الفصل 37 : فَخُّ الادِّعاء ⁵
سأل إيان وكأنّه سمع شيئًا غريبًا لا يُصدَّق.
“أتقولين إنّ كارماين بيرس طلب منكِ الارتباط؟”
“نعم، في السابق. يبدو أنّ أكثر من عامين قد مرّا على ذلك.”
“…….”
“ومنذ ذلك الحين، كلّما رآني يتصرّف بعدوانيّة. يلوّح بيده مهدِّدًا عند أدنى فرصة، وفي المرّة الماضية أيضًا…….”
توقّفت ديانا عن إكمال كلامها.
كان وجه إيان المبتسم مختلفًا على نحوٍ خفيّ عن المعتاد.
كأنّ قناعًا قد تصدّع، وشعرت بقلقٍ لا يمكن تفسيره…… فحكمت بغريزتها أنّه لا ينبغي لها المتابعة.
“آه، على أيّ حال، بعد أن فكّرتُ بالأمر، لا يبدو وجود الحراسة أمرًا سيّئًا. سأغادر الآن.”
“ديانا.”
“لا تقلق بشأن أمبر. لقد استمتعتُ كثيرًا اليوم.”
لماذا يبدو منزعجًا هكذا؟
لم تكن تعرف أيّ كلمةٍ قالتها قد مست أعصابه.
تظاهرت ديانا بالجهل، ودّعته ثم صعدت إلى العربة.
“لا تقلق. يكفيني رجلٌ غريب واحد يدور حولي، وأنت كافٍ لذلك.”
قالت ذلك مازحةً عن قصد، لكن بدل أن يضحك، ازداد وجه إيان قتامة، ولم تفهم السبب مهما حاولت.
***
ما معنى تلك الشخبطة التي رسمها أمبر؟
لم يطل الأمر حتى انحلّ اللغز.
“يا إلهي، من الذي رسم هذا؟”
قالت الخادمة التي كانت ترتّب فستان ديانا بعد عودتها من الخارج، وهي تنظر إلى ظهر يدها كما لو اكتشفت أمرًا طريفًا.
“سيرا، هل تعرفين ما هذا؟”
“بالطبع. هذه سنونوة. سنونوة تحمل برسيمًا رباعيّ الأوراق.”
كان في ملامح سيرا شيء من الرضا الدافئ.
“سنونوة؟”
“من جهتكِ يكون الاتجاه معاكسًا، لذلك يصعب تمييزه. عليكِ أن تنظري إليه هكذا.”
وبناءً على كلامها، لوت ديانا يدها وأمالت رأسها لتتفحّص الرسم من جديد.
وعندما غيّرت الزاوية، بدا حقًّا كأنّه سنونوة.
‘إذًا هذا الشيء الذي يشبه الهراوة هو البرسيم رباعيّ الأوراق؟’
وبينما كانت لا تزال متردّدة، قالت سيرا:
“إنّه رمزٌ للشفاء والحظّ السعيد. الأطفال في المدينة يرسمونه كثيرًا. مجرّد خرافة.”
“خرافة؟”
“خرافة بمعنى جيّد. هل تيتا هو من رسمه لكِ؟”
“آه…… نعم.”
“يا له من أمرٍ لطيف! كان أخي الصغير يفعل ذلك أيضًا في الماضي. مرّةً رسم على عكّاز أبي وتعرّض للتوبيخ.”
حين تذكّرت ذكرياتٍ قديمة، بدا الدفء في قلبها واضحًا، فضحكت سيرا بخفّة وهي تتابع ترتيب الفستان.
لم يكن بوسع ديانا أن تقول إنّ من رسمه هو الشخص الذي ظلّ يراقبها سرًّا لأيام، لذا ذكرت اسم طفلٍ لا علاقة له بالأمر.
‘شخبطةٌ تحمل معنى الشفاء…….’
بعد أن بدّلت ملابسها، استلقت ديانا على السرير وتفحّصت الرسم مرّةً أخرى.
‘كيف عرف إيان معنى هذا؟’
كلّما اختفى سؤال، وُلد سؤالٌ آخر.
وبينما كانت تمضغ هذه التساؤلات التي تتكاثر كالصوف المنفوش، غلبها التعب في النهاية وغرقت في نومٍ عميق.
***
لم تكن عائلة روتماير تستقبل ضيوفًا كثيرين.
