الفصل 19 : المُهرّجون وفطر المهرّج ⁹
قال وهو ينفض الفتات العالق بيده.
“شكرًا. كان لذيذًا.”
“……يُسعدني أنّه راقَ لذوقكم.”
“كيف سأدفع ثمن البسكويت؟”
“نعم؟”
“يقولون إنه لا يوجد شيءٌ مجّاني في هذا العالم. وفكّرتُ بالأمر، فوجدتُ أنّه ليس لدي مالٌ أيضًا.”
هل كان يمزح؟
في نظر ديانا، كانت ملابس الرجل ذات جودةٍ أعلى بكثير مِما يرتديه عامة الشعب.
أما ذقنه الخالية من أدنى أثرٍ للحية وشَعره اللمّاع فبدَوا وكأنّه يُعتني بهما بزيت جوز الهند.
لذلك كان من الصعب تصديق قوله إنّه لا يملك فلسًا واحدًا.
وفوق ذلك، بدا شديد الريبة.
“إن كنتِ بحاجةٍ إلى القمامة، يمكنني إحضارها الآن.”
“لا، لا داعي لذلك.”
“إذًا، ما الذي تريدينه؟”
“لا أدري…….”
لم تستطع ديانا أن تستحضر فورًا شيئًا يمكن أن تطلبه مقابل قطعة بسكويت بالمربّى، من رجلٍ مجهول الهوية قابلته للتو.
ولمّا عجزت عن الإجابة، بدا أنّ الرجل شاركها الحيرة، ثم قرّر من تلقاء نفسه.
“إذًا، سأساعدكِ لمرةٍ واحدة عندما تحتاجين.”
“نعم؟”
كانت على وشك سؤاله عمّ يقصده.
لكنّ الأطفال الذين كانوا منشغلين باللعب فيما بينهم أطلقوا فجأةً صيحاتٍ عالية وركضوا نحو الطريق.
“عمّي! عمّ أورلاندو!”
“عمّ أورلاندو، لديك زبونة! تلك الأخت الجميلة هناك!”
“انظر! الأخت أعطتنا بسكويتًا!”
وقفت ديانا على عجل من مكانها.
وفي الجهة الأخرى، كان رجلٌ يرتدي معطفًا قديمًا وقبعة فيدورا يلوّح للأطفال ليتراجعوا وهو يسير نحو المكتب.
“همم؟ ذاك المكان مكتبي…… هل حضرتِ للاستشارة، يا آنسة؟”
“مرحبًا، سيد أورلاندو. نعم، جئتُ لأقدّم طلبًا.”
“يا إلهي، هل بقيتِ تنتظرين في الخارج طوال هذا الوقت؟”
“ليس طويلًا جدًا.”
“مرحبًا بكِ. أنتم يا صغار، لا تُحدثوا ضجيجًا واذهبوا للعب هناك!”
صرخ أورلاندو بصوتٍ مرتفع، فركض الأطفال حاملين قطع البسكويت في أيديهم، مقلّدين الخوف بصوتٍ مرتفع وضحكاتٍ واسعة.
أصدر المحقّق صوت تأفّف وهو يفتح باب المكتب ويشير إلى ديانا.
“تفضّلي بالدخول.”
“نعم، شكرًا. ……آه.”
لم تكد تومئ برأسها حتى تجمّدت مكانها.
كانت تنوي أن تودّع الرجل الغريب الذي كان بجوارها قبل أن تتبع أورلاندو، لكنها أدركت فجأة أنه اختفى كما لو كان سرابًا.
“ما الأمر؟”
“هناك… كان هنا شخصٌ قبل قليل…….”
“شخص؟ من تقصدين؟”
“…….”
ما هذا؟ هل يمكن لشخصٍ أن يختفي بلا أيِّ صوت إلى هذا الحد؟
هل كنتُ أحلم وأنا جالسة؟
شعرت بقشعريرة لوهلة، لكن الفتات المتناثر على الأرض أثبت أن ما حدث لم يكن أحد أوهامها.
