بوجهٍ متوردٍ و ابتسامةٍ توحي و كأنها امتلكت العالم ، تحوّل تعبير ديليا في لحظةٍ إلى وجهٍ كئيبٍ كأنها سقطت إلى الجحيم.
ما إن ظهر وليّ العهد الثاني حتى هرعت ديليا نحو الفارس المرافق لها و أخذت تحتمي بقربه ، و قد بدا عليها الحذر و كأنها قطةٌ تنتصب أشعارها عند التهديد.
عندها ، رفع دانييل كتفيه بتعبيرٍ حائر و قال:
“يا إلهي ، يبدو أن أفراد عائلة هيلدبرانت لا يعرفون شيئًا عن آداب السلوك؟”
“… أعتذر بشدة إن كان تصرفي قد أزعجك”
و عندما ردّ دانييل بصوتٍ غاضب ، أومأت ديليا للفارس المرافق تطمئنه بأنها بخير ولا حاجة للقلق ، فتراجع الأخير بسرعة قائلاً إنه سيكون في الجوار إن احتاجت لأي مساعدة.
لكن على ما يبدو ، لم يُعجب هذا الموقف وليّ العهد الثاني ، فأعلن بنبرةٍ متململة أنه حان وقت التحرك ، و تقدم عبر الحديقة إلى ركنٍ بعيد و معزول.
و ما إن همّوا بالانعطاف عند آخر زاوية حتى دوّى ضحكٌ مزيفٌ في المكان بصخب.
و فيما كانت ديليا تحاول أخذ نفسٍ عميقٍ لتتغلب على التوتر المتصاعد، اخترق أنفها عطرٌ مألوف قادمٌ من بعيد ، تبعته عبارةٌ بصوتٍ مرتفع: “أوه ، لقد وصلتم أخيرًا!”
كان عطرًا للورد شديد التركيز ، في البداية كان فاتنًا ، لكنه الآن أصبح خانقًا و مزعجًا.
مصدر ذلك العطر لم تكن سوى إيفلين سلشستر.
“… آنسة سلشستر؟ ماذا تفعلين هنا؟”
“لقد تمت دعوتي رسميًا ، تمامًا كما دُعيتِ أنتِ يا سيدتي الدوقة. ألا تذكرين أن وليّ العهد الثاني دعاكِ بنفسه؟”
نهضت إيفلين من بين مجموعة السيدات اللواتي كنّ جالسات و ذهبت لتقف بجانب وليّ العهد ، ثم بدأت بتسوية شعره الفوضوي برفق و تدليك بشرته الداكنة بحنان.
“أنا و وليّ العهد الثاني نعرف بعضنا منذ زمن طويل ، و لهذا نحن نلتقي على فترات في مثل هذه الجلسات و نتبادل الأحاديث”
إحساس بعدم الأمان اجتاح ديليا ؛ دانييل الذي هاجمها من قبل كان حاضرًا ، و ها هي الآن تواجه أيضًا وجود إيفلين.
بينما ظلت ديليا صامتة تحدّق بعينيها فقط ، دفعتها إيفلين بلطف إلى الجلوس في وسط الطاولة. كانت هناك سبع نساء ، إيفلين من بينهن ، يتبادلن الأحاديث بسرور.
وسط هذا الجمع المفاجئ ، لم تجد ديليا الفرصة حتى لتعريف نفسها ، و بقيت صامتة لفترة طويلة.
و حين بدأت قدرتها على التحمل تنفد ، لاحظت إيفلين أن صحن ديليا فارغ ، فقامت بنفسها لتقديم بعض الحلويات لها.
بدت كعكة اللفائف المحشوة بالزبيب هنا و هناك شديدة الحلاوة ، لكن للأسف ، لم تكن ديليا تحب المذاق اللاذع و المميز للزبيب.
لو كان لدى أي شخص اهتمام بسيط بها ، لكان علم بذلك ، لكنها لم تستبعد أن تكون إيفلين قدّمتها عن قصد.
أطلقت ديليا تنهيدة و هي تفكر أن ذلك أمر متوقع تمامًا من شخص مثل إيفلين ، و إن لم يكن من الآخرين.
عندما تجاهلت ديليا كعكة اللفائف التي قدّمتها لها إيفلين ، سألتها الأخيرة بصوت يملؤه الاستغراب رغم أنها كانت تتحدث بسعادة مع الأخريات:
“أوه؟ ألا تأكلين الحلوى؟”
أجابت ديليا بهدوء:
“ركوب العربة لفترة طويلة أزعج معدتي قليلًا. أنا آسفة لأنك اهتممتِ بذلك”
“آه … في تلك الحالة ، لا بأس. أحيانًا المعدة لا تحتمل ، حسب الحالة”
لكن عيني إيفلين لم تفارق طبق ديليا ، الذي كان لا يزال يحمل كعكة اللفائف المرصعة بالزبيب.
