احمرّت وجنتا إيفلين على غير عادتها وهي تعبث بأصابعها بخجل.
أما النبلاء المحيطون بهما، فأخذوا يرمقونهما بنظرات فضولية، يتساءلون عمّا إن كان هناك أمر ما بينهما.
لاحظت ديليا أن إيفلين تنوي إثارة مشهد متعمّد، فسارعت إلى الوقوف بينهما لقطع التواصل بين إيفلين و كاليوس.
و بدأت تتحرك لتمنع إيفلين من النظر إليه ، و كل ذلك بإبتسامة مرسومة على وجهها.
قالت ديليا: “لم أركِ منذ وقت طويل”
فأجابت إيفلين: “أجل، لم نلتقِ منذ حفلة الشاي الأخيرة” ، ثم أردفت بإبتسامة خبيثة: “سمعتُ أنّكِ حامل، فلا بد أنكِ في غاية السعادة؟”
مشهد إيفلين وهي تتحدث بهذه الطريقة الوقحة علنًا كان صادمًا.
و كان من الطبيعي أن تشعر بالقلق ، خاصةً و أنها هي من تحمل طفل كاليوس ، لا إيفلين.
لو لم تكن إيفلين تطمع في مكانة دوقة الدوق ، لربما مدت لها ديليا يد العون.
لكنها كانت أول من أشهر السيف، فلا مجال للشفقة أو المساعدة.
و بما أن ديليا ستصبح أمًا، فعليها أن تتحمل المسؤولية، ولذا عزمت ألا تسمح لإيفلين بالتلاعب بها مجددًا.
قالت إيفلين و هي تحدّق في بطنها:
“لكن ، لا يبدو أن بطنكِ قد كبر بعد؟”
أجابت دليا بهدوء: “نعم، فلا تبدأ علامات الحمل بالظهور إلا بعد الأسبوع الثالث عشر تقريبًا.”
ردّت إيفلين بنبرة مشوبة بالسخرية: “آه، هكذا إذن؟ يا للأسف. كنت أظن أن حملكِ بطفل من دوقٍ عظيم سيظهر بشكل أوضح … لكن يبدو أن الأمر ليس كذلك”
ثم اقتربت إيفلين ببطء ، تطلب الإذن للمس بطن ديليا ، و انحنت واضعة يدها عليه.
وراحت تحدق فيه مليًا ، رغم أنه لم يكن هناك أي حركة جنينية واضحة بعد ، ثم ارتسمت ابتسامة على شفتيها.
قالت بنبرة باردة: “أنا متحمسة لرؤية هذا الطفل حين يولد، أليس كذلك؟”
لكن عينيها كانت تلمعان بحدة، وكأنها تقول إن الطفل إذا وُلد، فلن تتركه بسلام.
ارتجفت ديليا من الرعب، شعرت وكأن إيفلين على وشك أن تفتك بطفلها. فتراجعت بسرعة ، تحتضن بطنها بكلتا يديها لتحميه.
بدأ الحاضرون يهمسون عند رؤية هذا التوتر بين ديليا و إيفلين.
و شعرت ديليا بالإحراج ، إذ أصبحت محور الأنظار فجأة.
و كانت نظرات الناس إليها تُشعرها و كأنهم يلومونها: “كيف تجرؤين على الحمل؟”
بينما كانت تمسك بطنها و العرق البارد يتصبب من جبينها، اقترب منها أحد الخدم بقلق و سألها إن كانت بخير.
تمايلت قليلاً من الدوخة، لكنها ابتسمت ابتسامة واهنة وقالت إنها بخير.
وبعد فترة قصيرة، ظهرت إيزابيلا بوجه عابس وقد بدا أنها سمعت ما حصل. و ما إن رأت أن ديليا و إيفلين في قلب الموقف ، حتى ازدادت تعابيرها صرامة.
“ما الذي يجري هنا؟”
فأجابت ديليا بصوت خافت:
“أعتذر ، سيدتي … شعرت بألم مفاجئ في بطني أثناء حديثي مع الآنسة إيفلين سلشستر …”
عندما سمعت إيزابيلا صوت ديليا الحرج ، التفتت إليها.
