“…هل يُعقل…؟”
تلك العيون الزرقاء التي كانت دائمًا تنظر إليّ ببرود. و شعره الأسود الذي لا يتلّون بأيّ شيء. و أخيرًا ، تلك الصورة التي كان يصرخ فيها بإسمي بيأس.
كنتُ أظنّ أنّه سيعيش جيدًا، فهل حدث له شيء؟ لكن ، لم يكن هناك سبب للقلق عليه ، فهزّت ديليا رأسها بقوّة.
ثمّ جلست متكوّرة على الأريكة، وبدأت تمحو أفكارها عن كاليوس واحدًا تلو الآخر.
كأنّ رغبتها قد أُحسّت، شعرت فجأة و كأنّ شخصًا يطرق بطنها ، التي كانت هادئة قبل لحظات.
تفاجأت ديليا بهذا الإحساس ، و نهضت.
داعبت بطنها ، حيث شعرت بحركة الجنين ، بحذر.
“هل تقول لي ألّا أجعل والدكَ كائنًا غير موجود؟”
لم يُظهر الطفل أيّ ردّ. لكن، توقّف ألم بطنها كان ردًا كافيًا.
حتّى طفلها الذي لم يُولد بعد يشتاق إلى والده ، فشعرت ديليا بالذهول و بالقلق في الوقت ذاته.
ماذا لو ، في يوم من الأيّام، اكتشف ذلك الرجل طفلها الذي وُلد …
لا، مستحيل. ما دام كاليوس قد استقدم امرأة جديدة ، فلن يطمع بطفلها أبدًا. في تلك اللحظة ، شعرت بألم مختلف عن السابق ، ثمّ إحساس بشيء يتدفّق على فخذيها.
أنزلت ديليا رأسها لأوّل مرّة لهذا الإحساس. رأت ماءً عديم اللون يتساقط من أسفل ، يتدفّق على فخذيها.
أدركت ديليا فورًا. ما يجري على ساقيها هو سائل شفّاف ، و هذا يعني أنّ طفلها سيخرج إلى العالم قريبًا.
استدارت ديليا بسرعة، وركضت متعثّرة نحو لورا في المطبخ.
“لورا، لورا!”
“ماذا؟ ما الخطب…”
أغلقت لورا فمها عندما رأت السائل يتدفّق بين ساقي ديليا.
ألقت أدوات التنظيف، وأمسكت كتفي ديليا بقوّة.
“ليا، استمعي جيدًا. يبدو أنّ الولادة ستبدأ قريبًا.”
“…ماذا؟ بهذه السرعة؟”
“الولادة عادةً مفاجئة، لكن بما أنّها ولادة مبكرة، فهي أكثر مفاجأة. لا تذعري، لنبدأ التحضير للولادة.”
لكن يد لورا كانت ترتجف أكثر. أدركت ديليا متأخّرة مدى الضغط على لورا، التي اعتزلت الطب منذ زمن.
“لورا، أنا آسفة. بسببي…”
“ماذا؟ ما هذا الكلام!”
في خضمّ الموقف المفاجئ ، بدت ديليا مشوّشة ، فأمسكت لورا يدها ، و قالت إنّه ليس وقت التوقّف ، و أخذتها إلى غرفتها في الطابق الثاني.
بعد قليل، أحضرت كامبل من المكتب، وجلب وعاءً كبيرًا، مناشف نظيفة، وأدوية للطوارئ.
نظرت ديليا إلى المشهد بهدوء، واستلقت على السرير.
استمعت إلى أصوات الحركة المزدحمة خلفها، وأغمضت عينيها ببطء.
‘…هل يمكنني فعل هذا حقًا؟’
ماذا لو وُلد الطفل بشكل خاطئ بسبب خطأها؟
كيف ستتصرّف حينها؟ كانت تعلم أنّ عليها تقوية قلبها كأم، لكن الأفكار القلقة سيطرت على ذهنها.
‘لكن يجب أن أكون قويّة.’
لا يجب أن تؤذي طفلها بهذه الولادة، ولا أن تُصاب هي بشيء.
نظرت ديليا إلى كامبل وهو يحقن ذراعها، وزفرت ببطء.
حان الوقت أخيرًا للقاء الطفل الذي رأته في أحلامها.
***
‘كاليوس، كاليوس.’
‘…’
‘حقًا، إلى متى ستُبقي عينيكَ مغمضتين؟’
فتح كاليوس عينيه عند سماع صوت مشرق. رأى ديليا ، ترتدي فستان زفاف كما في السابق ، تبتسم ببراءة.
نظر كاليوس حوله. كما في المرّة السابقة ، كانت ديليا منعزلة وسط حشد الضيوف. أدرك فورًا أنّ هذا حلم.
‘ماذا ستقولين لي هذه المرّة؟’
‘ماذا؟ ما معنى هذا؟’
لم يجب كاليوس.
اكتفى بتضييق عينيه، ونظر إلى ديليا الماضي بصمت.
قد تبتسم الآن، لكنها ستلومه قريبًا.
