في صباح اليوم التالي، كانت ظلال التعب واضحةً على وجه ديليا.
لقد مضت عدّة أيّام و هي تستيقظ بشَعرٍ أشعث و أطراف أصابعها متشققة حتى النزف ، وكان المشهد يُشعل زاويةً في قلبها كأنها تحترق.
بهذه الحال، لن يطول الأمر قبل أن تُشاع أخبار جنونها بين طبقة النبلاء، بعد أن تجاوزت أقاويل الخدم داخل القصر.
لذا، صعدت ديليا إلى طرف السرير، وطأطأت رأسها بين ركبتيها وهي ترتسم على وجهها ملامح كئيبة.
وفي تلك اللحظة، سُمع فجأة صوت خطواتٍ صغيرة خلف الباب، أعقبها طَرقٌ ناعم.
كان الطَرق مختلفًا عن ذلك الذي اعتادت عليه من الخادمات، مما دفع ديليا إلى إمالة رأسها باستغراب. ثم ، و بعد لحظة قصيرة، سُمع صوتٌ خافت يطلب الإذن بالدخول، وبدأ الباب المغلق ينفتح ببطء.
وما لبث أن ظهر من خلفه مساعد كاليـوس ، جيفري.
“…لِمَ أنت هنا؟”
“يسعدني لقائكِ سيدتي، جئتُ برسالةٍ من صاحب السمو”
رفّت جفنا ديليا بدهشة، ولكنها ما لبثت أن عبست عندما سمعت أنه جاء في مهمّةٍ من كاليـوس.
فقد ظنّت، للوهلة الأولى، أن أمرًا مهمًّا قد حصل، لكن اتّضاح أنه مجرد أمرٍ بسيط أشعرها بخيبةٍ باهتة.
وبينما كانت لا تزال مذهولة، ابتسم جيفري ابتسامةً محرجة، ثم أخرج من خلف ظهره شيئًا كان يُخفيه.
زهرةٌ بنفسجيةٌ عطرة.
كانت زهرة الليلك ، الزهرة التي تُعدّ أعز ما تحبه ديليا.
وفي اللحظة التي امتلأت فيها حدقتاها البنفسجيتان بصورة زهور الليلك، قدّم لها جيفري باقة الزهورٍ الفاخرة ، ثم تحدّث بحذر.
“صاحب السمو طلب أن أقدّمها لسيدتي”
“…هو؟ من أجلي؟”
حدّقت ديليا في باقة الليلك التي بين ذراعيها، كأن عقلها لم يستوعب بعد.
منذ أن فقد ذاكِرته، كانت هي من تُرسل إليه الزهور، ولم تتلقَّ منه أي شيء بالمقابل، ولهذا كانت متسمّرة، وشفتاها نصف مفتوحتين بدهشة.
“أظنّه عَلِم بأنكِ تُحبين الليلك كثيرًا، لذا أمر أن أقدّمها لكِ كهدية.”
“…لكن لماذا؟ ماذا فعلتُ حتى يرسل لي شيئًا كهذا؟”
لم تكن علاقتها مؤخرًا بكاليـوس تتعدى هروبها منه مرارًا.
وبينما استمرّت في النظر بعينين متسائلتين، قال جيفري بوجهٍ جاد.
“صاحب السمو قال إنه قَلِقٌ عليكِ.
“ماذا؟ هو؟ قلقٌ عليّ؟”
أومأ جيفري بصمت ، ثم نظر إلى عينيها المندهشتين بابتسامةٍ لطيفة.
“سيدتي لم تكن على ما يُرام مؤخرًا، وعلى ما يبدو، فقد شعر بالقلق بعد أن رأى حالتكِ الخطيرة الليلة الماضية.”
الليلة الماضية؟ أهو يتحدث عن لحظة تَعثّرها على الدرج؟
منذ فقدانه لذاكرته، قال بنفسه إنه لا يطيق حتى النظر إليها، فكيف له الآن أن يحمل جسدها ليسندها، ويرسل لها الزهور بإرادته؟
نظرت ديليا إلى باقة الزهور بوجهٍ يختلط فيه الحذر بالحيرة.
لم تستطع الوثوق تمامًا بكاليـوس المتغير، ومع ذلك، وبينما كانت تتنشّق عبير الليلك الغامر، بدأت تُراودها أُمنيةٌ خفيّة بأن يكون لجهودها أثرٌ في قلبه.
وفي تلك اللحظة، خطرت ببالها عبارةٌ كان كاليـوس يُردّدها كثيرًا في الماضي.
«سأجعلُكِ دائمًا أولويتي ، لأنكِ بطلة حياتي»
كانت تلك الكلمات عزاءً لديليا ، التي اعتادت الاستسلام قبل أن تتعلّم كيف تحلم. و عندما سمعتها لأول مرة ، بدت غير معقولة إلى حدّ أنها شلت تفكيرها. لكنها، للأسف، نسيت تلك الكلمات بعد مرور الوقت.
في ذلك الزمن، كان كاليـوس يُقدّمها دائمًا على نفسه.
بالنسبة له، لم يكن هو بطل قصته، بل ديليا. ولهذا، كانت تمشي رافعةً رأسها رغم هشاشتها، كي لا تستهين بها العيون، ولتُثبت لكاليـوس –الذي آمن بها– أنها تستحق ثقته…
و ما إن استذكرت ذلك ، حتى بدأت عيناها تلمعان ، و دمعة رقيقة انزلقت من أحدهما.
حدّقت ديليا في قطرات دموعها و هي تنساب بين بتلات الليلك، وفكّرت.
حتى وإن كنتُ غبية، فلا مفرّ من هذا… أنا أحبّه بصدق.
وفي تلك اللحظة، شعرت بشوقٍ عميق لرجلٍ اختفى في غياهب الذكريات.
