما.”
“…….”
لم تستطع الردّ؛ فهي لا تستطيع أن تقول إنها من عالم لا توجد فيه مثل هذه الأعراف أصلًا.
نظر إليها كاين، وقد التقط نظرتها المتحفظة، فهزّ كتفيه مبتسمًا.
“في مهرجان الصيد تكون سيريل هي البطلة. أما أنا، فكل ما أستطيع فعله هو أن أتمنى لها النصر.”
“هذا… لطيف وغريب في آنٍ واحد.”
“بالمناسبة، هل تفعلين لي معروفًا يا سيدة؟”
“نادِني دوقة بيرنشتاين، من فضلك.”
ردّت بعفوية وقد انسجمت مع وتيرته، فابتسم كاين بخفة، ثم التزم بلقبها كما طلبت.
“حسنًا، دوقة بيرنشتاين. ما رأيك أن ترافقيني إلى المعبد لجلب المواد؟”
“ولِمَ أذهب مع جلالتك؟ أنا امرأة متزوجة، كما تعلم.”
“إذًا، ما رأيك أن نُكمل التطريز معًا؟”
ناولها إطار تطريز آخر كان قد أعدّه مسبقًا.
“يبدو أن ذاك الرجل أخيرًا سينال منديله.”
سواء أكان قد أعدّه مسبقًا أم لا، فقد كان على القماش شعار عائلة بيرنشتاين: النمر الموشّى بخطوط حمراء وسوداء.
نظرت إلى الخيوط الموضوعة بجانبه، ثم، على مضض، التقطت الإبرة.
“جلالتك… كيف أفعل هذا بالضبط؟”
“ألا تعرفين؟ ظننت أن كل النساء يتقنّ ذلك.”
“ويبدو أن جلالتك أيضًا متمسك بأفكاره القديمة.”
“……”
ابتسمت بانتصار خفيف، لكن ذلك كلّفها الكثير.
فما لبثت أن تحوّل الدرس البسيط إلى فوضى.
“آه!”
“آخ!”
امتلأت الغرفة بأصوات تأوّه متقطّعة، لا علاقة لها بالبحث أو الدراسة.
ومع مرور نصف يوم كامل، تمكّنت أنجيليكا أخيرًا من مغادرة المختبر.
“آه… يا إلهي.”
كانت يداها ممتلئتين بالوخزات الحمراء، متورّمتين من كثرة الوخز بالإبر.
هزّتهما في الهواء محاولة تخفيف الألم، فلامس النسيم البارد جلدها فشعرت بوخز أشدّ.
“بهذه الحالة… هل أستطيع حتى تناول العشاء؟”
مجرد لمسة خفيفة كانت كفيلة بأن تجعلها تصرخ.
ومع ذلك، لم تستطع التراجع؛ فقد وعدت هيوغو.
“سأتحمّل…”
مدّت يديها المرتجفتين أمامها، وفي تلك اللحظة—
“ما الذي تحاولين تحمّله؟”
دوّى صوت عميق في سكون الحديقة الإمبراطورية.
وفي اللحظة نفسها، امتدّت يد مألوفة وأمسكت بيدها.
عادةً، كانت ستبتسم فورًا… لكن ليس هذه المرة.
“آه!”
انتفضت وهي تسحب يدها بسرعة من قبضته الخشنة.
“أنجيليكا؟”
تجمّد هيوغو في مكانه، وقد اختفى كل أثر للابتسامة عن وجهه.
رأى الدموع تتجمّع في عينيها، فشعر وكأن قلبه سقط أرضًا.
جثا أمامها على الفور، محدّقًا بيديها بعينين متوترتين.
التعليقات لهذا الفصل " 41"