ستسأله لمَ خانها، وتطالبه بالاختفاء.
أطرق كاليوس رأسه، منتظرًا ما سيأتي.
فجأة، لمست يد ديليا الدافئة جبهته.
‘غريب. لا يبدو أنّ لديكَ الحمّى…’
‘…’
‘قلتُ لكَ مرارًا. لا تمرض في يوم زفافنا، اعتنِ بصحّتكَ.’
…ما هذا الموقف؟ في المرّة السابقة، لامته، فلمَ تنظر إليه الآن بعيون قلقة؟ هل تتغيّر الأحلام قليلًا في كلّ مرّة؟
إذا كان الأمر كذلك، ما الفرق بين ديليا الواقع وديليا الحلم؟
أمسك كاليوس يد ديليا التي تقيس حرارته، وضعها على خدّه، وأغمض عينيه بهدوء.
‘لقد اشتقتُ إليكِ حقًا.’
‘…ماذا؟’
‘الحياة بدونكِ كانت جحيمًا. لذا، حتّى لو كان هذا حلمًا، لا بأس. إذا أمكنني البقاء معكِ، فليكن إلى الأبد.’
اتّسعت عينا ديليا.
نظرت إلى كاليوس بدهشة، وأغلقت فمها.
ثمّ أمسكت يده الأخرى بحذر.
‘لا أفهم كلامكَ، لكن يمكنني الشعور بهذا بوضوح.’
‘…’
‘كاليوس، أشعر أنّكَ تريد لقائي وتشتاق إليّ. وأنّكَ لا تريد تركي مرّة أخرى.’
اتّسعت عينا كاليوس بشكل لا يُصدّق.
ارتجفت أطراف أصابعه لأنّها تعرفه أكثر ممّا يعرف نفسه.
جثا كاليوس على ركبة ، و أمسك يديها ، و صرخ بيأس: ‘ديليا ، لنبقَ معًا إلى الأبد’
‘آه …؟’
‘لن أؤذيكِ مجدّدًا. سأسعى لتحقيق كلّ ما تريدينه.’
قبّل كاليوس يدها.
أذهلها يأسه، فبقيت صامتة لفترة قبل أن تتحدّث.
‘لا، ليس هذا. لم آتِ إلى حلمكَ لهذا…’
نظرت ديليا إلى كاليوس ، الذي بدا منهكًا بظلال تحت عينيه ، و عضّت شفتيها.
نظرت إلى يديهما المعتصرتين بصمت، وتحدّثت بصعوبة: ‘عد إلى الواقع الآن.’
‘…ماذا؟ ماذا تقصدين-‘
‘لم تجدني بعد. سأنتظركَ حتّى النهاية.’
دفعت ديليا كتفي كاليوس، الذي كان مشوّشًا، بقوّة.
تحوّل مكان الزفاف إلى جرف.
ابتسمت ديليا بصعوبة وهي تراه يسقط.
‘شكرًا، و … أحببتكَ.’
على عكس موسيقى الزفاف في الحلم، سمع صوتًا عاجلًا.
أدرك كاليوس حينها. لقد أغمي عليه أمام لوحة ديليا، ولن يستطيع لقاء ديليا الحلم بعد الآن.
كان يظنّ أنّه مستعدّ للبقاء محبوسًا في الحلم إذا أمكنه لقاء ديليا، لكن فكرة أنّها أنقذت حياته جعلت قلبه يؤلمه.
رفع كاليوس جفنيه الثقيلين ببطء.
نظر إلى السقف الأبيض، وغطّى عينيه، وعضّ شفتيه.
“…ديليا…”
عند صوته الضعيف، استدار الناس في الغرفة.
أدركوا أنّه استفاق، فبدَوا مندهشين.
“سموّ الدوق، هل أنتَ بخير؟”
“…أين أنا؟”
“في غرفة نومكَ. أغمي عليكَ أمام لوحة السيّدة…”
لم يستطع جيفري إكمال كلامه. كيف يقول إنّه بكى ساعات أمام لوحة ديليا ثمّ أغمي عليه؟ ركع جيفري ، الذي بدا ضعيفًا على غير عادته ، أمام كاليوس.
“لو حدث لكَ مكروه، لما وجدنا السيّدة أبدًا. من أجلها، أرجوكَ اعتنِ بنفسكَ!”
اتّسعت عينا كاليوس.
إذا كانت ديليا حيّة، فعليه السعي لأجلها. لكن، بسبب صعوبة الأمر، عاش أشهرًا كمجنون. ربّما لهذا، حتّى في الحلم، دفعته ديليا، التي كرهته، للعودة.
لقد أعطته فرصة أخيرة.
فرصة لتكفير ذنوبه، ولإعادة ديليا، التي قد تُنسى، إلى الواجهة.
تذكّر كاليوس خياره الأحمق ، و عضّ شفتيه. فكّر في ديليا التي قالت إنّها تحبّه ، و بكى دموعًا صامتة لا نهائيّة.
التعليقات لهذا الفصل "83"