حمل كاليـوس ديليا على ظهره ، و اندفع بها مسرعًا نحو عربة العائلة.
في الظروف العادية ، كان من الطبيعي أن يترك مهمة القيادة لسائق العائلة المحترف ، لكن في ظل هذا الوضع الطارئ ، قرر أن يتولى الأمر بنفسه.
وبعد أن وضع ديليا المغمى عليها في العربة، أمسك بلجام الخيل، وانطلق بها بأقصى سرعة.
وبما أنه كان معتادًا على ميادين الحرب ، فقد كانت قيادة الخيل تحت الأمطار الغزيرة أشبه بلعب الأطفال بالنسبة له.
لهذا، لم يتردد في اختراق المطر العنيف نحو قصر هيلدبرانت.
و عندما وصل إلى بوابة القصر ، أُصيب الحراس بالذعر من سرعة العربة غير المعتادة.
لكنهم سرعان ما تعرفوا على السيد الذي يقودها، وسارعوا بفتح الأبواب له دون تردد.
لم تمضِ لحظات حتى ضجّ القصر ، و خرج الخدم الذين كانوا نائمين على عجل لاستقبال كاليـوس.
و كان في طليعتهم كبير الخدم العجوز ، الذي اقترب بإبتسامته المعتادة و قال: “سيدي ، لقد عدتم”
“افحصوا ديليا حالاً. يبدو أنها أُصيبت بحمى بعد وقوفها طويلًا تحت المطر”
“عفوًا؟ السيدة مريضة؟”
صُدم كبير الخدم للحظة من نبرة كاليـوس الهادئة مقارنة بما اعتاد عليه، لكن ما إن سمع أن ديليا تعرضت للمطر ، حتى خيّم الصمت الثقيل على الأجواء.
كان كاليـوس يمتلك جسدًا قويًا قادرًا على تحمل المطر و الثلج ، فقد أطاع أوامر القصر الإمبراطوري في أسوأ الظروف الجوية.
لكن ديليا كانت مختلفة — جسدها ضعيف ، و كانت تُصاب بالحُمى بسهولة بمجرد أن تبتل.
فإصفرّ وجه كبير الخدم ، و أصدر أوامره على الفور:
“افحصوا حالة السيدة أولاً!”
“نعم ، حاضر!”
أفاق الخدم من ذهولهم إثر صراخ كبير الخدم ، واندفعوا بسرعة إلى العربة.
ثم فتحوا بابها بحذر ، ليظهر وجه ديليا التي كانت تتنفس بصعوبة و فقدت وعيها.
أكثر من صُدم بها كانت سارا ، خادمتها الشخصية ، التي هرعت خارج غرفتها بثوب النوم.
وما إن رأت ديليا التي بدت وكأنها بين الحياة والموت ، حتى أطلقت صرخة رعب ، و قفزت إلى داخل العربة لتعانق جسد سيدتها.
“يا إلهي … جسدها كالجمر!”
رغم أنها كانت تتوقع أن حالتها ليست جيدة ، لم يخطر ببالها أن حرارتها قد ارتفعت بهذا الشكل الرهيب.
من جبينها حتى أطرافها ، جسد ديليا كان مشتعلًا.
أصدر كبير الخدم أمرًا فوريًا بإحضار الطبيب ، ثم تقدم ليساعد في نقل ديليا إلى غرفتها.
لكن قبل أن يتمكن من ذلك ، دخل كاليـوس بنفسه إلى العربة ، و رفع جسد ديليا بين ذراعيه دون تردد.
دُهش كبير الخدم مجددًا من تصرفات سيده غير المعتادة، لكنه تمالك نفسه، وسار معه سريعًا نحو غرفة ديليا.
وبعد لحظات، وصل الطبيب مرتديًا معطفه الأبيض، ووجهه يقطر عرقًا.
اقترب من ديليا ، و هو يمسح وجهه بمنديله ، لكن ما إن رأى حالتها، حتى فَقَد القدرة على الكلام.
أنفاسها السريعة كانت تشير بوضوح إلى إصابتها بحمى شديدة ، و إن لم تتم معالجتها بسرعة ، فقد تتطور إلى التهاب رئوي.
لم يكن هناك مجال للاسترخاء.
لكن ما كان يثير القلق أكثر من الحُمّى، كان أمرًا آخر تمامًا.
