لم يكن هناك سوى عربة واحدة تعود إلى قصر عائلة هيلدبرانت ، لذا لم يكن أمام ديليا خيار سوى انتظار كاليوس.
و بينما كانت تمرّ بجانب إيرل سيلشستر و تتجه نحو برج الساعة في الساحة ، سمعت ضحكة خافتة من خلفها ، تلاها صوت بالكاد يُسمع ، موجَّهٌ فقط إليها:
“مهما بذلتِ من جهد ، فلن يجدي نفعًا. في النهاية ، ستكون ابنتي هي من تجلس بجوار سموّه”
“….!”
استدارت داليا برأسها مصدومة من هذا الكلام الوقح.
و هناك ، رأت إيرل سيلشستر يتصرف و كأن شيئًا لم يحدث ، و هو يتملق كاليوس.
كان منظره و هو ينافق كاليوس من أبشع ما يمكن ، و قد شبك يديه أمامه متصنعًا الأدب.
كتمت ديليا غضبها بالكاد وهي تنظر إليه.
لو قالت إنها غير منزعجة ، لكانت تكذب.
فبجانب كاليوس تقف زوجته الشرعية بكل وضوح ، و مع ذلك ، يرفع الإِيرل من شأن ابنته متجاهلًا هذا الواقع ، ما قد يُعدّ إهانة تستوجب العقاب.
لكن المشكلة أن الإِيرل تمتم كلماته بهدوء و كأنها حديث داخلي ، لا يسمعه أحد سواها.
لو أن كاليوس سمع ما قاله ، لربما كان الموقف مختلفًا.
لكن ديليا ، التي لم ينصفها أحد ، نظرت إلى إيرل سيلشستر بنظرة كلها مرارة و ظلم.
“ما بكِ يا سيدتي؟ يبدو و كأن لديكِ شيئًا تريدين قوله لي منذ قليل”
“… لا ، لا شيء”
كانت قد تشاجرت لتوها مع كاليوس ، ولم تكن تظن أنه سيقف إلى صفها الآن.
لذا، هزّت رأسها بضعف و تقدّمت إلى الأمام.
“سأنتظر عند برج الساعة ، إذًا”
قالت ديليا ذلك دون أن تنتظر ردًا من كاليوس ، و أسرعت بخطواتها مبتعدة.
أما كاليوس ، فقد ظل يحدّق بصمت في ظهرها و هي تبتعد ، و عبست شفتاه في صمت.
و في خضم هذا الجو المشحون ، بدأ إيرل سيلشستر يلمّ بلحيته بنظرة لامعة في عينيه ، كأنه يراقب شيئًا مثيرًا.
***
“… هاااه.”
مرّ ثلاثون دقيقة منذ أن افترقت عن كاليوس.
كانت الليلة باردة رغم أن الصيف بات وشيكًا ، و فارق درجات الحرارة بين النهار والليل كان أكبر مما توقعت.
لم تكن ديليا قد أحضرت معها معطفًا، وكانت ترتدي فستانًا رقيقًا فقط، فبدأت ترتجف من البرد.
ربما شعر الباعة في الساحة بالشفقة عليها، فقدموا لها مشروبات دافئة.
وبينما كانت بالكاد تتحمّل البرد بفضل لطف هؤلاء الباعة، دقّت الساعة في برج الساحة السابعة مساءً.
كانت الساعة السادسة حين افترقت عن كاليوس ، وها قد مرّت ساعة كاملة.
وبدأت المتاجر تغلق أبوابها واحدًا تلو الآخر ، حتى بقيت ديليا وحدها في الساحة.
وهكذا، وبينما كانت تتصارع مع البرد و تنتظر عودة كاليوس ، سقطت فجأة قطرة ماء رقيقة من السماء.
في البداية كانت زخات المطر خفيفة ، لكنها سرعان ما ازدادت كثافة وأصبحت تنهمر بقوة.
رفعت ديليا رأسها نحو السماء مذهولة ، ثم صفعت خديها بقوة، كأنها تحاول أن تصحو من حلم مزعج.
