الفصل 24 : واجبٌ أعطتّهُ لها دمية اللعنة ³
كارماين راح يتفحّص الزبون من رأسه حتى قدميه متظاهرًا وكأنه يراقب الوضع.
“أنت، جئتَ إلى هنا مراتٍ كثيرة، أليس كذلك؟ لم يكن حظّك سيئًا سوى مرةً أو اثنتين، أفلا ترى أنّه من الخسارة أن تعود هكذا؟”
“هذا صحيح، ولكن…… الرهان الذي قمتُ به قبل قليل كان الأخير…….”
أجاب الزبون هكذا، لكنه ظلّ يرمق الطاولة مرارًا كأنّ في نفسه شيئًا.
لوّح كارماين بضحكةٍ ساخرة وأشار إلى الدرج المؤدي إلى القبو.
“إن كان في نفسك غصّة إلى هذا الحد، فاذهب وتحدث مع مديرنا هناك. يمكنه مساعدتك قليلًا.”
“نعم؟ حقًا؟!”
“نعم، انزل إلى الأسفل. إن قلتَ لهم إنني سمحتُ لك، فسيدعونك تمرّ.”
الإنسان قادرٌ على صرف المال بطرق أكثر تنوّعًا مِما يتخيّله أحد.
ولكل ذلك ثمنٌ لا بد أن يدفعه، لكن أولئك الحمقى الملوّثون بحلم الثراء السريع لا يدركون هذا.
وفقراؤهم، سواء خسروا كل ما لديهم في نادٍ للبطاقات أو اقترضوا من المرابين، فلا أحد يهتمّ.
أمّا هو، فما عليه سوى جمع المال بالمجارف.
لوّح كارماين بيده بترفّعٍ لذلك الرجل الذي كان يحني رأسه له مرة تلو أخرى.
***
كارماين بيرس وُلد ثاني أبناء أسرة تملك إقطاعيةً خصبة.
الكثيرون قد يغبطونه على هذا وحده، لكنّه كان يرى في الأمر ما يثير الضيق.
فحين وُلد كارماين كان لديه أخ أكبر منه بأربع سنوات.
وكان والدُهما يجلس أبناءه ويكرر باستمرار:
-‘الأسرة سيَرِثها جيريمي. أمّا الثلاثة الباقون، فعليهم مساندة أخيهم.’
كان من المحال التجرؤ على معارضة والدٍ تقليدي متشدّد إلى هذا الحد.
لم يكن بوسع كارماين سوى أن يقطّب وجهه ويطرح اعتراضًا.
-‘ولماذا؟’
-‘لأن هذا هو الشيء الطبيعي والواجب. ولا حاجة لك أن تتساءل.’
الأسرة ومسؤولياتها ليست عليك، بل على أخيك.
وإن حصل لك مكروه، فأخوك هو من يتحمّل مسؤوليتك.
لذلك عليكم أن تسندوه.
غير أنّ تلك الموعظة التي تدعو الإخوة للتعاون كانت تصل إلى كارماين بمعنى آخر.
فالأسرة ثابتة الأساس، وأيٌّ منهم يستطيع أداء دور الأخ الأكبر.
-‘أعطني فرصة أنا أيضًا. ما تفعله يا أبي يحمّل أخي عبئًا كذلك.’
-‘يا لك من أبله. لا تجعل أخاك ذريعةً لقضاء شهواتك!’
وازداد الخلاف بين الأب والابن يومًا بعد يوم، إلى أن ترك كلٌّ منهما الآخر.
-‘تريد أن تبدأ مشروعًا؟’
-‘أريد أن أثبت لكم أنني أكفأ من أخي.’
-‘أن قال الناس إنّ الكونت ويلينغتون رجلٌ عظيم، فهم لم يخطئوا. أن يصل الأمر بابنٍ لم يجرّ عربةً في حياته أن يزعُم أنه سيفتتح مشروعًا!’
-‘لديّ رؤيتي الخاصة…….’
-‘افعل ما تشاء. سأعطيك نصيبك من الميراث مسبقًا.’
