كان آخر ما رأته هو كاليـوس يمد يده نحوها ، ثم أغمضت ديليا عينيها ببطء.
هذا يكفي ، هذا كل ما أحتاجه.
اللحظات السعيدة مع كاليـوس ، و السنوات التي قضياها معًا في القصر، كلها انتهت الآن.
لقد كانت حياتها مكرسة فقط لكاليـوس ، و الآن بعد أن هربت منه، لم يعد هناك سبب يجعلها تعيش. لهذا السبب ألقت بنفسها من الجرف و اختارت الموت …
لكن، ما هذا السقف الذي تراه عندما فتحت عينيها ، وما هذا الألم الشديد الذي يُشعِرها و كأن جسدها قد تعرض للضرب؟
ظلت ديليا تحدق في الفراغ و هي تطرف بعينيها ببطء ، ثم أدارت رأسها ببطء. عندها رأت داخل منزل قديم تظهر عليه آثار الحياة هنا وهناك.
و بينما كانت تشعر بالحيرة من شكل المكان الذي لا يبدو كأنه الجنة التي وصلت إليها بعد الموت ، سمعت صوت الباب المغلق و هو يصدر صريرًا ويفتح.
“أوه، لقد استيقظتِ أخيرًا”
دارت ديليا بعينيها بسرعة ، فرأت امرأة في منتصف العمر تطلق زفرة ارتياح و هي تنظر إليها.
حينها فقط أدركت ديليا أن ما يحدث ليس حلمًا ، فرفعت الجزء العلوي من جسدها.
و ما إن بدأ الألم يضغط على صدرها ويجعلها تلهث ، حتى أسرعت المرأة إليها و ربتت على ظهرها.
“أعتذر إن كنتِ قد شعرتِ بالذعر. لقد مرّ أكثر من أسبوع منذ أن انهرتِ، لذلك كنت قلقة”
“…ماذا؟ أسبوع؟”
في البداية، ظنت أن سمعها خدعها. لم تصدق أن أسبوعًا كاملاً قد مضى منذ أن انهارت ، و ليس مجرد يوم واحد.
وبينما كانت تحدق في الخارج عبر النافذة التي تغمرها أشعة الشمس، وضعت المرأة الوعاء الذي كانت تحمله بجانبها وجلست.
“لا أعلم من أين أبدأ الحديث”
“…”
“في الحقيقة، لقد وجدناكِ على الشاطئ قرب النهر. ناديناكِ مرارًا ولكنكِ لم تجيبي، فعرفنا أنكِ فاقدة للوعي”
منذ حوالي أسبوع ، كان زوجان في نزهة على ضفاف النهر ، ولاحظا شخصًا مستلقيًا على الرمل.
في البداية، ظنا أنه حيوان بري ، لكنهما صُدما عندما اكتشفا أنها امرأة مغمى عليها – كانت ديليا.
سألاها مرارًا عن حالها، وحاولا التحدث إليها، لكنها لم تستفق ، إذ كانت مصابة ومغمى عليها.
فنقلاها بسرعة إلى منزلهما.
و بعد أن بقيت فاقدة للوعي لأكثر من أسبوع ، فتحت ديليا أخيرًا عينيها ، و تنهدت المرأة بإرتياح عند رؤيتها تستفيق.
… في النهاية ، كان قدري أن أعيش.
في الحقيقة ، لم تكن تريد الموت. كانت ترغب في أن تبني عائلة سعيدة و تصبح أمًا جيدة من أجل الطفل في رحمها.
لكنها لم تستطع تخيل مستقبلها مع كاليـوس ، و لذلك لم تجد خيارًا سوى أن تقفز من الجرف مع طفلها.
الآن وقد انتهى كل شيء بينها وبينه بشكل مأساوي ، أصبحت أفكارها مشوشة. لم يتبقَ لها شيء سوى الطفل.
حين انتقل نظرها إلى بطنها المسطح ، ابتسمت المرأة مطمئنة لها.
“لا تقلقي. الطفل بخير”
“ماذا؟ كيف عرفتِ …؟”
“رغم أنني أبدو هكذا الآن ، كنت طبيبة مشهورة في شبابي. و عندما فحصت نبضكُ ، شعرتُ أنكِ حامل”
أن تكون منقذتها بعد السقوط من الجرف طبيبة ، بدا وكأنه أمر يصعب تصديقه ، ما جعل عيني ديليا تتسعان دهشة.
و بينما كانت تمسك بطنها و تغرق في التفكير ، حركت شفتيها بلطف و سألت المرأة ،
“ما … اسمكِ؟”
“آه، أنا لورا كيتريس. يمكنكِ مناداتي لورا فقط”
“نعم، لورا. شكرًا جزيلاً على إنقاذي.”
بدأت تشعر بالرهبة عند التفكير في أنها ربما لم تكن لتستيقظ أبدًا لولا أن المرأة رأتها ذلك اليوم.
و أدركت مدى تناقض الإنسان ، فعلى الرغم من رغبتها بالموت، إلا أن قلبها بدأ ينبض بقوة لأنها بقيت على قيد الحياة.
“لا أعرف لماذا قمتِ بذلك ، لكن بما أنكِ كنتِ حاملاً عندما سقطتِ، فلا بد أن هناك قصة وراء الأمر”
صمتت ديليا عند كلمات لورا.
و إذ أدركت لورا أن هذا الصمت هو الجواب ، ربتت على كتفها بتعبير حزين.
“ابقَي هنا لبعض الوقت. لا يمكنني أن أطرد امرأة حامل من المنزل، أليس كذلك؟”
“حـ …حقًا؟”
“بالطبع! لست ممن يتراجعون عن كلامهم، فلا تقلقي”
عند كلمات لورا ، شدت ديليا الغطاء الذي يكسوها بيدها.