نظر الطبيب إلى بطن ديليا المسطحة التي كانت مستترة تحت الأغطية النظيفة ، ثم رفع عينيه إلى السماء كمن يهمس بدعاء لا يُفهم ، و بدأ بفحص جسدها بعناية.
لو كانت مجرد حُمّى عادية ، لما استغرق الفحص أكثر من عشر دقائق.
لكن بعد ما يقارب الساعة من الفحص المتواصل و التعرّق الشديد ، تنفّس الطبيب أخيرًا ، و قال بنبرة مطمئنة:
“تمت الإجراءات الطبية بنجاح. لقد كادت الحالة تتدهور لتتحول إلى التهاب رئوي ، و لكن لحسن الحظ تجنبنا ذلك.
و بالنسبة للجنين … فهو بخير أيضًا ، لذا لا داعي للقلق”
كان المكان مزدحمًا حول ديليا — كاليـوس ، كبير الخدم ، سارا ، و بعض الخادمات تجمعوا جميعًا حولها.
و بعد أن تنفّسوا الصعداء لسماع أن حالتها لا تدعو للقلق ، زاد ارتياحهم عندما علموا أن الجنين بخير.
قام الطبيب بحقن ديليا بمسكن خافض للحرارة ، ثم وضع منشفة مبللة و باردة برفق على جبينها.
ثم توجه نحو كاليـوس بنظرة صارمة قليلًا و قال:
“سيدي ، لا بد من توضيح أمر ما … هل تَرَكت السيدة في المطر حتى وصلت إلى هذه الحالة؟”
لم يرد كاليـوس على السؤال ، لكن مظهر ديليا عندما أحضرها مبللة من رأسها حتى قدميها كان كافيًا للإجابة على كل شيء.
“إن كنت قد أنهيتَ الفحص ، فيمكنك الانصراف الآن”
“ماذا؟ لكن … يجب تغيير الكمادات بإستمرار—”
“سأتولى ذلك بنفسي.”
فُوجئ الجميع من كلام كاليـوس ، إذ لم يكن معتادًا على مثل هذه المهام.
تبادل الخدم النظرات فيما بينهم، عاجزين عن فهم ما يجري.
خرج الطبيب قائلًا إنه سينتظر في غرفة الضيوف ، و طلب استدعاءه فورًا إن حدث شيء ، و تبعته سارا و بعض الخادمات بعدما أبدين الاحترام و طلبن من كاليـوس الاعتناء بها.
و سرعان ما ساد الصمت في الغرفة التي كانت تضجّ بالحركة قبل قليل.
شعر كاليـوس بالتعب ، فغطى وجهه بيده ببطء ، ثم اتجه نحو السرير وجلس على كرسي إلى جوار ديليا.
“كنت أظن أنه لا أحد إلى جانبك … لكن يبدو أنكِ جمعتِ حولك بعض الأشخاص”
“…”
“ربما لم تعودي بحاجة إليّ. فقط لمجرد أنكِ أغمي عليكِ، هرعوا جميعًا إلى هنا”
نظر كاليـوس بصمت إلى وجه ديليا الذي لا يزال غارقًا في السكون.
ثم مد يده بهدوء، وربّت بأنامله برقة على طرف عينيها.
“افتحي عينيكِ ، حالً ا… حتى أتمكن من التأكد من مشاعري هذه مرة أخرى”
لم يستطع كاليـوس أن يمحو من ذاكرته مشهد ديليا وهي واقفة وسط الساحة، تتلقى المطر دون حراك.
كان عليه أن يستعيد ذلك الشعور الذي اجتاحه حين احتضنها وهي تسقط بين ذراعيه.
فقط حين يواجه مشاعره بصدق، سيتمكن من فهم ما يكنّه لها بحق.
لم يكن الأمر مخيفًا، ولا مرعبًا، لكنه لأول مرة يشعر بهذا الاضطراب العاطفي، وكان شعورًا غريبًا.
ولأن ديليا وحدها كانت قادرة على تفسير هذا الاضطراب ، مد كاليـوس يده يداعب وجهها الشاحب هامسًا:
“لذا انهضي الآن … إن كنتِ تحبينني حقًا”
“…”
كان يعلم أن صوتَه لم يصل بعدُ إلى أعماق وعيها، إذ لم يمضِ وقت طويل على انهيارها.
لكن لهذا السبب بالذات ، أراد أن يلمسها، أن يحدثها، أن يملأ الفراغ بينها وبينه بكلماته.