-‘حقًا؟’
-‘حتى تنكسر شوكة كبريائك هذه، وتكفّ عن تلك الأفكار السخيفة. لكن……’
لا تعد إلى البيت قبل أن تنجح.
كانت كلماتٍ كالجليد، فعضّ عليها أسنانَه وغادر الإقطاعية، وقد مضت ثلاثة أعوام منذ ذلك الحين.
وحين وصل كارماين إلى العاصمة، اشترى معمل نبيذٍ قديمًا وحوّله إلى نادٍ للبطاقات.
‘سأُريهم جميعًا. سأُريهم أنني أفضل من أخي، وأن والدي كان أحمق!’
هذا لم يكن مكانًا يلجأ إليه هاربًا، بل كان أشبه بالجنة.
ومهما قالوا، فـ <ريغوليتو> كان عالمًا جديدًا شقّه بيديه.
بعد أن أنهى شؤونه، أخذ كارماين معطفه وخرج من النادي.
وبينما كان يلقي نظرةً عابرة على شارع سيناكا، اتّسع وجهه دهشة واستغرابًا.
“مَن أرى هنا؟”
اقترب من عربةٍ كانت متوقّفة.
“الآنسة ديانا ويلينغتون، يا له من وجهٍ كريم!”
“…….”
ورغم أنها لم تأذن له، فتح كارماين باب العربة وصعد بلا تردد.
لمع على وجه ديانا، للحظة قصيرة، تعبيرٌ يقول بأنها وقعت في موقفٍ سيئ.
“مرحبًا، سيد كارماين. لم أتوقع رؤيتك في مثل هذا الوقت.”
انصبّ عليه صوت ديانا الرقيق والهادئ.
“ما كنت أظن أنني سأرى الآنسة ديانا في شارع سيناكا. ما الذي جاء بكِ إلى هنا؟”
“مررتُ صدفةً فحسب. ولولا أنّك اقتحمت العربة بلا سؤال، لكنتُ انطلقت الآن.”
“أرى أنكِ متفرّغة، فانزلي إذًا. سأرشدكِ في الشارع بما أن المناسبة سنحت.”
“أقدّر لطفك، ولكنني سأعتذر. لديّ جدولٌ مزدحم.”
ابتسم كارماين بوداعة، لكن موقف ديانا بقي باردًا كما هو.
وعندما فكّر في الأمر، أدرك أنها كانت دائمًا هكذا.
فمع ما تملكه من جمال، كانت متعجرفة ومتعالية إلى حدٍّ مبالغٍ فيه.
بل، إن أردنا القول بصراحة—كانت وقحة.
وقد أثار هذا البرود القارس مزاج كارماين.
“حين تتحدثين بهذا الشكل، أتذكر أول لقاءٍ بيننا.”
كانت ديانا ويلينغتون قد ظهرت لأول مرةٍ في المجتمع الراقي خلال حفل ملكي، وحازت الكثير من الاهتمام.
لأنها كانت أجمل فتيات موسم ذاك العام.
ومع جمالها ذاك، كانت تعلوه طبقةٌ من الكبرياء.
ولم ترقص إلا رقصةً واحدة مع الرجال الذين تقدّموا أولًا، ثم بقيت لصيقةً بوصيتها.
“أتذكرين؟ حين طلبتُ منكِ رقصة، كنتِ باردةً تمامًا كما أنتِ الآن.”
من بين الرجال الذين ألحّوا عليها بالطلبات تلك الليلة كان كارماين أيضًا.
وكارماين بيرس أدرك منذ النظرة الأولى أنها “درجةٌ أولى”.
فالملابس، والخيول، والأسلحة الممتازة—كلها كانت من نصيب أخيه دائمًا، أما نصيبه هو فكان الدرجات المتبقية.
ولهذا استطاع أن يميّزها فورًا.
يريد أن يكون أوّل من يختارها. يريد أن يقتنيها. يريد أن يعرضها على والده ككأسٍ جديدة.