“ما الأمر؟”
“لا، لا شيء.”
إزاء نظرة أورلاندو المرتابة، آثرت ديانا الصمت.
“إذن، عن إذنك.”
تجاهلت خفقات قلبها المتسارعة أكثر من المعتاد، ودخلت إلى المكتب.
رغم أن ذلك الرجل المريب شغل بالها، فإنّ ما جاءت لأجله كان أولى.
***
بدا أورلاندو أكبر سنًّا بكثير مِما تخيلته ديانا.
“كيف أبقيتُ الزبونة واقفةً في الخارج؟ أعتذر حقًا. في هذا الوقت لا يأتي أحدٌ عادة، فغفلتُ.”
“لا بأس، أنا من جاءت فجأةً دون موعد.”
أخذت ديانا فنجان القهوة بامتنان حين قدّمه لها.
كانت رائحة القهوة المحمّصة مختلفة ومحبّبة، ولم تشرب مثلها منذ زمن.
‘عندما أنظر إليه عن قرب يبدو أكبر سنًّا بكثير.’
رغم أن فكّه المربّع منحه طابعًا وديًّا، إلا أن تجاعيد الضحك العميقة حول فمه كشفت عمّا يتحمله من ضغوط العمل.
“هل أزعجكِ الأطفال؟”
“تقصد أطفال قبل قليل؟”
“نعم. إن لم يظنّوا أنني سأضربهم، فهم يلتصقون بالناس. حتى لو قلت لهم ألا يُخيفوا الزبائن، لا يسمعون الكلام بسهولة.”
أطلق تنهيدةً متعبة.
ورغم تذمّره، كانت في نبرة صوته مسحة عطف واضحة.
“لكنهم ليسوا أشقياء، فأرجو أن تكوني متسامحةً معهم. وأعتذر بالنيابة عنهم.”
“لا داعي للاعتذار. من حسن الحظ أنني أحضرت كميةً كافية من البسكويت. هذا ليس بالكثير، لكن هذه هدية.”
“ماذا؟ يا إلهي، هذا كثير…….”
ما إن أعطته ديانا علبتي بسكويت حتى بدا مرتبكًا وهو يتلقّاهما.
وحين حاول النهوض ليقدّم لها شيئًا بالمقابل، اضطرت إلى منعه، فدار بينهما شدٌّ وجذب بلا فائدة.
“لا داعي للبسكويت الآن، فقط استمع إلى قصتي.”
“صحيح. يا لسوء تفكيري.”
ارتدى المحقق نظارته بسرعة وأخرج دفتر ملاحظات.
“على الرغم مِما ترينه، فقد لاحقتُ الأزواج الخائنين، وطاردتُ سارقي الفاكهة، ولا يوجد شيء لم أقم به. والسرية مضمونة.”
“سماع ذلك يطمئنني حقًا. جئتُ لأن لدي أشخاصًا يجب العثور عليهم.”
“أشخاص؟ ليس شخصًا واحدًا؟”
“نعم، صحيح.”
أومأت ديانا.
“عذرًا لتأخري في التعريف. أنا ديانا ويلينغتون، المديرة الجديدة لكازينو العائلة الملكية.”
“……كازينو العائلة الملكية؟”
ارتسمت لمحة توجّس في عيني أورلاندو.
كانت ديانا تأمل في إنهاء الشرح قبل أن تبرد القهوة، لكن ذلك كان أصعب مِما ظنّت، إذ كان لديها الكثير لتقوله.
“كل ما سأقوله من الآن سرّي، أرجوك أن تحافظ على كتمانه.”
“بالطبع.”
أوضحت ديانا وضع الكازينو المغلق مؤقتًا، واختلاس المدير السابق للميزانية، وتلاعب الموزّعين بالتعاون مع اللاعبين، وصعوبات الإدارة.
