“حدسي يخبرني بذلك. لا أعلم بشأن الآخرين، لكن أنتِ على الأقل لا بأس في أن أقترب منكِ.”
أدار إيدن رأسه لينظر إلى قاعة الحفل التي كانت تعلوها ضحكات وضجيج، لكن أجواءه مع إيزابيلا لم تكن توحي بأي علاقة ودية، ما جعل ديليا ترتسم على وجهها ملامح الاستغراب.
و كأن إيدن قد التقط ما يدور في خاطرها، فهز كتفيه بلا مبالاة ومدّ يده قائلاً: “متأخرًا ، لكن دعيني أعرّف نفسي رسميًا. أنا إيدن دي إلبيرن فاسيون، ولي عهد إمبراطورية فاسيون”
حدّقت ديليا إلى يد إيدن الممدودة.
على عكس كاليوس ، لم تكن تلك اليد مغطاة بخشونة القتال، بل كانت فيها بعض التصلبات الخفيفة على السبابة التي تحمل القلم – يد رقيقة بوضوح ، يد رجل ينشغل بأمور الحكم.
ترددت قليلاً، ثم اقتربت ديليا ومدت يدها نحوه.
وحين أمسكا بأيدي بعضهما البعض، حرّكت يدها صعودًا و هبوطًا بهدوء و أجابت: “أنا ديليا هيلدبرانت. سيدة دوقية هيلدبرانت.”
“سعيد جدًا بلقائكِ ، يبدو أنني التقيت بشخص جيد فعلاً.”
كان من المتوقع أن يكون حاد الطباع، لكن إيدن بدا عكس ذلك تمامًا ، بطبيعته المنفتحة وروحه المرحة، ما جعل ديليا تتسع عيناها دهشة.
لم تعهد مثل هذه الشخصية من قبل، فشعرت بشيء من الارتباك، ومع ذلك، لم تستطع كتمان الخفقان في قلبها.
“أشعر أن مجيئي إلى الحفل اليوم كان قرارًا صائبًا.”
عندما كانت تتشاجر بالكلمات مع إيفلين ، شعرت بالضيق، لكن أن تنشأ علاقة ودّية مع إيدن من خلال صدفة، بدا ذلك كالحلم.
و ربما شعر إيدن بنفس الشيء ، إذ نظر إلى يديهما المتشابكتين وابتسم بلطف.
“سنتحدث لاحقًا مجددًا. يبدو أن هناك أمورًا مقلقة تحدث مؤخرًا ، تتعلق بأسرة بليك التي ينتمي إليها شقيقكِ ، وسائر حزب النبلاء.”
“إذن، أنتَ تعلم بما جرى ، يا صاحب السمو؟”
“من المستحيل أن لا أعلم”
ظنّت أن إيدن ، كونه من مؤيدي الإمبراطور، لن يهتم بسلسلة جرائم القتل التي تحدث داخل حزب النبلاء ، حتى لو كانت تقع في أنحاء الإمبراطورية.
و بينما كانت ترمش بدهشة من المفاجأة ، ابتسم إيدن من جديد و قال: “حتى وإن كانت المشكلة تخص حزب النبلاء، فلا يمكنني غضّ النظر عن شيء يحدث داخل الإمبراطورية.”
بعكس الأمير الثاني ، بدا إيدن مهتمًا بشدة بكل ما يحدث داخل البلاد، الأمر الذي جعل فم ديليا ينفتح من الدهشة.
وكلما تحدثت معه أكثر، ترسّخ في ذهنها أنه حقًا شخص يحمل همّ الإمبراطورية بصدق.
“أوه، يبدو أن الوقت قد حان للمغادرة. إذا بقيتُ بعيدًا عن القصر الإمبراطوري أكثر من هذا، فقد يسبب لي بعض المتاعب.”
قام إيدن بدفع ظهرها بلطف، وكأنه يحثها على العودة بسرعة إلى الدوق.
عندها فقط، خففت ديليا من حذرها للحظة وانحنت برأسها قائلة: “أراك لاحقًا.”
***
بعد انتهاء حفل عيد ميلاد إيزابيلا، وفي طريق العودة إلى قصر هيلدبرانت، ساد الصمت داخل العربة.
في الأحوال العادية، كانت ديليا هي التي تبدأ الحديث، لكنها بدت وكأن عقلها مشوش بعد اللقاء غير المتوقع قبل قليل.
