كان ذلك اعتذارًا منه لأخته الصغيرة ، التي اهتمّت به و حمته ، رغم إساءته إلى ديليا الصغيرة.
…لكن ، ماذا فعل كاليوس؟ تزوّجها بحجّة أنّه يحبّها ، ثمّ تسبّب في إلقاء ديليا بنفسها من الجرف بسبب فقدان ذاكرته.
“ما الذي تنوي فعله الآن؟”
“…أرجوكَ، امنحني بعض الوقت. ما زلتُ أبحث عن مكان ديليا.”
تنهّد جيريمي بسخرية.
مرّت أشهر منذ اختفاء ديليا. و مع ذلك ، لا يزال يبحث عن أثرها؟ أين يظنّ أنّ ديليا الآن؟
“يا لها من حماقة. هل نسيتَ كيف اختفت أختي؟”
مرّت ذكرى آخر لحظات ديليا في ذهن كاليوس.
كانت تبتسم و هي تحتضن طفلها في بطنها ، ملقية بنفسها من الجرف. ربّما كانت تريد الهروب منه حتّى لو كلّفها ذلك حياتها.
تذكّر كاليوس شعر ديليا الفضي يرفرف، فأغلق فمه بيده. كانت تصرّفات ديليا بالنسبة إليه صدمة عميقة.
“سنقيم جنازة قريبًا.”
“ماذا؟ جنازة؟”
“أنتَ تعلم، يا سموّك. الإشاعات تنتشر بسبب اختفاء ديليا.”
كانت حياته رماديّة حتّى التقى بديليا، التي غيّرت كلّ شيء.
أضافت ألوانًا زاهية إلى عالمه ، و جعلته يشعر بالحلاوة لأوّل مرّة. لكن إقامة جنازة بسبب الإشاعات؟ وهم لا يعرفون حتّى إن كانت حيّة أم ميّتة؟
“لن أقيم جنازة.”
“…ماذا؟”
تقلّصت جبهة جيريمي، الذي كان يحافظ على هدوئه.
نهض من مقعده، وأمسك كاليوس من ياقته.
قبض يده اليمنى، ووجّه لكمة إلى وجه كاليوس.
“يا سموّك، هل أنتَ عند وعيك؟”
“…..”
“إذن، ستترك أختي، التي لا نعرف إن كانت حيّة أم ميّتة، تُتّهم بالخيانة وتُصبح حديث الناس؟ أنتَ من خانها!”
مسح كاليوس شفتيه بعشوائيّة.
نظر إلى الدم الأحمر على يده بتعبير خالٍ من الإحساس. بدا ذلك و كأنّه يتجاهل كلامه ، فضحك جيريمي بسخرية و شدّ ياقته بقوّة.
“اعلم شيئًا واحدًا. تلك الفتاة، رغم كلّ شيء، أحبّتك!”
نظر جيرمي إلى كاليوس ، ثم استدار تمامًا ، و سار نحو الباب دون تردّد. لكن ، سُمع صوت غير متوقّع.
“…اضربني كما شئتَ. حتّى لو كسرتَ عظامي، لا يهم”
نظر كاليوس إلى الأمام كأنّ شيئًا لم يحدث. اختفى الخضوع الذي أبداه سابقًا، وسار بخطوات طويلة إلى جانب جيريمي.
بحزم، قال: “لكنّني لن أتخلّى عن البحث عن ديليا. سأجدها مهما استغرق الأمر.”
“هه، ماذا…”
كانت عينا كاليوس حادّتين من قريب.
أدرك جيريمي أنّ كاليوس قد جنّ تمامًا، فتعرّق.
“حقًا… لستَ عندَ وعيك.”
بالطبع، لو كان عاقلًا، لأقام الجنازة.
هل يمكن لشخص عاقل، بعد استعادة ذاكرته، أن يصبح مدمرًا ويطارد أثر زوجته طوال اليوم؟
تنهّد جيريمي وهو يرى زوج أخته ينهار بسرعة.
كلاهما، ديليا الميّتة وكاليوس، كانا مجنونين.
مجنونين ببعضهما، لدرجة أنّها اختارت الموت وهو لا يتركها.
كان حبًّا عنيفًا يراه الجميع جنونًا.
“لا تقلق. سأجد ديليا بنفسي.”
عبس جيريمي كأنّه لا يريد سماع المزيد، وقال إنّه سيغادر، وسار نحو الباب.
نظر كاليوس إلى ظهر جيريمي وهو يغادر غرفة الاستقبال، وتصلّب تعبيره ببطء.
***
صرير- ، صرير-
في ظهيرة مشمسة حارقة، جلست ديليا على كرسي هزّاز، تحرّك جسدها بلطف. كانت تمسك كتابًا عن تربية الأطفال، عليه صورة طفل متكوّر.
قرأت ديليا بتركيز عن إرضاع الطفل، تنويمه، وتأثير ذلك على عاطفته.
لو كانت ستلد في القصر ، لكانت استأجرت مربّية ، لكن الوضع الآن مختلف تمامًا، فعليها رعاية الطفل بنفسها.