وفي اللحظة التي نظر فيها إلى ديليا بعينين مشحونتين بالرجاء ، تحرك طرف إصبعها فجأة ، و ارتعشت جفونها المغلقة.
و ببطء ، و عيون بلا تركيز ، نظرت إلى السقف … ثم أدارت رأسها نحوه.
ابتسمت ابتسامة باهتة عندما رأت وجهه المصدوم أمامها.
“… زوجي … شكرًا لك …”
تجعدت جبين كاليـوس من وقع كلماتها غير المتوقعة.
سعلت ديليا قليلًا، ثم فتحت شفتيها من جديد ببطء:
“حتى لو قلتَ إن هذا ليس موعدًا … فقد كنتُ سعيدة لمجرد أننا كنا معًا. ذهبنا للمطعم ، شاهدنا المجوهرات ، استمتعنا بالأوبرا ، و رأينا الغروب الأحمر … شعرت و كأنني أملك العالم كله”
“…”
“كنتُ حقًا، حقًا … سعيدة بكل جوارحي”
و ما إن أكملت كلماتها ، حتى أغمضت عينيها مرة أخرى ، كدمية نفدت طاقتها.
نظر كاليـوس إلى ديليا ، التي تهب كريحٍ خاطفة و تختفي بنفس السرعة، بتعبير يصعب تفسيره.
فرك جبينه بضيق وزفر تنهيدة عميقة.
* * *
في أحد ممرات القصر الإمبراطوري الفارغة تمامًا، لم يكن يُسمع سوى صوت كعب الحذاء العالي وهو يرن بصدى في الأرجاء.
إيفلين كانت تمضغ أظافرها بتوتر لا يمكن إخفاؤه ، همست بغضبٍ مكتوم: “هاه! تجرؤ على إهانتي؟”
لم يكن يكفي أن تنسحب إيزابيلا من خطة دسّ دواء العقم لديليا ، بل لم تكن تتخيل حتى في أسوأ كوابيسها أنها ستتلقى هذا الإذلال العلني أمام النبلاء.
كانت تحاول جاهدة أن تكون الزوجة المستقبلية المثالية لسيدة آل هيلدبراندت ، لكن ما حصدته في النهاية لم يكن سوى الخيانة.
عاجزة عن كبح غضبها، ظلت تقضم أظافرها بعنف حتى شعرت بطعم الحديد في فمها.
“طالما وصلت الأمور إلى هذا الحد ، فلن أقف مكتوفة اليدين أبدًا”
بما أن إيزابيلا خانتها أولًا، لم يعد هناك داعٍ لأن تتوارى خلف الحذر.
قد تكون البداية من صنع إيزابيلا ، لكن النهاية … لا بد أن تكون لها وحدها.
كذلك ، كاليـوس و عائلة هيلدبرانت ، كلاهما يجب أن يصبحا ملكًا لها.
لهذا السبب ، توجهت إيفلين مرة أخرى إلى مكتب الأمير الثاني.
حتى لو أنكر ذلك ، فهي واثقة أنه يطمع في ديليا ، تمامًا كما ظهر أثناء حفل الشاي السابق.
و لعلّه ، إن سارت الأمور جيدًا ، يساعدها مجددًا كما فعل حينها.
و بينما كانت تحدّ سيف انتقامها ، وصلت إلى باب مكتب الأمير الثاني ، و ما إن رفعت يدها لتطرق الباب ، حتى سمعت صوتًا حادًا يصيح من الداخل:
“لا، هذا مستحيل! إنه أمر خطير للغاية!”
“…؟”
خطر؟ ما الذي يتحدثون عنه؟
سحبت إيفلين يدها من الباب ، و ألصقت أذنها به ، تصغي لما يجري.
وما وصل إلى مسامعها كان صوت الأمير الثاني ، يتجادل مع أحدهم:
“لا بأس ، إن نجحنا في هذه المرة، فسوف تُحلّ كل الأمور بسلاسة”
“لكن … الخطة محفوفة بالمخاطر …”
“هيه، من سمح لك بالرد عليّ؟”
توقف الصوت الآخر ، و كأن صاحبه أغلق فمه قسرًا.
ثم سُمعت تنهيدة من الأمير الثاني ، تلاها صوت أهدأ و ألطف من ذي قبل:
“لا داعي لقلقك. فبهذا الشكل، سيصبح هو الإمبراطور بكل تأكيد”
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل "57"