وبينما كانت تحدق في المناظر التي تمر بسرعة خارج النافذة، غارقة في أفكارها ، بادر كاليوس الحديث وهو يرمقها بإستغراب.
“هل حدث شيء خلال تلك الفترة؟”
“نـ … نعم؟”
فوجئت ديليا بالسؤال المفاجئ ورفعت رأسها.
بدا أن كاليوس غير راضٍ عن حالتها، فعبس وهو يعقد ذراعيه.
و إذ كانت ديليا تدرك تمامًا أنها لا تتصرف على طبيعتها، همست بإعتذار خافت.
عندها قال كاليوس بنبرة فيها شيء من المزاح دون أن تظهر على وجهه أي تغيرات: “يبدو وكأنّكِ خُنتِني في تلك الفترة القصيرة.”
“ماذا؟! ماذا تقصد؟! أنا أبدًا لن أفعل شيئًا كهذا!”
كان ردها مبالغًا فيه أكثر من المعتاد، ما جعل كاليوس يضغط شفتيه. ثم مال بجسده مبتعدًا عن مسند العربة ليقترب من ديليا.
“لماذا هذا الانفعال؟ هل كنتِ تتحدثين فعلًا مع رجل آخر؟”
“لا، ليس الأمر كذلك …”
في الحقيقة ، كانت تتحدث مع رجل آخر.
لكنه كان ولي العهد الأول للإمبراطورية، ولم تتجاوز محادثتهما الخمس دقائق.
لم تكن تتخيل أن مثل هذا الموقف يمكن أن يُعتبر خيانة.
جلست ديليا بحذر إلى جانب كاليوس ، و أمسكت بيده الخشنة برقة وهي تبتسم ابتسامتها الهادئة المعتادة.
“لا داعي للقلق. أنت وحدك من نقش في قلبي”
اتسعت عينا كاليوس للحظة عند اعترافها الصادق ، ثم نظر إلى يدهما المتشابكة، وأطلق تنهيدة يائسة.
“كنت أمزح قبل قليل. فلا تأخذي الأمر بجدية زائدة”
“…هل فعلتُ شيئًا أحمق؟”
نظرت ديليا إلى يدها التي فقدت فجأة وجهتها ، وتعابير الحزن ترتسم على وجهها. عضّت شفتها قليلًا، ثم عادت إلى مكانها كما لو أن شيئًا لم يحدث.
“مع ذلك، أرجوك ثق بي. فأنا لا أرى أحدًا سواك”
“أنتِ مخلصة على نحو غريب. رغم أن الطرف الآخر لا يمنحك أي مقابل”
“لا بأس إن لم أحصل على مقابل. فأنا أفعل هذا فقط لأنني أريده من كل قلبي.”
حتى لو رفضني كاليوس ، كنت أؤمن بأنه إذا واصلت المحاولة وهمست له بحبي دون توقف، فسيأتي يوم يثمر فيه ذلك ويضيء كل شيء.
وقبل كل شيء، فقد كنت أحمل بالفعل ثمرة حبنا في أحشائي.
…لكن، رغم ذلك ، لم تختفِ مشاعر القلق تمامًا.
حاولت ديليا بسرعة إخفاء ارتجاف أطراف أصابعها دون وعي منها.
فقد غمرها شعور سيء لا يمكن تفسيره، لذا أغمضت عينيها بهدوء، متمنية ألا تصيبها هي و كاليوس أي مصيبة أخرى.
***
وقبل يوم من عيد ميلاد ديليا ، وصلت باقة زهور فاخرة مصحوبة برسالة من عائلة إيرل سيلشستر.
ديليا ، التي كانت تحدّق بصمت في الرسالة التي ناولها لها كبير الخدم العجوز، فتحت الظرف مباشرة دون حتى استخدام سكين الورق.
> [إلى دوقة هيلدبرانت ،
تحياتي، دوقة. لم أركِ منذ حفل ميلاد السيدة الكبرى. آمل أن تكوني بصحة جيدة، فقد بدأ الجو يدفأ شيئًا فشيئًا.
أكتب إليك لأنني سمعت أن عيد ميلادك قد اقترب.
ربما حين تصلك هذه الرسالة يكون اليوم هو يوم ميلادك بالفعل، أو قبل ذلك بقليل.
