الفصل 25 : واجبٌ أعطتّهُ لها دمية اللعنة ⁴
أغلقت ديانا القفلَ ما إن نزل كارماين من العربة.
“يا ابنَ المجنون.”
كان عليها أن تبذل قدرًا كبيرًا من صبرها كي تكبت رغبتها في صبّ الشتائم على ظهره.
يقولون إن لم يكن لك حظّ فأن وقعت على ظهرك ليُكسر أنفك.
‘لِمَ كان عليه أن يكون كارماين بيرس، لِمَ بالذات!’
أكانت المصيبة هي فقط تلك النحس المفاجئ الذي هجم عليها؟
لقد جاءت فقط لتتفقد شارع سيناكا، المكانَ الذي شوهد فيه الديلر آخر مرة.
ولكن لسوء الحظ، قابلت ذلك الرجل تحديدًا.
وإن لم تكن هذه كارثة، فما هي إذن؟
‘حتى لو وُلِدتُ من جديد فلن أستطيع العيش بتلك الوقاحة.’
قبل بضع سنوات، ما إن تقدّم إليها بطلب مواعدة في اليوم التالي للّقاء الأول ورفضته، تغيّر موقفه مباشرةً.
كان انسحابه يومها نظيفًا على غير المتوقع، لكن منذ ذلك الحين، لا تدري أيّ ضغينةٍ تشبّث بها، إذ صار كلما رأى ديانا بدا كأنه سيلتهمها من شدّة ضراوته.
ظنّت أنه نسي كل شيء بما أنه خُطِب، لكن…
“نسي ماذا؟ مستحيل.”
لماذا لا يستطيع البشر التافهون الاكتفاء بقبيحةٍ واحدة في شخصياتهم؟
طبيعته العنيفة كانت تصير أكثر فجاجةً عامًا بعد عام.
حتى إنها باتت تكره مجرد محادثته.
‘عليّ أن أركّب ستائر في العربة، وربما قفلًا جديدًا أيضًا.’
وبينما كانت ديانا تتمتم، بدأت العربة تبطئ سيرها وتصل إلى وجهتها.
***
المكان الذي بلّغ إيان أنه يريد اللقاء فيه كان مقهى في شارعٍ مزدحم.
شعرت ديانا بالقلق في داخلها. فبسبب كثرة المارة لم يكن المكان مناسبًا لحديثٍ سرّي.
لكن ما هذا…؟
‘أاستأجر المقهى بالكامل؟’
بفضله لم يكن هناك أيّ زبون واحد يمكن العثور عليه ولو بتفتيش المكان. لم يكن ذلك غريبًا على رجلٍ حذرٍ مثله.
وصلت ديانا قبله وجلست تنتظره بصمت. ولم يلبث أن ظهر إيان.
“لقد وصلتِ مبكرًا.”
“وأمّا أنت يا سي. إيان، فقد تأخرت قليلًا.”
“هل يبدو أنكِ في مزاجٍ سيّئ، أم أن هذا مجرد وَهْمٍ لديّ؟”
ذلك لأنك اخترت هذا المكان بالذات فاضطررتُ لمواجهة لوفرغٍ مثل كارماين بيرس!
… هكذا أرادت أن تصرخ، لكن ديانا آثرت أن تشير إلى ما يزعجها أكثر.
“إنه وَهْم. لكن… ما قصة باقة الكوبية تلك؟”
“طبعًا… إنها هديةٌ لكِ يا آنسة ديانا.”
“… لا حاجة للخداع وقد استأجرتَ المقهى بالكامل.”
“صحيح، الآن بعد أن سمعتُ كلامكِ.”
“كما توقعت، أنت لستَ مؤهّلًا لصفة رجلٍ نبيل.”
ومع ذلك، وبما أنه أحضر الباقة بالفعل، فقد مدّها إليها مصرًّا.
‘بعد الورود… الآن كوبية؟’
أهي إشارة منه لأغرقها في الماء إن لزم الأمر؟
ولكي تتفادى خطر التعذيب بالماء مجددًا، كان عليها فقط العمل بسرعة.
تجاهلت ديانا الكوبية التي كانت تدخل مجال رؤيتها باستمرار، وبدأت تشاركه المستجدّات.