ثم اقتربت من إيفلين التي بدت متوترة ، و وضعت ذراعيها معًا و سألتها: “هل ما قالته تلك الفتاة صحيح كله؟”
أجابت إيفلين بسرعة:
“نعم ، صحيح. أثناء حديثي مع الدوقة ، بدا أن حالتها لم تكن على ما يرام، وفجأة أمسكت ببطنها وبدأت تترنح”
بينما كانت إيزابيلا تستمع لتبرير إيفلين ، بدأ وجهها يزداد عبوسًا. ثم منعت الخدم الذين حاولوا الاقتراب منها ، و التفتت إلى إيفلين بنبرة حادة و قالت:
“لذا كان من الواجب عليكِ أن تكوني أكثر حِذرًا”
“عفوًا؟ ما الذي تقصدينه؟”
أدارت إيزابيلا رأسها بعنف و أشارت إلى ديليا التي كانت تمسك بطنها و تتنفس بصعوبة ، ثم صاحت بلهجة صارمة:
“ديليا امرأة حامل. فما الذي كنتِ تفعلينه للتو؟ كيف تجرؤين على التحدث إليها بتلك الطريقة؟!”
اتسعت عينا ديليا من الذهول.
فمنذ زواجها من كاليوس، لم يحدث قط أن وقفت إيزابيلا في صفها.
هل يمكن أن يكون السبب هو أن الطفل في بطنها يحمل دماء عائلة هيلدبرانت …؟
على الأرجح، كانت إيزابيلا تدرك جيدًا أن مجرد وضع اليد على بطن الحامل لا يُمكن أن يضر الجنين فعليًا.
لكنها، التي لم تتوانَ يومًا عن انتقاد ديليا ، بدا من الواضح الآن أن إيفلين، التي أصبحت هدفًا لها هذه المرة، ستُهان أمام الجميع دون شك.
في الواقع، كانت إيفلين ترتجف ووجهها محمر من الغضب.
و بينما كانت تضغط على شفتيها الحمراء بقوة كأنها على وشك البكاء، استدارت فجأة وهي تتمتم بأنها بحاجة لبعض الراحة.
و مضت مبتعدة و هي لا تنظر سوى إلى الأمام ، بعينين يملؤهما شعور عميق بالخيانة.
و في الوقت الذي كانت ديليا تراقبها بقلق ، شاعرة أن إيفلين قد ترتكب حماقة في أي لحظة ، اقتربت منها إيزابيلا و سألتها بصوت بارد: “هل جسدكِ بخير؟”
فأجابت ديليا: “نعم، أنا بخير”
لكن إيزابيلا قالت بسرعة:
“لا أقصدكِ أنتِ … بل أقصد الطفل في بطنكِ”
أمام هذا الكلام الصريح و الصادم ، لم تستطع ديليا إخفاء ارتباكها.
كانت تظن أن وقوف إيزابيلا إلى جانبها يعني أنها أصبحت أخيرًا تُعامل كأحد أفراد العائلة ، لكن نبرة صوتها الحادة المليئة بالتحفّظ جعلتها تصمت من جديد.
قالت إيزابيلا متنهدة:
“الأمر مرهق فعلًا. اذهبي و خذي بعض الهواء في الجوار”
“… مفهوم ، سأعود سريعًا”
ظلت ديليا تنظر خلفها مرارًا ، علّ كاليوس يكون قد عاد ، لكنها في النهاية بدأت تمشي بتثاقل.
و رغم أنها شعرت بنظرات الناس تتبعها طوال الطريق ، إلا أنها لم تسمح للخوف أن يظهر على ملامحها ، بل رفعت رأسها و سارت نحو العربة التي كانت تنتظرها.
صعدت إلى العربة وجلست وحدها في الداخل ، لا تعرف كم مضى من الوقت.
بعد حوالي عشر دقائق من الشرود، اندفعت فجأة نحو الباب وخرجت منه بسرعة.
رغم أن حالتها الصحية تحسنت مؤخرًا و أصبحت قادرة على ركوب العربة، إلا أن الجلوس وحدها في عربة خالية بلا سائق كان لا يزال أمرًا شاقًا.
و مع ذلك حاولت التحمل قدر الإمكان، لكن الغثيان فاجأها في النهاية، فوضعت يدها على فمها و ركضت إلى الخارج.
وبينما كانت تأخذ أنفاسًا عميقة لتهدئة نفسها ، لفت نظرها عصفور صغير كان جاثمًا على الأرض وقد انكمش على نفسه.
أسرعت و التقطته ، محاولة أن تعيده إلى عشه القريب ، لكن العش كان في موضع مرتفع لا تصل إليه.
وبينما كانت في حيرة من أمرها، شعرت بحركة خلفها، ثم تقدّم شخص ما و وضع العصفور مكانه في العش بدلًا عنها.
“شكرًا جزيلًا على المساعدة …”
لكن ديليا لم تكمل كلماتها.
فالذي وقف أمامها بشعره الذهبي الذي يشبه الذهب المصهور ، و عينيه اللامعتين كالذهب النقي، لم يكن سوى ولي عهد الإمبراطورية الأول: إيدن.
