إذا كُنت ترغَب فِي أن تترُكَني - 9
حدَّقت “دِيليا” بـ”كالياس” لفترة طويلة، ثم سألت بحذر وهي تحاول إخفاء ارتجاف يديها:
“ماذا تعني بذلك؟”
ابتسم “كالياس” بسخرية قائلاً:
“مثيرٌ للضحك. هل ظننتِ أنني لا أعرف أن علاقتكِ بعائلتكِ قد توترت؟”
اتسعت عينا “ديليا” بصدمة.
حدَّقت بـ”كالياس” مذهولة، ثم بعد لحظات هزّت رأسها نفيًا.
“لا، هذا ليس صحيحًا.”
“أتعنين أنني أقول هراء؟”
“لابد أن هناك سوء فهم. لماذا قد أبتعد عن عائلتي؟ إنهم… عائلتي الوحيدة…”
قبضت “ديليا” يديها بقوة، وبدا عليها التوسل أكثر من أي وقت مضى. نظر إليها “كالياس” دون أي أثرٍ للابتسامة، ثم قال بنبرة منزعجة:
“أنتِ سيئةٌ للغاية في الكذب.”
ولكن لماذا؟ كلما استمرت “ديليا” في الحديث، كلما زادت مشاعر “كالياس” سوءًا. أمسك بوجهها الصغير بيدٍ واحدة، ثم همس بصوت منخفض:
“أنتِ لا تدركين كيف تبدو تعابير وجهكِ، أليس كذلك؟”
“أه… لحظة…!”
“استمعي جيدًا. إن أردتِ خداع الآخرين، فعليكِ أن تخدعي نفسكِ أولًا.”
مرر “كالياس” يده ببطء من وجنتيها البيضاء إلى وجنتيها البارزتين، حتى وصل إلى زاوية عينيها، حيث مسح دموعها التي تجمّعت هناك.
“إن كنتِ تريدين خداعي، فعليكِ أن تفعلي ذلك بصدق. لن أنخدع بأكاذيب سخيفة.”
“… لا أفهم ما الذي تعنيه.”
“استخدمي ذلك العقل البليد خاصتكِ وفكّري جيدًا. لماذا أُقدّم لكِ نصيحة بكل هذه اللطافة؟”
بقي “كالياس” صامتًا وهو يحدّق بها للحظة، ثم استدار دون أي تردد. كان ظهره، الذي مضى به نحو الأمام دون أن يلتفت، أكثر صلابة وحزمًا من أي وقت مضى.
بعد مغادرته قاعة الاستقبال، بقيت “ديليا” وحيدة، وضعت يدها على قلبها المرتجف.
تلاحقت الهجمات عليها دون أن تُمنح فرصة لالتقاط أنفاسها، مما جعل عقلها يغدو فارغًا تمامًا، وكأنه صفحة بيضاء.
ديليا مسحت جبينها المتعرق و هي تتكئ على باب غرفة الاستقبال. كانت الأيام تمضي كسلسلة متواصلة من اللحظات التي لا تترك مجالًا لالتقاط الأنفاس.
بصراحة، لم تكن ترغب في الكذب.
لكنها، في الوقت نفسه، لم تستطع التحدث عن مشاكل عائلتها المتوترة مع أسرتها الأصلية.
ففي وضعٍ كهذا، حيث لا يظهر سوى العداء تجاهها، إن تم اكتشاف نقطة ضعف أخرى، فمن المؤكد أنهم سيطالبون بالطلاق دون أن يتركوا لها مجالًا للتحرك.
نهضت ديليا مترنحةً من مكانها. ثم صَفَعَت وجنتيها، محاولةً الإمساك بأفكارها المبعثرة.
“……لا تستسلمي بهذه السرعة.”
ما زال الأمر في بدايته فقط.
في ظل فقدان كالياس لذاكرته، لم يكن أمامها سوى التحمل قدر الإمكان.
لم يكن بإمكانها مشاركة أي معلومات جيدة مع رجلٍ يُلوِّح لها بأوراق الطلاق، لذا كان عليها أن تصمد حتى يعود إلى وعيه بالكامل.
كان كالياس، حين كانت ذاكرته سليمة، على علمٍ بكل شيء ورغم ذلك قبل بها، أما الآن، وهو فاقدٌ للذاكرة، فقد بات مثل الضبع المتربص باصطياد نقاط ضعفها.
لم تكن ترغب في ارتكاب حماقةٍ تُشبه إطعام وحشٍ جائع، لذا أخذت نفسًا عميقًا ورتبت مظهرها الفوضوي.
“هل ينبغي عليّ التواصل مع العائلة قريبًا…؟”
رغم أنها كانت تشك في أن يصغي إليها، إلا أن الطرف الأضعف دائمًا هو من يتحرك أولًا.