ضاقت عينَا إيان قليلًا حين سمع أنها لا تزال تطارد الديلر الخاصّ بالكازينو، لكنه استمع لبقية التقرير بصمت.
“المطاردة أصعب مِما توقّعتُ.”
“بمجرد أن عرفنا آخر مكان شوهد فيه فسنمسكه قريبًا. لم يرد أيّ تقريرٍ عن خروجه من القصر الملكي.”
ولكي يغادر أحدٌ من عوامّ العاصمة أندير يحتاج بالضرورة إلى المرور عبر البوابة الجنوبية.
ولهذا زرعت ديانا بعض الرجال هناك. فلم يكن بإمكانها ترك كل شيء لأورلاندو.
ومع ذلك لم يصل أي بلاغ بعد. كان واضحًا أنه لا يزالان داخل العاصمة.
المشكلة كانت: أين يختبئان؟
“ألم تفكري في استنفار قوات الحرس في المدينة؟”
سألت ديانا بنبرة هادئة وهي تعرف الإجابة مسبقًا.
“فكرت، لكنهما ديلران ألحقا الضرر بكازينو العائلة الملكية. ربما يكون إصدار مذكرة قبضٍ عامة وجمع البلاغات هو الأسرع.”
“هذا صحيح، لكن العائد مقارنةً بالمخاطرة منخفض.”
رفض إيان بلطف.
“إن انتشر سبب إصدار مذكرة القبض، فستنحدر سمعة كازينو العائلة الملكية إلى الحضيض. وذلك سيكون… مزعجًا.”
طبعًا. فهو إن فكّر في “شريكه” خلفه، فهذه المسألة يجب أن تُطوى بهدوء.
‘طالما أننا بدأنا الحديث… لِمَ لا أُحرّكه قليلًا؟’
ارتشفت ديانا رشفة من الشاي ثم قالت:
“حسنًا. سأواصل مطاردتهم إذن. وهناك شيء آخر أودّ قوله.”
“أصغي.”
“عندما نعيد افتتاح الكازينو… سأُلغي نظام اختيار ‘دمية الجوائز’. لا بأس، أليس كذلك؟”
“….”
أصبح تعبير وجهه مبهمًا.
لكن ديانا واصلت ببرود.
“رأيتُ سجلاتٍ مريبة في دفتر الحسابات.”
“سجلاتٌ مريبة؟”
كان في كازينو العائلة الملكية نظام يسمح باستبدال رقائق الكازينو بـ”دمى محدودة الإصدار”.
وكان يُهمَل طبعًا من قبل الجميع تقريبًا. فالناس يسعون إلى استبدال رقائقهم بالمال، لا بكراتٍ محشوّة بالقطن.
“لكن… هناك شخصٌ معيّن كان يختار دمى الجوائز كثيرًا وبشكلٍ مبالغٍ فيه.”
“الغرباء موجودون في كل مكان.”
“لا، إن صحّ توقّعي، فليس غريبًا… بل مجرمٌ صاحبُ خطّةٍ محكمة.”
“… ممتع. هلّا تابعتِ؟”
ابتسم إيان مشجّعًا، لكن ديانا فضّلت ألا تُكثر الكلام.
“كان هناك كشكٌ غريب أمام الكازينو الملكي. أُغلق الآن، لكنه كان ‘مسرح رماية’ يشتري دمى الجوائز بأسعارٍ غير منطقية.”
“تابعي.”
“ثم يبيع مسرح الرماية تلك الدمى للكازينو من جديد. من الخارج يبدو كأن الأشياء والأموال تدور في حلقةٍ متبادلة، لكنه مجرد خداع.”
الهدف الحقيقي هو تغيير طبيعة الأموال الداخلة إلى الدفاتر.
إنه ما يسمّى تبييض الأموال عبر سلعٍ مرتفعة الثمن.
“يحصل مسرح الرماية على مالٍ نظيف من الزبائن الذين يأتون للرمي، ثم يشتري به دمى الجوائز.”
“ومن يبيع الدمى يحصل على مالٍ غير قابل للتتبع.”
“صحيح. وفي الدفاتر لا يوجد ما يثير الشبهة. ولكن للاستمرار في هذا، يجب وجود مَن يبيع الدمى ومَن يشتريها.”