ومع تطوّل الشرح لم يفعل أورلاندو سوى إطلاق تأوّهاتٍ منخفضة وهو يُدلّك لحيته الرمادية.
وبعد أن أنهت الرواية كاملة، ظل صامتًا للحظاتٍ طويلة، ثم تحدّث أخيرًا.
“هاهه…… لقد تولّيتِ أمرًا في غاية التعقيد. إذًا، آنسة… أوه، أقصد مديرة الكازينو، تعتقدين أن المسؤول اختلس المال بذريعة أعمال البناء؟”
“نادِني ديانا فقط. رأيتُ السجلات بنفسي، لذا أنا متأكدة. هناك أرقامٌ مكتوبة بوحداتٍ غير معقولة.”
اشتدّ صوتها قوة.
“هناك الكثير مِما يجب التحقيق فيه. يجب التأكد من مكان وجود المدير والموزّعين، وإذا لزم الأمر، مقابلتهم شخصيًا.”
لم تغب عن ديانا اللمحة التي مرّت في عيني أورلاندو الداكنتين ثم اختفت سريعًا.
“سمعتُ أنكَ تجد الأشخاص في يومين مهما كانوا صعبين.”
“هاهاهاها، هذا كلامٌ يقوله أطفال الحي بسهولة. لا يجوز أخذ كلامهم على محمل الجد.”
“ولماذا لا؟ حدس الأطفال مُمتاز.”
لم يكن ذلك إشارةٍ جيدة.
شعرت ديانا بأنّ أورلاندو بدأ يبحث عن ذريعة للانسحاب قبل أن يورّط نفسه في أمرٍ معقّد.
“على أي حال، فهمت سبب مجيئكِ. لكن، هل من الضروري أن توكلي هذا العمل إلى محقق خاص مثلي؟”
وكان حدسها صحيحًا تمامًا.
“عائلة ويلينغتون يمكنها توظيف أيُّ شخصٍ مقابل المال للحصول على المعلومات.”
“هذا المشروع ليس مشروع العائلة، بل مشروعي الشخصي. لا يمكنني إرسال خادم أو وصيفة للبحث عن أشخاص.”
“إذًا، لا يعرف أهلكِ شيئًا عن الأمر؟”
“ولا يجب أن يعرفوا مستقبلًا.”
لو علمت والدتها أنّ ابنتها التي يعتقدون أنها ترى الدوق الصغير، تجوب حيّ الكازينو، لأغمي عليها.
‘أحتاج إلى شخصٍ يتحرك بسرعةٍ ويجيد العمل.’
شخص يفهم الأمر من كلمةٍ واحدة.
ديانا، التي عاشت حياتها كابنة كونتٍ عادية، لم يكن لديها في مخزون علاقاتها أي معلّم معلومات من الطراز الرفيع أو أعوان يعملون كالظل.
وفي ظل محدودية حركتها، كان أورلاندو—أحد الشخصيات الجانبية الموثوقة—ورقتها الرابحة التي يجب عليها كسبها بأي ثمن.
“أخشى أن يدي قصيرة قليلًا للتحقيق وحدي…….”
“إن احتجت، فبإمكانكَ الاستعانة بمن تثق بهم، وسأدفع الأجر المناسب.”
لحسن الحظ، كانت لديها بعض الأموال التي ادّخرتها للحالات الطارئة.
لم تكن كافيةً لإعادة بناء الكازينو، لكنها كانت كافيةً لتوظيف أشخاص للعمل.
لكن تعبير أورلاندو الودود لم ينفرج قط.
كانت تتوقع أن يقبل فورًا، لكن بدل ذلك، خرج من بين أنفاسه زفيرٌ ثقيل، أعقبه كلامٌ غير متوقع.
“أعتذر، لكنني أرفض.”
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
《 قناة التيلجرام مثبتة في التعليقات 》
حسابي ✿ 《انستا: fofolata1 》
التعليقات لهذا الفصل " 19"