قبل أن يتمكن شقيقها من التفوّه بأي شيء استنادًا إلى معلومات مغلوطة، كان عليها أن تسيطر على الوضع بنفسها.
أدارت ديليا رأسها ونظرت عبر النافذة. كانت السماء المشتعلة عند الغروب تعكس ما يعتمل في صدرها من اضطراب، فأغمضت عينيها بإحكام.
***
في فجر اليوم التالي، استيقظت ديليا باكرًا ونظرت إلى المكان الفارغ بجانبها. مرّرت يدها على السرير البارد، وعلا وجهها تعبيرٌ كئيب.
“لم يعد يأتي إلى هنا على الإطلاق بعد ذلك، هاه…”
رغم أنها كانت تحمل بعض الضغينة تجاه كالياس، الذي لم يكن يبحث عنها إلا عندما يُطالِب بالطلاق، إلا أنها لم تستطع تجاهل شعورها بالذنب لأنه فقد ذاكرته بسببها.
بينما كانت ديليا غارقة في أفكارها لفترةٍ طويلة، سُمِع صوت طرقٍ خفيفٍ على الباب، ثم دخلت سارا وهي تحمل ماءً دافئًا لغسل الوجه.
بعد أن غسلت ديليا وجهها بالماء الدافئ، انتقلت إلى غرفة الملابس القريبة، حيث تولّت سارا الاهتمام بملابسها وتزيينها بالمكياج.
كانت بشرة ديليا بيضاء تمامًا مثل شعرها، مما جعل أي ثوب ترتديه يبدو مناسبًا لها. وبعد تفكيرٍ قصير، عادت سارا وهي تحمل ثوبًا في كلتا يديها.
كان الفستان، المزخرف بعددٍ من الأحجار الكريمة، لا يبدو مفرط الفخامة ولا بسيطًا للغاية. أما البروش الأرجواني المثبّت في منتصف الصدر، فقد أضفى لمسةً مميزةً على أجواء ديليا الراقية.
نظرًا لأن الوقت لا يزال صباحًا، وضعت ديليا مكياجًا خفيفًا، ثم ارتدت الثوب فورًا. وعندما نظرت إلى انعكاسها في المرآة، بدت أشبه بأميرةٍ حقيقية.
“يا إلهي، إنكِ جميلةٌ للغاية!”
“أشكركِ دائمًا. بفضلكِ أتمكّن من تجربة مثل هذه الفساتين.”
حين حدّقت ديليا بالثوب بنظراتٍ متفاجئةٍ، وكأنه مختلفٌ عن المعتاد، بدت سارا مترددةً قليلًا، ثم حكّت رأسها بارتباك.
“في الحقيقة… هناك أمرٌ أودّ إخباركِ به.”
أثناء قيامها بتعديل مظهر ديليا ، ترددت سارا للحظةٍ، ثم فتحت شفتيها بحذر.
“هذا الثوب… لقد طلبه الدوق بنفسه من أجلكِ، سيدتي.”
“… ماذا؟ هو؟!”
لم تستطع ديليا إخفاء تعبيرها المصدوم. كان الأمر طبيعيًا، إذ كانت احتمالية أن يُقدّم كالياس لها هديةً كهذه ضئيلةً للغاية.
وحين أمالت رأسها بحيرة، تحدثت سارا بنبرةٍ تنمّ عن الأسف.
“سيدتي، أنتِ دائمًا ما تكونين مقتصدةً للغاية. لذلك، الدوق بنفسه زار مشغل الخياطة وطلب تصميم هذا الفستان خصيصًا لكِ.”
لطالما كانت ديليا تفضّل تناول وجبةٍ لذيذة على أن تهتم بمظهرها، لذا لم تكن تتوقع أبدًا أن كالياس قد اختار لها فستانًا بنفسه.
نظرت إلى الفستان بعينين مليئتين بالدهشة، ثم رفعت رأسها فجأة، وسألت بصوتٍ يحمل نبرة أملٍ خافتة:
“إذًا، متى تمّ طلب هذا الفستان؟”
“أ- آه، أممم…”
توقعت للحظة أن يكون كالياس، رغم فقدانه لذاكرته، قد قدّم لها هذه الهدية. لكن تعبير سارا المتردد كان كافيًا ليكشف لها الحقيقة.
“……حسنًا. على أي حال، إنه جميلٌ حقًا. لا شك أن ذوقه رائع.”
هل عليها ارتداء هذا الفستان والذهاب لرؤية كالياس؟
كانت تعلم أنه من غير المحتمل أن تحصل على ردّ فعلٍ جيد، لكنه كان قد اختاره بنفسه، فربما يساعده ذلك على استعادة بعض الذكريات…
بينما كانت ديليا تستجمع شجاعتها للتوجه إلى مكتب كالياس، أخبرتها سارا أن الدوق بانتظارها بالفعل في غرفة الطعام.