و بينما كانت تحدق بها ، اتخذ وجهها تعبيرًا مزيجًا من الأسف و الشفقة المفتعلة.
“على أي حال ، سيدتي ، كيف هي علاقتكِ مع الدوق مؤخرًا؟ هل هناك أي تقدم في الحب بينكما؟”
ردّت دليا ببرود:
“لا أظن أن هذا السؤال مناسب في هذا المكان”
“يا للأسف! كنتُ آمل أن أسمع بعضًا من قصص الحب الخاصة بسيدة الدوق ، بما أننا مجتمعون هنا”
بدت إيفلين و كأنها تطرح سؤالًا بريئًا بدافع الفضول ، لكنها كانت مثيرة للغيظ للغاية.
كيف لمن رقصت مع كاليوس في حفل القصر أن تسأل زوجته عن علاقتها به؟ لم يكن من الصعب إدراك أن ديليا هي التي تُهان في هذا الموقف.
‘… لا ، عليّ أن أتماسك’
فقد جاءت ديليا إلى حفل الشاي هذا لا من أجل الدخول في جدال تافه مع إيفلين ، بل للبحث عن أي خيط يقودها إلى الجاني الذي حاول إيذاءها.
فأمسكت بكوب القهوة أمامها ، و وجهت حديثها إلى الأمير الثاني بنبرة حذرة: “بالمناسبة ، لدي سؤال لصاحب السمو”
“هم؟ أنا؟”
“إن لم يكن في ذلك إساءة ، هل لي أن أعرف سبب دعوتكَ لي إلى هذا الحفل؟”
ظنّ الأمير الثاني أنها ستسأله عن أمرٍ يخصه هو ، لذا بدا عليه الخمول بعد أن خاب ظنه من السؤال.
“لم أظن أنّكِ ستسألين عن شيء كهذا. أنتِ حقًا مملة ، كما قيل عنكِ”
“أعتذر على مَلَلي ، لكن أرجو أن تخبرني بالسبب”
تنهد دانييل بضيق من إصرار ديليا ، ثم نظر إلى السماء كأنه يفكر للحظة ، قبل أن يرد بصوت متكاسل.
“امرأة مقربة مني اقترحت أن أدعوكِ ، فماذا تقولين؟”
“ماذا؟ اقترحت أن تدعوني؟”
لم تستطع ديليا ، التي كانت تحاول التظاهر بأنها غير مبالية ، أن تخفي نبرة صوتها المندهشة.
ظنّت أن ولي العهد الثاني استدعاها ليقول شيئًا بشأن ما حدث في المرة السابقة ، لكنها فوجئت بأن امرأة أخرى هي من اقترحت دعوته لها ، فاتسعت عيناها بدهشة.
و في اللحظة التي كانت تحاول فيها تهدئة قلبها المضطرب بعيدًا عن أعين الآخرين ، سُمع ضحك خافت من الجهة المقابلة ، ثم تحوّل إلى قهقهة عالية.
مصدر الضحك كانت إيفلين ، التي عرضت عليها سابقًا الحلوى المحشوة بالزبيب.
“ماذا لو كنتُ أنا من اقترحت دعوتكِ؟”
“… آنستي أنتِ من اقترحتِ؟”
حاولت ديليا أن تخفي دهشتها بشرب الشاي الموضوع أمامها رغمًا عنها ، فهزّت إيفلين رأسها مؤكدة ذلك ، و أسندت كلتا يديها أسفل ذقنها.
كانت هذه تصرفات متراخية تمامًا بعكس ما اعتادت عليه ديليا عند لقائها بكاليوس في قصر الدوق.
و بينما كانت تتحسر على هذا التصرف غير المهذب من شخص يقيم في القصر الإمبراطوري ، أخذت إيفلين تقلب مربى الكعكة الملفوفة بالشوكة بفظاظة و قالت: “نعم ، بما أنني رأيتكما مقربين جدًا في المرة السابقة”
“…أنا؟ مع ولي العهد الثاني؟”
“ألم تقضيا وقتًا ممتعًا في الحفلة؟”
كان المعنى الكامن في حديثها واضحًا: لقد رأيتكِ تقتربين من ولي العهد الثاني في الحفلة الإمبراطورية السابقة. أملك نقطة ضعفكِ ، فكيف ستتصرفين الآن؟
… ما الذي تقوله أمام الجميع الآن؟
اشتدت قبضة ديليا و هي ترى إيفلين تستمر في قول أشياء مريبة. لم يكن بوسعها أن تُظهر انفعالها أمام الجميع ، فاضطرت لكبح غضبها المتصاعد.