لذلك كان من الصعب تصديق أنّ نائب دوق كروفورد قد جاء في ساعةٍ متأخّرة من الليل.
“إيان؟ ما الذي جاء بك؟”
دخل جين إلى غرفة الاستقبال مرتديًا قميصًا خفيفًا فقط.
حين سمع بخبر الزيارة أوّل الأمر، شكّ في صحّته، لكنّ القادم كان إيان حقًّا.
“أعتذر عن المجيء دون إخطار، جين.”
لم يكن مِمّن يزور القصر لأمرٍ تافه.
جلس قائد الفرسان قبالته وملامحه مشحونةٌ بالحذر.
“لا بأس. لكن ما الأمر؟”
“…….”
توقّع جين أن يباشر بالحديث عن السبب فورًا، لكنّ الآخر ظلّ صامتًا على غير المتوقّع.
غير أنّ نظراته المنخفضة أوحت بأنّ الأمر ليس بسيطًا، فانتظر جين بصبر.
وفجأةً، جاءه سؤالٌ غير متوقّع.
“جين.”
“نعم، أسمعك.”
“حين تقول امرأةٌ لرجلٍ إنّه ‘رجلٌ غريب’، ما المعنى الذي يخطر ببالك؟”
“……ماذا؟”
سأل جين مستغربًا هذا السؤال الغريب الذي لا ينسجم مع الوجه الجادّ أمامه.
“ما الذي تقصده؟”
“هل لم تفهم السؤال؟ أم أنّكَ جاهلٌ في هذه الأمور؟”
“لا، لكن ما هذه…….”
كاد يتفوّه بكلامٍ فظّ، لكنّه ابتلعه بصعوبة لأنّ إيان كان جادًّا على نحوٍ غير مألوف.
‘لا بدّ أنّ هناك سببًا مهمًّا لا أعرفه جعله يسأل هكذا.’
أقنع جين نفسه بذلك وأجاب:
“المعنى الحرفيّ، أليس كذلك؟ إن وصفت امرأةٌ رجلًا بهذا الشكل، فعادةً تقصد أنّه مُريب، خطير، منحرف…… شيءٌ من هذا القبيل.”
“ألا يمكن أن يكون ذلك بدافع الإعجاب؟”
“ما هذا الكلام؟ دعنا نعكس الأدوار.”
أعاد جين السؤال إلى إيان.
“لو قال رجل—لنقل أنت—عن امرأة إنّها غريبة، فماذا تقصد بذلك؟”
“هي طريقةٌ لطيفة لقول إنّها مجنونة.”
أجاب على مضض، ثم ما لبث أن توقّف.
“……إذًا في النهاية، الرجل الغريب يعني رجلًا مجنونًا، أليس كذلك؟”
إيان كروفورد توصّل أخيرًا إلى الجواب بنفسه بعد أن طرح السؤال.
“رجلٌ مجنون؟ أنا؟”
“لا أعلم، لكنّكَ الآن تبدو مجنونًا فعلًا.”
أجابه جين بلا مواربة.
“على أيّ حال، ما الذي جئتَ من أجله؟”
“…….”
“قلتُ ما الأمر؟”
بدا إيان وكأنّه تلقّى صدمةً خفيّة.
ومهما سُئل، لم يُجب.
في النهاية، نهض جين غاضبًا.
“إن لم يكن لديك شيء، فسأنصرف. أفق من سُكرك وعد إلى بيتك.”
كان من شيم المضيف أن يودّع ضيفه حتّى النهاية، لكنّ جين كان رجلًا ينفّذ ما يقول.
وحين همّ بمغادرة غرفة الاستقبال متذمّرًا مِمّا يمرّ به، سُمع صوت إيان أخيرًا.
“أودّ استعارة بعض الرجال. أريد اقتطاع عددٍ من فرسان القصر الملكي.”
“ماذا؟”
توقّفت خطوات جين فجأة، وتغيّر وجهه.
“هل حدث أمرٌ عاجل إلى درجة أنّ الملك يرسلك بنفسه قبل أن يصدر أمرًا رسميًّا؟”
“ليس بأمرٍ من جلالة الملك. هذا قراري الشخصي. على الأقلّ حتّى الآن.”
“……ماذا؟”
تلألأت شراسةٌ غير معهودة في عيني جين البرتقاليّتين.
