الفصل 21 : المُهرّجون وفطر المهرّج ¹¹
“لقد بذلتم جميعًا جهدًا كبيرًا.”
ألقى أَلويس الثاني نظرةً على قاعة الاجتماع وهو يوجّه كلمةً ودّيةً للجميع.
وعندما نهض الملك من مقعده، وقف جميع الحاضرين تبعًا له.
“خصوصًا أنت يا إيان. لقد تعِبتَ كثيرًا اليوم أيضًا.”
“أبدًا يا جلالتك.”
“لهذا لا يستطيع الشيوخ إلّا الاعتراف بك.”
كانت مجاملة الملك الودود تحمل وزنًا من نوعٍ ما.
فاكتفى إيان بخفض رأسه بتواضعٍ بدلًا من كلمات الشكر.
“فليغادر كلٌّ منكم على مهل.”
غادر الملك القاعة بابتسامة، وعندها فقط تنفّس الحاضرون الآخرون الصعداء وهم يتبادلون كلماتٍ مقتضبة قبل مغادرة القاعة.
وعندما جمع إيان ملفاته ببطء، وخرج بعد أن خفّ الازدحام قليلًا، ظهر وجهٌ مألوف توقّع رؤيته عاجلًا أم آجلًا.
“يا أنت. تعالَ معي قليلًا.”
شَعرٌ أحمر داكن مقصوص كقَصّة لاعب فنون قتالية. عينان برتقاليّتان.
رجلٌ يُساء فهمُه دائمًا بأنّه متجهّمٌ بسبب ميلان طفيف في طرف أنفه.
لكن أكثر ما يلفت النظر فيه لم يكن ذلك، بل السيف المعلّق على خصره.
“جين.”
“تتباطأ كعادتك. تأخّرتَ كثيرًا لدرجةٍ جعلتني أظن أنني فوّتُكَ.”
الحضور في قاعة الملك وهو يحمل سيفًا مغمودًا امتيازٌ لا يُمنح إلا لقائد الفرسان.
“كنتُ أظن أنّك مشغولٌ مع الفيلق الملكي. ما الذي أتى بك إلى هنا؟”
“تسألني ما الذي أتى بي؟ حقًا لا تعرف ما أريد؟”
ارتفع طرف حاجب جين مثل بركانٍ يستعد للثوران.
“طلبتُ زيادة ميزانية الصيف، فإذا بك تُنقِصها! وتقول الآن إنك لا تعرف؟”
“لقد أوضحتُ الأمر للورد كاسين مسبقًا. لا توجد ميزانيةٌ إضافية. نتحدّث في الشتاء.”
“هل أنت جاد؟ أنا بالكاد ألتقط أنفاسي بسبب كثرة الاستدعاءات من أجل الأميرة، بدلًا من أن تساعدني تقلّص الميزانية!”
“أنت لستَ الوحيد الذي يأتي بكلّ الأعذار ليطلب مالًا إضافيًا.”
ألقى إيان نظرةً على ساعته بينما تابع سيره بهدوء.
من القاعة إلى المكتب يستغرق المشي البطيء عشرين دقيقة.
وإذا وضع في الحسبان نقطة افتراقهما في الطريق…
“يبدو أنّ لديّ خمس عشرة دقيقة يمكنني تخصيصها لك الآن.”
“وتريدني أن أقنعك خلال خمس عشرة دقيقة؟ هل يوجد شخصٌ على وجه الأرض قادرٌ على ذلك؟”
هاجم جين بلا تردّد.
وبحكم معرفة أحدهما الآخر منذ زمن، كانت هذه شكوى في محلّها.
لكن ابتسامة إيان ازدادت اتساعًا، وكأنّ الأمر ممتعٌ بالفعل.
“الحقيقة، ويا للغرابة… يوجد شخصٌ فعلها فعلًا.”
“ماذا قلت؟”
تجمّد وجه جين بالصدمة لحظةً قبل أن يصرخ:
“لا تقل الهراء! من هذا الكاذب؟”
“هاهاها، أقسم أنّي صادق.”
“لا تقل إنّكَ تقصد جلالة الملك! إن كنت ستقول ذلك فوفّر كلامك.”
كان يعامله كما لو أنه كاذبٌ مكشوف.
لم يشعر إيان بالانزعاج، لكنه تظاهر بالاستياء بسبب وجود الناس حولهما.
“لستُ أمزح. ما إن أقول جملة حتى يردّ، ثم جملةً أخرى فيقلب رأيي رأسًا على عقب.”
“هل هو شخصٌ حقيقي؟ هل يوجد فعلًا من لديه هذه القدرة؟”
“نعم.”
“هاه!”
قهقه جين ساخرًا، وقد ازدادت نظراته شكًّا وخشونة.
وكان ذلك متوقعًا.
حتى لو التقى جين بديانا بنفسه، لتساءل إن كانت حقيقيةً أصلًا.
“كانت تجربةٌ لطيفة، لأول مرةٍ في حياتي.”
“ما زلتُ لا أصدّق.”
“التصديق شأنك. ومع ذلك بقي من وقتك ثلاث عشرة دقيقة.”
“وأنت تحسب الثواني أيضًا؟”
تنهّد جين، لكنه واصل تبرير طلبه بجدّية.
ازداد نشاط الأميرة الرسمي في الفترة الأخيرة، يجب زيادة عدد الأفراد، الأسلحة والدروع ترتفع أسعارها ويقلّ جودتها، شراء الكمية نفسها أصبح صعبًا… إلخ.
لكن كلما طال الحديث، ازداد تعبير جين غرابة.
فإيان الذي كان عادةً يقطع حديثه عند منتصفه، ظل يستمع بصبر.
عندها أدرك جين شيئًا.