على عكس الأمير الثاني دانييل ذو البنية الضخمة و البشرة السمراء ، بدا إيدن الذي يرتدي نظارات بإطار فضي شديد الحساسية.
علاوة على ذلك ، فإن كتاب “علم السياسة” الذي كان يمسكه بيده يدلّ على اهتمامه الكبير بالشؤون السياسية.
أسرعت ديليا إلى تحيته بأدب.
“و لكن ، لماذا يتواجد صاحب السمو، الأمير الأول، هنا…؟”
“لدي علاقة شخصية مع دوقة العائلة السابقة. لقد تمت دعوتي إلى الحفل ، و قد حضرت متأخرًا ، لكن بسبب الأجواء السائدة، لم أتمكن من إلقاء التحية كما ينبغي”
عندما قال الأمير الأول إيدن ذلك، التزمت ديليا الصمت.
بما أن ما حدث قبل لحظات بدأ منها ، فقد ابتعدت خطوة إلى الوراء بوجه مرتبك.
كان جزء من شعورها بعدم الارتياح نابعًا من كونه أميرًا ، لكن السبب الأهم هو أنها بدأت تظن أن إيدن قد يكون هو نفس الرجل الغامض الذي حاول إيذاءها.
“أيبدو أنني أزعجتكِ ، سيدتي؟”
هل يعتبر ذلك سؤالاً؟! كان عدم الارتياح قد تجاوز الحدود لدرجة أنها شعرت أن العرق يغمر جسدها بالكامل في تلك اللحظة.
لكن لم يكن بوسعها قول ذلك صراحة ، لذا لوّحت بيديها قائلة إن الأمر ليس كذلك إطلاقًا … رغم أن إيدن بدا و كأنه لم يصدقها إطلاقًا.
“لا داعي للقلق. حتى لو أسأتِ إليّ، فلن أعاتبكِ على ذلك”
اتسعت عينا ديليا من الدهشة.
كانت تظن أن الأمير الأول سيكون عنيدًا مثل الأمير الثاني ، لكن ردة فعله فاجأتها لدرجة أنها فتحت فمها من غير قصد.
وبعد أن استعادت وعيها، عدّلت من مظهرها وسألته بأدب:
“و لكن ، ماذا كنت تفعل إذا لم تكن تحضر الحفل؟”
“كنت أقرأ كتابًا تحت الشجرة”
“… نعم؟ ماذا قلت؟”
هل كان يقرأ بهدوء طوال هذا الوقت؟! هل من الممكن أنه كان يقرأ كتاب “علم السياسة” الضخم الذي كان يحمله؟!
و بينما كانت تحاول الابتعاد عن إيدن الذي بدا غير بشري بمعانٍ متعددة ، اقترب منها و أمال رأسه قليلاً قائلاً:
“بالمناسبة ، لدي سؤال أود أن أطرحه عليكِ”
“ها؟ عليّ أنا …؟”
أومأ إيدن برأسه بصمت ، ثم رفع نظارته التي كانت تنزلق عن أنفه، وطرح سؤالاً غير متوقع على ديليا.
“هل تؤيدين حزب النبلاء؟ أم أنك تؤيدين الحزب الإمبراطوري؟”
“أوه، هذا …”
كان من الصعب عليها إخفاء ارتباكها.
لم يسبق لأحد أن طرح عليها سؤالاً كهذا في أول لقاء.
غالباً ما كان الناس يخطئون بشأن انتماء ديليا ، فلا يعرفون ما إذا كانت من حزب النبلاء أم الحزب الإمبراطوري.
لذلك، وعلى الرغم من تفهمها لفضول إيدن ، شعرت بعدم الارتياح أيضًا.
وعندما لاحظ إيدن أنها بدأت تشعر بالإحراج، تراجع خطوة إلى الوراء معتذرًا.
اتسعت عينا ديليا من جديد.
مقارنة بالأمير الثاني الذي كان دائمًا يفرض نفسه عليها ، بدا الأمير الأول إيدن كأنه ملاك.
“لقد كنتُ دائمًا على توافق تام مع زوجي”
“إذن … أنتِ تؤيدين الحزب الإمبراطوري، لا حزب النبلاء.”
حتى لو كان والداها من قادة حزب النبلاء ، لا يمكن الجزم بأن الأبناء سيتبعون نفس النهج.
و عندما سألته ديليا بصوت متوتر إن كان قد حصل على الإجابة التي أرادها ، أومأ إيدن برأسه بهدوء.
ثم اقترب منها خطوة أخرى و أبدى إعجابه قائلاً:
“هذا مريح حقًا. لم أكن أرغب أن أجعلكِ عدوتي”
التعليقات لهذا الفصل "51"