وترددت قليلًا ثم أعربت عن شكرها مجددًا بابتسامة خجولة.
“سأنزل إلى الطابق الأول الآن. لا بد أنكِ جائعة بعد أن استيقظتِ للتو”
قبل لحظات لم تكن تشعر بالجوع ، لكن بعد كلمات لورا ، اجتاحتها موجة من الجوع المفاجئ. وضعت ديليا يدها على بطنها سريعًا خشية أن يصدر صوت.
“لدي … سؤال أود طرحه”
“همم؟ سؤال؟”
“هل … جاء رجل للبحث عني بعد أن انهرتُ؟”
ترددت لورا قليلاً ثم هزت رأسها نافية.
شعرت ديليا براحة عميقة و زفرت.
بما أنها سقطت من الجرف ، فمن المؤكد أن الجميع افترض أنها ماتت مع طفلها.
ومع هذا، أقسمت ديليا أنها لن تكون دمية في يد كاليـوس مرة أخرى، وشعرت بالاطمئنان في قلبها.
لكن … لماذا إذًا هذا الخوف المجنون يندفع بقوة نحوها؟
ماذا لو أنه عثر عليها في النهاية؟ ماذا سيكون مصيرها عندها؟
و بينما تتلاحق الأفكار في رأسها دون توقف ، بدأت الدموع تتساقط من عينيها المملوءتين بالذعر.
لم تعد هي دوقة هيلدبرانت. كانت الآن مجرد أم عادية ، ديليا ، تعيش و تتحرك فقط من أجل طفلها.
ولهذا، يجب أن تكون هذه المرة الأخيرة التي تذرف فيها الدموع بسبب كاليوس.
ابتسمت ديليا بهدوء وهي تشكر في سرها الطفل الذي نجا بأمان في أحشائها.
****
في غرفة مظلمة لا يظهر فيها أي بصيص من الضوء ، كان كاليوس يجلس على الأريكة دون أن يخلع حتى معطفه.
لو كان الأمر كالمعتاد، لكان قد قضى وقته في العمل حتى وقت متأخر، لكنه لم يفعل شيئًا منذ أيام. لم يكن يفعل شيئًا سوى التحديق الحاد في الفراغ بعينين محتقنتين بالدم.
وفي يده كانت هناك ورقة مهترئة وكأنه سبق أن رآها عدة مرات. كانت ورقة بحث مرفقة بصورة لديليا ومحتواها يشير إلى أنها مفقودة.
فوجئ النبلاء الذين رأوا منشور البحث.
ما الذي يحدث؟ هل يعقل أن الدوقة قد هربت؟ بدأت أوساط المجتمع الراقي تضج بالحديث.
لكن كاليوس تجاهل كلامهم. ما كان يهمه الآن أكثر من أي شيء هو إيجاد ديليا التي اختفت.
و هكذا، بحث عنها لأيام دون أن ينام أو يأكل.
ومع استمرار اختفاء ديليا دون أي أثر، اقترب جيفري بحذر من كاليوس ليقترح عليه التوقف عن البحث.
عند سماع كلمات جيفري ، ظهرت تجاعيد بين حاجبي كاليوس. و عندما بدأ يقبض على سيفه بقوة ، خطرت في باله فجأة كلمات قالتها له ديليا ذات يوم وهو ينظر إليها
«كاليوس ، أنا أعلم أنك شخص طيب. ألن يكون من الأفضل لو أصبحت أكثر لطفًا مع من حولك؟ حتى لو كنت صارمًا أو باردًا حين يتطلب الأمر ، حاول الاستماع لكلمات من يقلق عليك حقًا»
وفي النهاية، خفف كاليوس من قبضته على السيف.
بعد سقوط ديليا من على الجرف ، لم يُعثر على جثتها في أي مكان. فتوصل كاليوس إلى نتيجة مفادها أنها مفقودة ، و استمر يتذكر ذكرياته معها.
ديليا وهي تبتسم له براحة بعد انتهاء حفل الزفاف ، ديليا التي وضعت يدها على صدرها بفزع بسبب طائر مر بسرعة أثناء نزهة ، ديليا التي بكت قائلة إن كل شيء كان خطأها عندما مات الحيوان الذي كانت تربيه.
وبينما يستعيد كاليوس كل هذه الذكريات ، مرر يديه على وجهه تعبًا.
لقد بذل جهده للفوز بقلب ديليا ، لكنه عندما فقد ذاكرته ، أهانها و داس على مشاعرها. شعر و كأنه نفاية يجب التخلص منها.
حاليًا ، ما ينبغي عليه فعله هو العثور على ديليا المختفية ، التأكد من أنها بخير دون أن يصيبها مكروه ، ثم … طلب الغفران؟
لا، هل يجرؤ حتى على طلب المغفرة منها؟
لم يكتفِ بطلب الطلاق منها ، بل أدخل امرأة أخرى إلى حياته، و ديليا التي لم تستطع تحمل ذلك، انهارت و ألقت بنفسها للهلاك.
والآن يريد منها أن تسامحه؟ هذا بحد ذاته إهانة لها.
أغمض كاليوس عينيه بألم شديد و عض شفتيه حتى سال الدم منهما.
في تلك اللحظة، وفي وسط الصمت الذي كان يخيم على الغرفة، سُمِع صوت طرق مهذب على الباب.
استغرق كاليوس وقتًا وهو غارق في أفكاره ، ثم أدار رأسه ببطء بإتجاه الصوت.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل "78"