…كانت متأكدةً أنه سيكون بمفرده مجددًا اليوم ، لذلك لم تستطع تصديق أن كالياس ينتظرها بالفعل.
بينما كانت ديليا تحدّق بشرودٍ، ترمش جفونها دون وعي، سارعت إلى التحرك بخطواتٍ متعجّلة. ولم يمضِ وقتٌ طويل حتى وجدت نفسها وجهًا لوجه مع كالياس، الذي كان ينتظرها بالفعل.
“لقد تأخرتِ عن المعتاد.”
“نعم؟ ما الذي تعنيه بذلك؟”
“أنتِ دائمًا ما تنتقلين إلى غرفة الطعام في الساعة السادسة.”
بصراحة، كانت ديليا مذهولة.
كان صحيحًا أنها تتوجه إلى غرفة الطعام حوالي الساعة السادسة صباحًا، لكن هذا لا يعني أنها تناولت الطعام مع كالياس من قبل، خاصة بعد فقدانه للذاكرة.
وكأن كالياس أدرك ارتباكها، رسم حدودًا واضحة على وجهه ببرودٍ قائلاً: “ألم تدركي أنني كنتُ أراقب كل تحركاتكِ؟”
شعرت ديليا بدوارٍ مفاجئ.
إذن، كان كالياس يراقب تصرفاتها؟ و لكن ، منذ متى؟ و ما السبب الذي يدفعه لمراقبة شخصٍ يعيش في القصر نفسه؟
رغم أنهما زوجان من الناحية القانونية، إلا أن الطريقة التي يعاملها بها كالياس كانت أشبه بمراقبة مجرم، مما جعل أصابعها ترتجف قليلًا.
“سأدخل في صلب الموضوع مباشرةً. لم آتِ إلى هنا لأتناول الطعام معكِ.”
أغلق كالياس الصحيفة التي كان يقرؤها وألقاها بلا مبالاةٍ على الطاولة، ثم نهض من مقعده واقترب من ديليا.
في اللحظة التي وصل فيها عطره المألوف إلى أنفها، شعرت ديليا بالدوار. عندها، أخرج كالياس ظرفًا من داخل معطفه وأمسكه بيده.
“تحققي منه بنفسكِ.”
“هذا…؟”
تناولت ديليا الرسالة، وقد ارتسمت على وجهها ملامح الحيرة. لكن بمجرد أن رأت الختم المطبوع عليها، تجمّد جسدها بالكامل.
لم يكن بإمكانها نسيان هذا الختم المميز الذي ألِفَته منذ طفولتها.
بقلقٍ واضحٍ في عينيها، نظرت ديليا إلى الاسم المكتوب على الظرف:
[جيريمي بليك.]
“…أخي؟”
بمجرد أن قرأت الاسم، بدأت حدقتاها بالارتجاف.
جيريمي لم يكن مجرد شقيقها الوحيد، بل كان أيضًا سيد عائلة بليك.
عندما لاحظ كالياس تصلّب ملامحها، قاطع ذراعاه وأطلق ضحكةً ساخرة.
“لماذا أرسل لكِ رسالةً الآن بعد كل هذا الوقت؟”
بدأت يد ديليا التي تحمل الرسالة بالارتجاف. بقيت تحدّق بإسم جيريمي للحظات، إلى أن أفلتت الرسالة من بين أصابعها في النهاية.
عندما همّت ديليا بالانحناء لالتقاطها، دوّى صوتٌ مفعمٌ بالازدراء فوق رأسها.
“أما آن الأوان لتكوني صادقةً؟ أنتِ تعرفين الإجابة جيدًا.”
رفعت ديليا رأسها ببطء، ونظرت إلى أعلى.
عينا كالياس المتوهجتان بالاحتقار كانتا تخرقانها بنظراتٍ حادة، فوق جسده القوي المتين.
“هل من الممكن أنكَ تشكُّ بي؟”
“وإلا؟ أليس من السخف أن أضع ثقتي بكِ؟”
شعرت ديليا بوخزةِ ألمٍ تخترق صدرها.
كانت تستشيط غضبًا من كالياس، الذي لم ينفكّ عن توجيه الكلمات الجارحة إليها.
تنفّست بعمق، محاولةً كبح اضطرابها.
“بمجرد أن استيقظتُ بعد فقدان ذاكرتي، وصلتني رسالةٌ من عائلتكِ… لا أدري إن كنتِ تتظاهرين بالسذاجة، أم أنكِ ببساطة حمقاء.”
لم يعد بوسع ديليا تحمل الإهانات المتواصلة.
نهضت من مكانها، وقد احمرّت عيناها من الغضب.
“هل كنتِ تخططين للاستيلاء على عائلة هيلديبرانت بمساعدة شقيقكِ؟”
“ما الذي تقصده بكلامك هذا؟!”