“فهمت. إذن؟”
“إذن…”
كانت تلك الثالثة.
‘لا، هذا خطر.’
نظرت ديانا إلى الرجل الذي دفعها إلى الكلام ثلاث مراتٍ دون أن يطرف له رمش، ثم غيّرت إجابتها.
“… إذن يجب علينا إلغاء نظام دمى الجوائز، لا أكثر.”
“هُمم.”
نظر إليها إيان بنظرةٍ تُشعِر بأنها تفهم أكثر مِما ينبغي.
أنا أعرف كيف تلاعبتَ بالأموال. وأعرف أن لك شريكًا أيضًا.
وفي الرواية الأصلية… استعملتَ “ديانا ويلينغتون” كوسيلةٍ لذلك.
‘لكن ليس معي.’
كانت مقترحها تلميحًا ذكيًا يشبه بالضبط باقة الكوبية التي حملها إليها.
وصفّق لها إيان مشيدًا:
“ممتاز. مدهشٌ فعلًا. لو واصلتِ الكلام قليلًا فقط… لاضطررتُ لقتلك مهما كنتِ كفؤًا.”
“….”
“كدتُ أفقد شخصًا ثمينًا.”
ابتسم إيان بنبرةٍ صادقة، لكنه حذّرها أيضًا:
“تمامًا كما فعلتِ الآن… واصلي هكذا.”
“….”
“لا تتعدّي الحدود، يا آنسة ديانا.”
كانت تتوقع ردًا كهذا، لكن… مواجهته مباشرةً جعلته أكثر إزعاجًا.
‘إذن لا يريد أن يعترف بأنّ شريكًا ما يزال موجودًا.’
وطبعًا الشخص الذي قام بعملية التبييض كان هو إيان.
وفي الرواية، استعمل خطيبته كذريعة، وبذلك تحوّلت “ديانا ويلينغتون” إلى خرقةٍ استُخدمت ثم رُميت.
وعلى الرغم من ذلك، بدا أن إطراءه كان حقيقيًا، إذ عادت الحياة إلى وجهه.
بل بدت عليه ابتسامة… إن لم تكن مجرد خيال.
‘لا، ليست خيالًا!’
لماذا أصبح “شخصيةً ذات عينين ضيّقتين ومنتعشة” بدرجةٍ أعلى الآن؟
“لماذا تبتسم هكذا فجأة يا سيد إيان؟”
“هُم؟ لأنني وجدتُ إنسانًا بين مجموعةٍ من القرود، فلا يسعني إلا أن أفرح.”
“….”
يبدو أنه يعني ما يقول فعلًا.
لماذا أشعر وكأن مؤشر الودّ ارتفع رغم أنني لم أنتقل إلى داخل لعبة؟!
“سننسجم جيدًا فيما يبدو. وكان هذا اليوم ذا مغزى كبير لأنني استطعت التأكّد من ذلك.”
“حسنًا… ربما.”
“وبهذه المناسبة، يمكنكِ مناداتي بـ’إيان’ فقط. وسأُناديكِ ‘ديانا’…”
“كلا.”
قاطعت ديانا كلماته بحدّة قبل أن يُكمل.
“ثمة حدود، ولا ينبغي لأيٍّ منا تجاوزها.”
“….”
“نادني آنسة ديانا، وسأناديك بالسيد إيان.”
تجمّدت ملامحه للحظة.
هل أزعجه كلامها؟
لكن التقرب منه تحت أي حجة كان أمرًا يجب تجنّبه، خاصة بعدما رسم هو بنفسه حدودًا قبل قليل.
ولذلك اكتفت بإعادة كلماته إليه، لكن… تحوّل وجهه مجددًا إلى “ابتسامة العينين الضيّقتين”.
أيّ نقطةٍ ضايقته هذه المرة؟
‘حقًا… رجلٌ صعب.’
دون أن تدري أنه يفكر بالشيء ذاته تمامًا، مسحت ديانا أنفها برفق إذ اختنق بروائح الكوبية.
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
《 قناة التيلجرام مثبتة في التعليقات 》
حسابي ✿ 《انستا: fofolata1 》
التعليقات لهذا الفصل " 25"