“هل فقدتَ عقلك؟ أتحسب أنّ فرسان القصر حرسٌ خاصّ لدوقٍ يتحرّكون بكلمةٍ منك؟”
تحوّل استياؤه إلى وحشيّةٍ صريحة.
“اخرج حالًا. إن لم تغادر بنفسك قبل أن أعدّ إلى ثلاثة، فسأطردك بركلةٍ بقدمي.”
“جين.”
“ثلاثة.”
“ليس طلبًا بلا سبب.”
“اثنان.”
“عشرون رجلًا سيكونون كافين.”
“واحد.”
“وفي المقابل، سأُضيف بندًا جديدًا إلى الميزانيّة التي طلبتَها سابقًا.”
“…….”
توقّف جين، الذي كان يقترب ليطرده فعلًا.
ماذا؟ زيادةٌ في الميزانيّة؟
كان جين روتماير يعلم جيّدًا أنّ إيان كروفورد ليس رجلًا يُقدِّم مثل هذه التنازلات بسهولة.
ولو كان يفعل، لما أُلقيت على عاتقه تلك المسؤوليّات الجسيمة في هذا العمر.
أحد أسباب خضوع الوزراء وكبار المسؤولين لذلك الشاب اليافع كان بالضبط هذا الجانب منه.
“وسأتحمّل المسؤوليّة، وسأحصل على الموافقة اللاحقة من جلالة الملك.”
“……هل تتكلّم بجدّ؟”
جلس الاثنان متقابلين، ونظراتهما تصطدم بعنفٍ فوق الطاولة.
ما الذي هبّ عليه فجأةً ليُظهر هذا الإصرار، وهو الذي لم يكن يتزحزح لا بالترغيب ولا بالترهيب؟
“اشرح لي بالتفصيل. بطريقةٍ أستطيع فهمها.”
تنفّس جين بعمق، ثم عاد إلى مقعده مضطرًّا وهو ينظر إلى إيان الذي حرّك حذاءه ببطء.
يبدو أنّها ستكون ليلةً طويلة.
***
بعد ذلك بوقتٍ قصير، توالت في المدينة أخبارٌ كالصواعق.
فقد نُشرت مقالاتٌ عن الكازينو الملكي في الصحف.
[[سبق صحفي] احتيالٌ منظّم من قِبَل موزّعي الكازينو؟!]
[إعادة افتتاح الكازينو الملكي، ولماذا لا يمكننا أن نفرح]
[كان الأمر مريبًا…… انكشاف التلاعب القذر في رهانات الكازينو!]
وكان أكثر ما حاز الاهتمام هو بلا شكّ قضيّة الاحتيال المنظّم من قِبَل الموزّعين.
فالناس لم يتخيّلوا قطّ أنّ الموزّعين قد يتورّطون في التلاعب بالنتائج، لذلك ما إن قرؤوا المقالات حتّى انفجر غضبهم.
“كيف يمكن لكازينو يحمل اسم العائلة الملكيّة أن يرتكب هذا الغشّ الدنيء؟!”
“صحيح!”
“ألا يخجلون من أنفسهم؟!”
في المقاهي والساحات، في أماكن الاستراحة والحدائق، لم يكن هناك حديثٌ سواه.
أما المتضرّرون، فقد توجّهوا مباشرةً إلى القصر الملكي للاحتجاج.
كيف لكازينو تديره العائلة الملكيّة أن يجرّ المدينة إلى هذا الحال؟
انهالت الاعتراضات بلا توقّف.
“أستبقون هكذا؟ افعلوا شيئًا!”
“هذا تجاوزٌ لا يُحتمل!”
وحين استمرّت الاحتجاجات ثلاثة أيّام، اضطرّ وليّ العهد إلى الظهور بنفسه.
وأكّد أنّه على درايةٍ كاملة بالرأي العام، ووعد بإجراءاتٍ قريبة، فتمكّن بصعوبة من تهدئة الناس.
وبتأجيل موعد إعادة افتتاح الكازينو الملكي، بدا وكأنّ القضيّة قد هدأت مؤقّتًا.
“طبعةٌ خاصّة! طبعةٌ خاصّة! مقابلةٌ جديدة في هذه الطبعة!”
لكنّ فضيحةً أشدّ وقعًا خرجت إلى العلن.
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
《 قناة التيلجرام مثبتة في التعليقات 》
حسابي ✿ 《انستا: fofolata1 》
التعليقات لهذا الفصل " 37"