لا أستطيع الادعاء بأنه هدية كبيرة، لكني أرسلت إليك باقة زهور بسيطة. إنها زهور لوبيليا البنفسجية من دفيئة القصر.
عندما رأيت بتلاتها، تذكرت على الفور لون عينيك.
آمل أن تنال إعجابك.
إلى اللقاء في مناسبة قريبة، وحتى ذلك الحين، أتمنى لكِ وللطفل الذي في أحشائك دوام الصحة.]
نظرت ديليا إلى باقة الزهور التي كانت تحملها بيديها.
البتلات الثلاث السفلية المتفرعة، والبتلتان الصغيرتان العلويتان البنفسجيتان، كانت تشكّل زهرة غاية في الجمال.
أما رائحتها العشبية الطازجة فقد ذكّرتها بالصيف.
لكن ديليا ، التي كانت تعرف المعنى الحقيقي لزهرة اللوبِيليا ، لم تستطع أن تُظهر أي تعبير على وجهها.
فمعنى زهرة اللوبِيليا يشمل الشر، والريبة، والنقمة، والقطيعة — و غالبًا ما تُستخدم في المجتمع الأرستقراطي للتعبير عن الاحتقار أو الإهانة لشخص ما.
ولهذا السبب، كان كبير الخدم الذي أوصل باقة إيفلين يقف حائرًا، يتصبب عرقًا باردًا من التوتر.
“سيدتي، هل ترغبين في أن أنقل باقة الزهور إلى غرفة الحرق؟”
“…”
غاصت ديليا في التفكير لوهلة.
لم يكن من المناسب حرق الزهور التي وصلت للتو بإسم عائلة سيلشستر ، لكن عرضها داخل الغرفة كان ضربًا من الجنون.
وبينما كانت تتحسس بتلات زهرة اللوبيليا، متأملة للحظة، سلّمتها مجددًا إلى كبير الخدم.
“احتفظ بها في أحد زوايا المخزن. لكن، لا تخبر الآنسة إيفلين بشيء عن ذلك”
ربما كان ذلك بسبب إيفلين، التي بدأت تضغط عليها بشكل غير مباشر أكثر من ذي قبل، حتى إن قلب ديليا بدأ ينبض بعنف.
وبعدما سلمت ديليا الباقة إلى الخادم، هرعت بسرعة إلى الحمام.
سمعت خلفها صوت كبير الخدم يناديها: “سيدتي!”، لكنها لم تعبأ بذلك. ركعت على الأرض، تتقيأ كل ما أكلته في الصباح، قبل أن تنهار ضعيفة على الأرض.
في يوم عيد ميلاد ديليا بعد ذلك بأيام ، وصلت هدايا لا تُحصى، مع رسائل تهنئة مكتوبة بخط اليد من الناس من حولها.
نظرت ديليا إلى كومة الهدايا المكدّسة كالجبال، بخلاف ما كان عليه الأمر في العام الماضي، وارتسمت على وجهها ابتسامة مريرة.
كل أولئك النبلاء الذين كانوا يشيرون إليها بأصابع الاتهام و كأنها قتلت والديها، قد غيّروا موقفهم فجأة بمجرد أن حملت بطفل كاليوس. لقد بدوا مقززين.
اقتربت ديليا من سارا ، التي كانت تبدو غير مرتاحة، وقالت بصوت متعب: “ارسلي أغلب هذه الهدايا إلى دار الأيتام.”
“ماذا؟ لكن هذه هدايا أُعدّت خصيصًا لكِ يا سيدتي …”
“قد تبدو هدايا للآخرين ، لكنها بالنسبة لي لا تبدو سوى نفايات باهظة الثمن. لذا، من الأفضل أن تُمنح لمن هم في حاجة فعلية إليها، لا لي”
ترددت سارا للحظة ، ثم أومأت برأسها.
نادت الخدم الذين كانوا ينتظرون بالخارج، وبلمح البصر أُزيلت كل الهدايا من الغرفة.
أطلقت ديليا تنهيدة ارتياح وهي تنظر إلى الغرفة التي عادت إلى حالتها المعتادة.
جلست بهدوء على الأريكة، تتأمل المكان الذي لم يتغيّر، و تنتظر، ثم تنتظر مجددًا … الرجل الذي لم يظهر وجهه منذ عدة أيام.
“… و مع ذلك ، كنت أتمنى أن أراه ولو في يوم ميلادي”
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل "52"