كانت ديليا تعيش حياتها على نحوٍ جيّد و هي تربي آرون بمفردها، لكنّها أصبحت تشعر بالغباوةِ، إذ لا تستطيع التوقّف عن التفكير به، والقلق عليه يُثقل قلبها.
لم ترغب ديليا في أن تتألّم مجدّدًا ، ولهذا السبب ، ولأوّل مرّة، واجهت كاليوس الذي كان يرغبُ بها بصدق.
“حتى لو قلتُ إنّني سأقضي عمري في التكفير عن خطيئتي …؟”
“توقف…أرجوك، لا تفعل شيئًا”
لو عادت إلى كاليوس، لكان ذلك الأفضل بالنسبة لآرون.
فالصبيّ لم يغادر محيط الكوخ يومًا، ولم يتلقَّ أيّ تعليم يُذكَر.
لكن الحياة معه لم تكن الحياة التي تُريدها.
فمنذ أن ألقت بنفسها من على الجرف ، فهمت ديليا أنّ حياتها تخصّها هي وحدها، ولم تَعُد ترغب في العيش كضحيّة.
“لِتَبِت هنا الليلة. أعتقد أنّ آرون أيضًا يُريد ذلك”
شعر كاليوس بإنخفاض مفاجئ في حرارة الغرفة، وعضّ شفته بصمت.
أدرك أنّ استمرار هذا الحديث لن يعود عليه بأيّ خير ، لذا اكتفى بالنظر إلى ديليا و هي تبتعد عنه رويدًا رويدًا ، و ملامحه تفيض مرارة.
***
في صباح اليوم التالي، بدأت ديليا تُقطّع الخضار الطازجة التي اشترتها من السوق، واحدة تلو الأخرى.
كان طبق اليوم حساء اللحم البقريّ الذي يُحبّه الطفل، لذا قطّعت الخضار إلى قطع صغيرة يسهل على آرون مضغها.
‘أظنّ أنّ عليّ أن أُكثِر من الجزر.’
لكنّ آرون لم يكن يُحبّ الجزر كثيرًا ، ممّا سبّب لها بعض الحيرة.
كانت لورا تستبعده تمامًا من الطبخ ، لكن ديليا فكّرت أنّ ذلك قد يجعله ينفر منه عندما يكبر.
و في النهاية ، قطّعت الجزر قطعًا ناعمة جدًّا و ألقت بها في القِدر دون أن يلاحظها.
و أثناء تحريكها اللحم المغلّف بالدقيق مع باقي المكوّنات ، شمّ آرون الرائحة الطيّبة ، فركض من غرفته إلى غرفة الجلوس.
تسلّق الكرسي بتنهّدات طفوليّة ، و حين رأى الحساء يغلي ، ابتسم بفرح.
“لحم البقر! إنه لحم البقر!”
“سيكون جاهزًا بعد قليل ، فاصبر. ثمّ … نادِ العمّ الذي في غرفة الضيوف”
“هاه؟ هل يمكنني ذلك؟”
“طبعًا، ولِمَ لا؟”
و كان لا بدّ من الاطمئنان على حالة كاليوس أيضًا.
ربّتت ديليا على ظهر آرون برفق ، فانطلق راكضًا نحو غرفة الضيوف وطرق الباب بخفّة.
و بعد لحظات ، انفتح الباب و ظهر كاليوس ، وقد بدا أكثر حيوية من الأمس، مرتديًا ابتسامته المعتادة بثقة.
“آرون؟ ما الذي يحدث فجأة؟”
“الإفطار سيجهز! هيا لنأكل!”
أمسك آرون بيد كاليوس و سحبه بثقة.
و بينما كان كاليوس يتفقّد المطبخ بعينيه ، وقعت عيناه على ديليا المنشغلة بالطبخ.
المشهد أعاده سنينًا إلى الوراء ، فرؤية ديليا و هي ترتدي المئزر و تركّز على الطهي أيقظت داخله شعورًا غامرًا بالحزن كاد يفيض ، لكنّه كتمه واقترب منها.
“هل أُساعدكِ في شيء؟”
“لو سمحت … ساعد آرون في ترتيب الصحون”
أومأ كاليوس برأسه وراح يُرتّب الصحون مع آرون بحذر.
كانا لورا و كامبل قد توجّها إلى القرية في وقتٍ سابق ، ولم يبقَ في الكوخ سوى ديليا، وكاليوس، وآرون.
“تفضّلوا، كلّوا بشهيّة”
“… نعم ، و تناولي أنتِ أيضًا. آرون ، حاول أن تأكل من كلّ شيء”
“سآكل كُلّ شيء!”
رمقت ديليا آرون من طرف عينها وهو يُقلّب الحساء، و عرفت على الفور أنّه يُحاول التخلّص من الجزر.
تنهدت داخليًّا بصمت.
لكنّ آرون سرعان ما تناول أول ملعقة ووجنتاه توردّتا.
“واااه! لحم البقر!”
“… أتحبّه إلى هذه الدرجة؟”
“نعم! أريد أن آكله طول حياتي!”
ابتسمت ديليا دون أن تشعر، وأومأت برأسها.
راح آرون يُبرّد الحساء بنفَسه بالنفخ عليه ثمّ يتناوله بفرح.
أخذ كاليوس يرمق الطفل الذي يأكل بشهيّة ، و ديليا التي تبتسم بسرور، ثمّ شدّ قبضته بقوّة.
فكّر أنّه لو لم يفقد ذاكرته و يقترف كلّ تلك الحماقات ، لكان هذا النوع من السعادة له أيضًا.
تجمّدت ملامحه وهو يستوعب ذلك.
“كاليوس، تفضّل وكُلْ أنتَ أيضًا”
“…حسنًا، سأفعل.”