و لو كانت بمفردها لكان الأمر مختلفًا ، لكن وجود كاليوس خلفها جعل التراجع مستحيلًا.
رمشت ديليا ببطء و رفعت رأسها الذي كانت قد خفضته قليلًا ، ثم أجابت بصوت هادئ موجّه لإيفلين التي كانت تبتسم منذ البداية: “أليس هذا غريب؟ أنا لا أملك أي علاقة قريبة مع ولي العهد الثاني … لطالما شعرت بذلك ، آنسة سلشستر ، تبدين بريئة جدًا في هذا النوع من الأمور”
رغم هدوء نبرتها ، فإن كلام ديليا كان لاذعًا جدًا ، و كان معناه واضحًا: “أنا لست مقربة منه إطلاقًا ، لكن إصراركِ على إلصاقي به يُظهر كم أنتِ خبيثة.”
اختفت الابتسامة التي كانت على وجه إيفلين ، و راحت تنظر إلى ديليا بذهول.
و بعد لحظة من الذهول ، تنبهت إيفلين إلى نفسها و ضحكت بإستخفاف ، ثم دفعت شعرها المبعثر إلى الخلف و أجابت كأن شيئًا لم يحدث: “بريئة؟ و هل البريئة هي أنتِ فقط؟”
قد يظن الآخرون أن إيفلين ما زالت تتصرف كعادتها ، لكن ديليا ، التي عاشت عمرها متنبهة لكل إشارة ، كانت تعرف جيدًا … أن إيفلين كانت غاضبة بشدة في تلك اللحظة.
في اللحظة التي كان يسود فيها التوتر بين ديليا و إيفلين ، قطع ذلك الجو صوت تصفيقٍ عالٍ شقّ الهواء.
“هيا ، دعونا نُنهي الشجار عند هذا الحد”
صاحب التصفيق كان دانييل ، الجالس في منتصف الطاولة.
نهض من مقعده و اقترب من إيفلين ، ثم ربت على كتفها بلطف و قال بنبرة تحمل شيئًا من الأسف: “يبدو أن الآنسة سلشستر كانت قد أساءت الفهم قليلًا”
في لحظة ، انهارت إيفلين التي كانت تحاول التماسك بكل ما أوتيت.
رفعت رأسها نحو ولي العهد الثاني ، الذي وقف شامخًا فوقها ، بنظرات تنطق بالدهشة و عدم التصديق.
لكن دانييل نظر إليها هذه المرة بتعبير بارد يختلف تمامًا عن تعابيره السابقة.
“أليس كذلك ، آنسة سلشستر؟”
“……”
تحت وقع نظرات ولي العهد ، لم تملك إيفلين إلا أن تتنهد و تومئ برأسها اعترافًا.
فربّت دانييل كتفها من جديد ، و كأنه يقول لها “أحسنتِ التحمّل” ، ثم التفت لينظر نحو ديليا.
“يبدو أن الآنسة ترغب في التعبير عن اعتذارها ، و ستصبّ لك الشاي بنفسها”
“ماذا؟ تريد أن تصبّ لي الشاي؟”
عادةً ما كانت إيفلين لا تفوّت فرصة لتضايقها بدلًا من خدمتها ، لذا حدّقت ديليا بدهشة غير مصدّقة.
على النقيض ، وقفت إيفلين من مقعدها بحيوية لم تكن موجودة قبل قليل ، و قد بدا على وجهها بعض الارتياح.
اقتربت من ديليا ، متجاهلة نظرات النساء الحائرات خلفها ، ثم سحبت الإبريق من يد الخادمة و صبّت الشاي في الكوب الفارغ أمام ديليا.
“لقد كنتُ متهورة قليلاً. أعتذر عمّا حدث قبل قليل”
لكن ديليا لم تردّ ، و اكتفت بالتحديق في إيفلين بوجه خالٍ من التعبير.
و حين تراجعت إيفلين خطوة للوراء ، حوّلت ديليا نظرها أخيرًا إلى كوب الشاي أمامها.
كان لون الشاي أغمق من البداية ، ربما لأن أوراقه نُقعت فترة أطول أثناء حديثهن.
فكشرت ديليا قليلًا دون قصد ، فقد بدا الشاي أثقل ، كما أن رائحة غريبة و خفيفة لم تكن موجودة من قبل جعلتها تتردد في الشرب.
عندها ، أسند دانييل ذقنه إلى يده على الطاولة و تحدث بنبرة مبالغ فيها عمدًا: “لا تفكرين في تجاهل صدق نية الآنسة سلشستر ، أليس كذلك؟”
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل "42"