“…أنت اليوم تبدو في مزاجٍ جيّد، أليس كذلك؟”
“ما هذا الكلام فجأة؟”
“أنت لا تقاطعني، بل تتركني أكمل. وفوق ذلك… تبتسم دون توقف.”
لم يكونا صديقين حميمين بالمعنى التقليدي.
لكن لأنّ كليهما نشأ بجوار الأمير سيدريك منذ الطفولة، فقد كان بينهما رابطٌ غير مرئي.
وخبرة العمر تخبرك حين يتغيّر شيءٌ ما في أحدهما.
“هل حصل شيءٌ جيّد؟”
“وأنت أيضًا… لماذا تفسّر الأشياء بزيادةٍ اليوم؟”
“هذا ليس تفسيرًا. هذه هي الحقيقة يا رجل! لا يمكنك خداع عيني.”
وهذا صحيح.
كان جين روتمياير صاحب حدسٍ خارق.
إن كانت بصيرة إيان ثمرة مراقبةٍ طويلة ودراسة، فحدس جين كان موهبةً فطرية.
عندما يدرس إيان كل الاحتمالات بدقّة، يكون جين قد لمس الشيء بنظرةٍ واحدة ثم حكم بقوله: “هذا الفطر يسمّمك في دقيقة” ويمضي في طريقه بكل هدوء.
كان يصل إلى النتيجة مباشرةً دون المرور بالمنطق.
وهذا ما كان يثير إعجاب إيان أحيانًا.
“هل التقيتَ بشخصٍ ما؟”
“يمكن القول إنه شيءٌ قريبٌ من ذلك.”
“يا رجل… كنتُ أمزح فقط، لكن يبدو أنه صحيح! من هي؟”
“وما الذي ستستفيده على كل حال؟ عندما تراها بنفسك ستُعجزك جمالًا ولن تقدر حتى على تحيّتها.”
“جميلة؟”
انكمش وجه جين كقطعة قماشٍ محشورة في حقيبة.
“…إيان. سمعتُ شائعةٍ سخيفة قبل أيام…”
“بقي عشر دقائق.”
“يقولون إنكَ ذهبت إلى صالون نسائي وافتعلت مشاكل وأخذت تغازل إحداهن هناك.”
“أ… تغازل؟”
“خرجتَ في يوم عمل وكأنك في إجازة، ثم عدت متأخرًا لتعمل حتى الفجر… هل هذا صحيح؟”
“هاهاها… هذا ممتع. من الذي نشر تلك السخافة؟”
كانت نبرته أقرب إلى الرغبة في معرفة الفاعل أكثر من كونها مجرد استغراب.
“أريد أن ألتقيه شخصيًا. أود أن أصحح سوء الفهم.”
“يكفي أن تقول إنها كذبة! لماذا تحتاج لمواجهة شخصيًا؟ هل الشائعة صحيحة؟”
“حقًا تكثر الشائعات هذه الأيام. هاهاها…”
كان ابن الدوق المعروف بكونه لطيفًا مع الجميع يبتسم بهدوء حتى أمام شائعة تجرح سمعته.
“أنت يا هذا… كلما أردت أن تقول: (ما هذا الهراء!) تكتفي بالضحك. أنا وسيدريك نعرف ذلك جيدًا.”
“انتهت الخمس عشرة دقيقة. اتجاهي من هنا.”
“وعندما تريد أن تتهرّب؟ تضحك! أعرفك تمامًا!”
“حسنًا، أستميحك عذرًا. وأكرر، اللقاء الثلاثي مرحّبٌ به.”
لوّح إيان بيده ثم غادر بسرعة.
بخطواتٍ مستقيمة وثابتة لا تتعثر، وظلّ ظهره البهيُّ واضحًا حتى ابتعد.
“…ذلك الوغد، واضحٌ أنّه سعيدٌ بشيء.”
لم يكن من النوع الذي يتأثر بكل شائعةٍ سخيفة.
وأيضًا ليس ساذجًا يظن أنّ الإهانة لا تؤثر.
لو كان في حالته المعتادة، لكان عرف فورًا اسم ناشر الإشاعة.
فما الذي يجعله متسامحًا إلى هذا الحد اليوم؟
تساءل جين وهو ينظر إلى ظهر إيان المُبتعد بدهشة.
***
كما توجد أيام ماطرةٌ وأيام مشمسة، فكذلك البشر تمرّ بهم فترات مدٍّ وجزر.
في بعض الفترات لا يسير شيءٌ كما يريد، وفي أخرى ينقلب الحال كالسحر فيسير كل شيء بسلاسة.
وفي هذه الأيام، كان إيان كروفورد يعيش المرحلة الثانية.
كان يمرّ منذ مدة بفترةٍ هادئة وخالية من الهموم.
حين سقط رئيس الوزراء مريضًا، لم يكن شيء يسير كما يجب.
كلّ صغيرة وكبيرة كانت تظهر فجأة لتجرّه للخلف.
وبدأ يتحمل أعمال الوزير نيابة عنه، فكان مجلس الشيوخ يستدعيه كل يومين تقريبًا بحجة أنّهم يريدون “تقويم” أنف الدوق الصغير الذي رأوه مغرورًا.
وتصدّرت الآراء القائلة بأنه أصغر من أن يتولى منصبًا مهمًا، حتى بدأ الملك نفسه يفتّش عن بديلٍ محتمل.
وحتى قضية الكازينو استحوذت على الأنظار في تلك الفترة.
لكن مقارنةً بتلك الأيام… فإنّ الحاضر مختلفٌ تمامًا.
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
《 قناة التيلجرام مثبتة في التعليقات 》
حسابي ✿ 《انستا: fofolata1 》
التعليقات لهذا الفصل " 21"