لم يستطع كاليوس رفض عرضها، فتناول ملعقة من الحساء.
فوجئ بمذاق اللحم الطريّ والخضار المطبوخة بإتقان.
‘إنّه لذيذ للغاية…’
تناول ملعقة أخرى. و كلّما أكل ، شعر بالامتنان والحنين يتدفّق في صدره ، ولم يستطع أن يرفع يده عن الملعقة.
بدا كأنّه لم يأكل منذ أيّام، ما جعل ديليا تنظر إليه بنظرة معقّدة يصعب تفسيرها.
في تلك اللحظة ، و بينما كان آرون الذي قد تناول نصف طعامه، صاح فجأة وكأنه تذكّر شيئًا وسأل كاليوس:
“عمّي! متى نذهب إلى البحر؟”
“ليس ‘عمّي’ ، بل ‘أبي’. و يمكننا الذهاب اليوم إن أردت”
“واااه! البحر! البحر!”
…ما الذي يقصده بالضبط؟
تساءلت ديليا في سرّها ،
و علامات الحيرة ترتسم على وجهها ،
حينها وضع كاليوس الملعقة جانبًا و تحدّث بهدوء:
“وعدتُ آرون قبل أيّام أنني سأريه البحر الأزرق بعينيه”
“نعم؟ البحر … فجأة هكذا؟”
“قال لي إنّ عينيّ و عينيه تُذكّركِ بالبحر. ربّما لذلك بات يرغب في رؤيته حقًّا”
إن كانت عينا كاليوس تذكّر الشخص بعمق البحر ، فإنّ عيني آرون تشبهان موجه المتراقص.
كانت ديليا قد أثنت كثيرًا على عيني الطفل ، لكن لم يخطر ببالها يومًا أنّه قد ينقل ذلك الحديث إلى كاليوس.
“هل كنتِ تربيه في هذا المكان فقط طوال الوقت؟”
“… نعم، هكذا جرت الأمور.”
“في سنّ آرون، من الأفضل أن يخوض تجارب متنوّعة”
كلمات كاليوس جعلت أفكار ديليا تتشابك.
لطالما ظنّت أنّها تبذل كلّ جهدها من أجل آرون ، لكن بعد سماع حديثه ، شعرت و كأنّها أمّ سيئة حبست طفلها في البيت.
“لا تلومي نفسك كثيرًا. لقد عشتِ من أجل آرون بكلّ ما أوتيتِ من قوّة. بل أظنّ أنّه حان الوقت لتمنحي نفسك بعض التقدير”
“أُقدّر … نفسي؟”
لم تتوقّع أن تسمع مثل هذا الكلام منه.
بل ربّما لم يكن أحدٌ غير والد الطفل قادرًا على قول هذا.
نظرت ديليا إلى كاليوس الذي بات يُظهر نيّة واضحة لتحمّل مسؤوليّة الطفل معها ، و شعرت بيدها تُمسك بطرف تنّورتها دون وعي.
لطالما ظنّت أنّه سبب ألمها ، لكن ربما … ربّما كان العكس هو الصحيح؟
تساؤلات كثيرة أخذت تدور في ذهنها و هي تنظر إلى آرون و كاليوس يتبادلان الضحك كأنّهما عائلة حقيقية.
مشهد بسيط، لكنّه جعل قلبها يرتجف دون سبب.
وضعت أدوات الطعام على الطاولة ونهضت فجأة.
قالت بصوت خافت إنّها ستصعد إلى الطابق الثاني ، و سرعان ما غادرت المكان وكأنّها تهرب.
بعد لحظات من دخولها الغرفة، سُمع طرق خفيف على الباب.
وقفت ديليا وفتحت الباب قليلًا، لتقع عيناها على آرون الذي كان يبتسم ابتسامة مشرقة.
“أمي؟ ماذا تفعلين هنا؟”
“…آرون؟”
قبل قليل فقط، كان يرتدي سروالًا بحمّالات ، لكنّه الآن يرتدي صديريًا أزرق فاخرًا مع كرافات أنيقة كأنّه أمير صغير.
فوجئت ديليا بذلك المظهر الأرستقراطي ، فأمسك آرون بيدها وبدأ يقفز بحماسة.
“هيا بسرعة! أبي بإنتظارك!”
“ماذا؟ هو ينتظرني؟”
“نعم! نعم!”
قادها آرون خارج الغرفة رغم اعتراضها.
حاولت أن توبّخه على الجري ، لكن حماسه جعل كلماتها تتطاير في الهواء ، فكان يضحك ضحكات عالية و ينطلق إلى الأمام بلا توقّف.
“… يا لهذا العناد”
تنهدت ديليا بابتسامة مريرة، لا تعرف إن كان العناد موروثًا من أبيه أم منها.
و عندما وصلا إلى الطابق الأرضي، كان كاليوس واقفًا عند الباب مستندًا إلى الحائط.
كان يرتدي نفس الكرافات الزرقاء، والصديري ذاته، وفوقه معطف داكن.
منظر الاثنين معًا، وكأنّهما نسخة طبق الأصل، جعل يد ديليا ترتعش لا إراديًّا.
“أنتما الاثنان …”
هل تُسمّى هذه ‘ملابس مطابقة’؟
بدا وكأنّهما خرجا معًا من لوحة عائليّة، يرتديان زِيًّا أنيقًا للذهاب إلى البحر، ما دفع ديليا إلى إطلاق تنهيدة من الدهشة.
كانت في السابق تُريد أن تُبقي آرون داخل حدود هذا الكوخ ، لكنّها باتت تدرك أنّ ذلك ليس في صالحه، ولهذا لم تجد بُدًّا من الإيماء برأسها ببطء، و خطت خطوةً إلى الأمام.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل "93"