كل ما تريده الآن هو أن يعود كاليوس.
“الآن بعد أن فكرت في الأمر … لم يقل لي حتى: عيد ميلاد سعيد.”
تلقي التهاني بعيد الميلاد من خدم قصر هيلدبرانت يختلف تمامًا عن سماعها من الزوج، كاليوس.
في النهاية ، جلست ديليا على ركبتيها بعدما لم تتلقَّ حتى هذه الساعة تهنئة بعيد ميلادها من كاليـوس.
و أخذت تحدق في الأرض حيث تجمّعت مياه المطر ، و بدأت تغني بمفردها أغنية عيد الميلاد.
وبينما كانت تتابع الغناء بعينين فارغتين ، انقضت صاعقة من السماء، وسرعان ما انهمر المطر بشدة لا تُقارن بما سبق.
وتحت هذا المطر المفاجئ، ابتلّ شعرها وملابسها بالكامل.
الملابس المشبعة بالماء التصقت بجسدها وزاد وزنها، لكنها لم تكترث لذلك.
كل ما كانت تفعله هو النظر إلى عقربي برج الساعة ، منتظرةً عودة كاليـوس.
حتى وإن كانا قد تشاجرا، فإن كاليـوس كان شخصًا مهمًا بالنسبة لها، ولهذا ظلت ديليا تنتظره حتى وقتٍ متأخر من الليل.
و أخيرًا ، حين أشار برج الساعة إلى التاسعة ، بدأت أصوات تتعالى من حولها ، ثم سمعت صوتًا ينادي بإسمها: “ديليا!”
آه ، لقد جاء كاليـوس أخيرًا.
ابتسمت ديليا بلطف لمجرد فكرة رؤيتها لزوجها ، ثم بدأت تتحرك مترنحة نحوه، حيث كان يقف على بُعد وهو يرتسم على وجهه تعبير غريب.
كانت تريد أن تتذمر منه ، أن تقول له: “أخيرًا جئت؟! هل كان لديك الكثير لتتحدث عنه مع الكونت سيلشستر؟”
لكن ربما بسبب وقوفها الطويل تحت المطر، لم تستطع إخراج صوتها بسهولة. فمدّت ديليا يدها باتجاه كاليـوس.
و مسحت بيدها عينيها التي بدأت رؤيتها فيهما تتلاشى ، ثم خطت خطوة بعد أخرى نحوه بحذر.
و أخيرًا ، حين لامست أطراف أصابعها كتف كاليـوس ، أغمضت عينيها شيئًا فشيئًا و فتحت فمها لتقول:
“هل انتهت المحادثة على خير؟”
“…”
“لقد كنتُ في انتظارك طوال الوقت … حتى لو قلت إنك ستتخلى عني، كنت قد قررت ألا أتحمل الألم بمفردي …”
كحّ، كحّ—
أخذت تسعل مرارًا.
ثم أراحت رأسها ببطء على صدر كاليـوس العريض ، تاركةً جسدها يذوب في ظلامٍ عميق بينما كانت تشعر بالراحة لأول مرة منذ زمن بعيد.
***
بعد أن نزلت ديليا من القارب وبقي كاليـوس وحده مع الكونت سيلشستر ، لم يستطع التوقف عن التفكير بها.
«انتبه لكلامك!»
«…..»
“هل أبدو سهلة المنال لأنني أتكلم دائمًا بإبتسامة؟ أم أنك ترى وجودي تافهًا لدرجة أنك لا تريد حتى أن تتحدث معي؟”
كانت تلك الكلمات التي قالتها ديليا و هي تضربه على خده — المرة الأولى التي تعبر فيها عن مشاعرها ، بعد أن كانت دومًا هادئة و صامتة.
كانت ديليا تبكي و هي تتوسل إلى كاليـوس.
تسأله إن كان يراها سهلة المنال فقط لأنها تتحدث دائمًا بإبتسامة ، و إن كان وجودها بحد ذاته تافهًا لدرجة أنه لا يرغب حتى في الحديث معها.