وكان جميع الرجال الآخرين في الحفل يحملون الرغبة ذاتها.
“للأسف، أتذكر. قلتَ إنني أعجبتُكَ لأنني جميلة.”
ردّت ديانا بصوتٍ كالصقيع.
“وأتذكر أن الطريقة التي تكلمتَ بها جعلتني أشعر بأنكِ تنتقي شرائط الهدايا، ولهذا انزعجت.”
“وهل هذا شيءٌ يزعج؟ المرأة يكفيها أن يختارها أحدهم.”
“…….”
“جمالكِ واضح أنه درجةٌ أولى، ولهذا استطعتِ اختيار من ترقصين معه. لكن……”
راح كارماين يتفحّص ملامحها الجميلة.
ولا تزال ملامحها، في نظره، من الدرجة الأولى.
“لكن بدون دلع، تسقط الدرجة. أن تكوني متعجرفةً بهذا الشكل ولا تعرفي سبب بقائكِ في الدرجة الثانية… هذا أمرٌ يدعو للأسف.”
“أخرج من عربتي. لم أعد أطيق سماع هرائك.”
“أنا أنصحكِ بصدق.”
مرّت لمعةٌ ازدراء باردة في عيني ديانا.
“تنصحني؟ غريب. ألم يكن هناك رجلٌ كان يطاردني من أجل وجهي فقط ويطلب مني المواعدة؟”
“اتفقنا أن ننسى تلك الحادثة.”
“في لقائنا الأول، لحقتَ بي بلا ملل كي أرقص معك، وفي اليوم التالي لحقتَ بي إلى منزلي وطلبت المواعدة هكذا مباشرةً.”
“هيه.”
“وبعدما رفضتُك، ذهبتَ فورًا تبحث عن فتاةٍ أخرى، ومع كل هذا تتجرأ الآن على……”
“ألم أخبركِ أن تصمتي؟”
ضرب كارماين جدار نافذة العربة بعنف.
فالنساء، في رأيه، لا يفهمن إلا حين يخاطبهن بهذه الطريقة الجلفة.
هدّدها بحدة:
“إن نطقتِ بهذا أمام ميو، فسأقتلكِ.”
“…….”
“أفهمتِ؟”
سكتت ديانا كما أراد، لكن الازدراء في عينيها ازداد اشتعالًا.
وهدأ الجو في العربة حين خفض كارماين قبضته.
ثم واصل كلامه وكأنه لم يحدث شيء.
“كانت رؤيتي مشوّشة في ذلك الوقت. من سيحب امرأة جميلة فحسب لكنها باردة؟”
واستعاد كارماين قناعته باختياره.
فمخطوبته ميو كامبل، وإن لم تكن جمالًا من الدرجة الأولى، فهي تمتلك دلع الدرجة الأولى.
فتعامُلها اللطيف يرفع من شأن الرجل، بل تعرف كيف تُرضيه حين يلزم.
وإن أراد المواعدة، فاختيار امرأة كهذه أسهل للعيش.
أعاد كارماين تأكيد قراره، وبقلبٍ خفيف، أدار ظهره لدیانا.
“سمعتُ أنكِ استطعتِ أخيرًا اصطياد الدوق كروفورد.”
“انزل من عربتي.”
“طالما حصلتِ على رجلٍ من الدرجة الأولى، فعليكِ الآن أن تتعلمي كيف تُرضينه.”
“هل تعجز عن فهم الكلام؟”
“من سيُحب امرأةً باردةً مثلكِ؟”
“…….”
تأمّل كارماين وجهها الجميل بحدّة.
فكلما رأى ذاك الوجه البديع، لم يستطع إلا إلقاء كلماتٍ لاذعة تسدّ ما في نفسه من ضغينة.
“تذكّري هذا. حين تصبحين وحيدة، فأنتِ من سيُطارد الرجال.”
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
《 قناة التيلجرام مثبتة في التعليقات 》
حسابي ✿ 《انستا: fofolata1 》
التعليقات لهذا الفصل " 24"