للصراحة، كانت خائفة.
طريقة تربيتها ستحدّد إن كان الطفل صالحًا أم طالحًا.
شعرت بضغط هائل لأنّ الأمر يعتمد عليها بالكامل.
…و الأكثر قلقًا ، ماذا لو سألها الطفل يومًا عن والده؟ ماذا ستقول إذا سألها أين هو و من هو؟ هل ستقول إنّ والده دوق مرموق في الإمبراطوريّة؟
خشيت أن يدرك الطفل الحقيقة و يتركها.
تنهّدت ديليا، و أغلقت الكتاب.
لو كان والد الطفل موجودًا، لما قلقت هكذا.
بدا غياب زوجها، على عكس الأمهات الأخريات، سخيفًا.
أدارت ديليا رأسها نحو الحديقة المزروعة بالزهور، وتذكّرت حديقة الليلك التي زرعتها مع كاليوس، فأبدت تعبيرًا حزينًا.
ثمّ سارت بسرعة إلى غرفتها في الطابق الثاني كأنّ شيئًا لم يكن.
***
بعد صعود ديليا إلى غرفتها، حلّ الظلام.
بينما كان صمت غريب يعمّ الرواق في الطابق الثاني، ظهرت لورا مع خطوات ثقيلة، حاملة مصباحًا.
اقتربت من باب ديليا، وأصغت إليه طويلًا، ثمّ ابتسمت براحة.
“…آه، لقد نامت على الفور.”
عادةً، كانت ديليا تتقلب لساعات، لكن عدم سماع أيّ صوت من خلف الباب يعني أنّها نامت مبكرًا.
أومأت لورا برأسها مطمئنّة، وانتقلت إلى غرفة الجلوس في الطابق الأوّل، حيث كان زوجها كامبل جالسًا بتعبير جاد.
“عزيزتي، كيف حال ديليا؟”
“يبدو أنّها بخير اليوم. أنفاسها منتظمة، ولا علامات مقلقة.”
وضعت لورا المصباح على الطاولة، وجلست على الأريكة.
شكرها كامبل، وسكب لها شايًا ساخنًا.
“ومع ذلك، يبدو أنّ ديليا تتأقلم جيدًا، أليس كذلك؟”
“نعم، هكذا يبدو. كنتُ قلقة جدًا، لكن لحسن الحظ، لا مشاكل صحيّة كبيرة”
عادةً، السقوط من جرف يودي بالحياة، لكن هبوطها بسلام على الشاطئ الرملي يعني أنّها تملك حظًا استثنائيًا.
“أتمنّى أن تلد الطفل بسلام.”
“آه، حقًا…”
عادةً ، على الأم الحامل أن تأكل و ترتاح وتنام كثيرًا ، لكن رؤيتها تضعف يومًا بعد يوم جعل قلب كامبل ينقبض.
“حقًا ، هذه الفتاة بحاجة إلى زوج …”
“عزيزي ، اتّفقنا على عدم الحديث عن هذا”
عندما استيقظت ديليا أوّل مرّة ، سألتها لورا عن والد الطفل ، فتصلّب وجهها و أصيبت بفرط التنفّس.
أدرك الزوجان أنّ ذلك نابع من صدمة، فأغلقا فمهما.
منذ ذلك الحين، لم يسألا عن والد الطفل أبدًا.
لكن رؤيتها في حالة هشّة جعلتهما يشعران أنّهما لا يستطيعان السكوت.
و بعد قليل ، دوّى صوت “كوادانغ!” الصاخب من الطابق الثاني.
“بدأ الأمر أخيرًا الليلة أيضًا.”
“يبدو أنّ المراقبة وحدها لا تكفي…”
نظر الزوجان إلى بعضهما ، ونهضا.
صعدا الدرج بسرعة إلى غرفة ديليا.
تنفّست لورا بعمق، و طرقت الباب.
“ليا ، هل أنتِ بخير؟”
“….”
لم يأتِ ردّ على سؤالها.
بينما كانت لورا مرتبكة، سُمع صوت سقوط شيء آخر من الغرفة.
فتح الزوجان الباب دون تردّد، متجاهلين قول “أعتذر”.
رأيا ديليا ملقاة على الأرض ، مطأطئة رأسها ، ترتجف وتتنفّس بصعوبة.
ساندتها لورا بسرعة.
“هل سقطتِ أثناء نومكِ؟ هل أنتِ مصابة؟”
“…كالـ…ـس”
“ماذا قلتِ للتو؟”
رفعت ديليا رأسها بتصلّب، كدمية معطّلة، ونظرت إلى لورا بعيون فارغة.
“كاليوس، أين هو…؟”
كلّ ليلة ، كانت تهمهم بإسم كاليوس.
تبكي ، تسأل لمَ تجاهلها ، و كيف أهمل طفلها في بطنها.
عند رؤيتها ، أدركت لورا.
كاليوس ، زوجها ، هو من دفعها إلى حافة الجرف.
التعليقات لهذا الفصل "81"