كانت كلمات ديليا هذه تعكس توترها و خوفها أكثر من أي وقت مضى ، و كأنها على وشك أن تتحطم لو تم لمسها بلطف.
لم يكن كاليـوس يجهل صدق مشاعرها.
لكنه كان يشعر بالارتباك أكثر فأكثر تجاه كيفية التعامل معها — فهي ليست مجرد امرأة يمكن الاستخفاف بها ، لكنها في الوقت نفسه ليست من السهل أن يُطلق على ما يشعره نحوها اسم “حب”.
كان يظن أنه سينال منها فقط ما يريده ، ثم ينتهي الأمر.
لكنه بدأ يجد نفسه يفكر في وجهها طوال الوقت ، و كأن قلبه قد أصيب بعطل.
بينما كان كاليـوس غارقًا في التفكير في ديليا ، احمرّ وجه الكونت سيلشستر الذي ظل يتم تجاهل حديثه ، غضبًا.
“يا سموّك ، هل تستمع إلى ما أقوله؟”
“ألستَ أنت من قال لي أن أُسرع في الطلاق و أتزوج من جديد؟”
ظنّ الكونت أن كاليـوس لم يكن يصغي إليه، فحدّق فيه بدهشة وارتباك.
“يبدو أنك لا تملك ذرة من الضمير”
“ماذا؟! ماذا تقصد؟!”
“أتعتقد أن مجرد منجم واحد يمكنه أن يجعلني أتزوج بإبنتك؟”
اقترب كاليـوس خطوة من الكونت سيلشستر.
ثم انحنى قليلًا وهمس له عند أذنه بنبرة منخفضة:
“أنا لست بحاجة إلى منجم الياقوت الذي تملكه. لدي بالفعل عدد من المناجم التي تفوقه قيمة”
“هـ … هل هذا صحيح؟”
إن كان ما قاله كاليـوس حقيقيًا ، فلن يكون هناك من يُضاهي منزل هيلدبرانت بين النبلاء ، و لهذا بدا لون وجه الكونت شاحبًا ، و بدأ يتصبب عرقًا باردًا.
أما كاليـوس ، فظل واقفًا بثبات و هو يراقب ارتباكه ببرود.
ثم استدار بخفة وسار بخطى سريعة في الاتجاه الذي غادرت نحوه ديليا ، قائلًا إنه سيقابله رسميًا لاحقًا.
و من خلفه ، تعالت نداءاتٌ يائسة: “يا سموّك!”
لكنه لم يلتفت.
ما كان يهمه الآن هو مرور عدة ساعات منذ أن افترق عن ديليا.
و بينما كان يشتم في داخله ، اتجه إلى الساحة حيث كانت ديليا على الأرجح تنتظره. و لم يمضِ وقت طويل حتى رأى مشهدًا لم يكن ليتخيله.
“… أنتِ؟”
ما من شيء في ديليا كان يوحي بأنها سيدة نبيلة.
وجهها شاحب ، و شفاهها الزرقاء بالكاد تدل على أنها ما تزال على قيد الحياة. فستانها المشبع بالماء لم يعد يؤدي أي غرض.
و مع ذلك ، ما إن التقت عيناه بعينيها — تلك التي كانت تنتظره تحت المطر لساعات — حتى شعر بشيء غريب يتحرك في أحشائه ، لا يعرف له اسمًا.
رغبة عارمة بالسيطرة ، لم يشعر بها من قبل قط ، إلا تجاه ديليا.
وفي تلك اللحظة، حين ضمّ كاليـوس ديليا المنهارة بين ذراعيه، بدا عليه الذهول وعدم التصديق.
قلبه كان يخفق بجنون، وكأن نبضه على وشك أن يتوقف.
تحت المطر المنهمر ، ظل يحملها بصمت ، ثم عضّ شفتيه و همس لنفسه ، قبل أن يركض بها نحو العربة بأقصى ما يستطيع.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل "56"