طالما أن هذا الحب لم ينطفئ بعد، فلن تستطيع التخلّي عن كاليـوس.
***
وضعت ديليا باقة الليلك التي أهداها لها كاليـوس في مزهريّة.
وبينما كانت تُحدّق بصمتٍ في الزهرة التي تحمل في عبيرها ذكرياتٍ مشتركة بينهما، دوّى طَرقٌ خفيف على الباب.
وبما أنه لا يوجد أحدٌ يزورها في مثل هذا الوقت سوى شخصٍ واحد، ردّت ديليا بصوتٍ بدا أكثر حماسًا من المعتاد.
“تفضّل بالدخول.”
وبعد أن أذنت له، فُتح الباب ودخلت رين وهي تحمل صحيفةً في يدها.
“سيّدتي، كيف حالكِ اليوم؟”
“لستُ بخيرٍ تمامًا، لكنني لا أظنّ أنّ حالتي سيّئةٌ جدًا.”
تغيّر وجهُ رين إلى ملامحٍ منزعجة حين رأت أنّ أطراف أصابع ديليا قد تضررت أكثر من الأمس. غير أنّ ديليا هزّت رأسها قائلةً إنّ هذه الجراح البسيطة لا تؤلمها كثيرًا.
وخلال ذلك، لمحت رين باقة الليلك المزهرة الموضوعة على الطاولة الصغيرة بجانب السرير، فإرتجفت أطراف أصابعها وكأنّها رأت شيئًا لا يُصدّق.
“سيّدتي، ما هذا…؟”
“آه، إنّها زهور الليلك هو قد أهداها لي.”
رين، التي كانت لتبتسم عادةً وتعلّق على جمال الزهور، تجمّدت ملامحها تمامًا وهي تحدّق في الليلك أمام عينيها.
وعندما لاحظت ديليا ذلك، نهضت من مكانها واقتربت منها.
“ما بكِ؟ هل تشعرين بألمٍ في مكانٍ ما؟”
ففقدان الخادمة المقرّبة لعافيتها ولو مرةً واحدة كان كافيًا ليشعل قلق ديليا ، ولهذا علت وجهها ملامح قلقٍ شديدة.
غير أنّ رين تداركت نفسها بعد لحظات، وابتسمت ابتسامة مصطنعة قائلةً إنّه لا شيء على الإطلاق.
قدّمت الصحيفة التي كانت تحملها إلى ديليا ، ثم قالت إنّ لديها أمرًا طارئًا وعليها أن تغادر، وغادرت الغرفة على نحو أسرع من المعتاد.
حدّقت ديليا في الصحيفة بين يديها بوجهٍ متسائل للحظة ، ثم بدأت تتصفحها، وما إن رأت العنوان الرئيسي المثير حتى غطّت فمها بيدها.
«فصيل النبلاء في أزمة ، هل سيختفي هكذا؟»
اختفاء فصيل النبلاء؟ هذا أمرٌ غير منطقي على الإطلاق. و مع ذلك، لم تستطع تجاهل العنوان الذي استمرّ في استفزاز عقلها، فأخذت الصحيفة لتقرأ ما كُتب فيها.
«في الآونة الأخيرة، تتكرر حوادث العثور على جثث نبلاء ينتمون إلى فصيل النبلاء. وكان آخرهم نوتمن ديفيلر، أحد الحاصلين على رتبة النبالة (البارون)»
حين قرأت عن حدوث جريمة قتل استهدفت أحد أفراد فصيل النبلاء، فكّرت داليا في أنّ الأمر لا يتجاوز المستويات الدنيا مثل النبلاء من رتبة البارون. وذلك لأنّه كلّما علت رتبة النبيل، زادت صعوبة محاولة اغتياله.
لكن كون الضحية هذه المرة هو البارون ديفيلر تحديدًا، لا أحد أقل منه شأنًا، فهذا يُشير إلى أنّ استهداف كِبار النبلاء مثل الكونت أو الماركيز لم يعُد أمرًا مستبعدًا.
ويبدو أنّ الصحيفة كانت تتبنّى ذات الرأي، إذ ورد فيها أيضًا:
«النبلاء المشتبه في كونهم ضحايا لنفس الجريمة هم البارون بريو، البارون كيتن، والبارون ديفيلر. ومع ازدياد رتبة الضحايا تدريجيًا، تتزايد المخاوف من أن تكون هناك حملةٌ منظمة تستهدف النبلاء رفيعي المستوى من فصيل النبلاء. وقد صرّح الكونت هارتمن بضرورة الامتناع عن إصدار التكهّنات…»
لم تستطع داليا إخفاء رعشة عينيها.
اغتيالاتٌ تستهدف فصيل النبلاء؟ إن كان الأمر كذلك فعلًا، فإنّ شقيقها جيريمي سيكون في نهاية هذه السلسلة من الضحايا.
لم يمضِ وقتٌ طويل منذ أن تعرّض كاليوس لهجومٍ أفقده ذاكرته، وها هي الحوادث تتوالى …
‘مهلًا، لا يُعقَل… هل يمكن أن تكون هذه الحوادث مترابطة؟’
«على كلّ حال، ليس هذا هو المهم الآن. بالمناسبة، إلى أيّ مدى وصلت التحقيقات بشأن المهاجم الذي حاول قتلكِ في الحفلة الأخيرة؟»
تذكّرت ديليا السؤال الذي طرحه عليها جيريمي حين زار قصر هيلدبرانت سابقًا.
تُرى، هل كان على علمٍ بهذه الجرائم حينها؟
آنذاك، كانت مشوشةً لمجرّد أنه جاء لرؤيتها، ولم تفهم سبب طرحه لذلك السؤال الغريب.
وكما هي عادتها، رضخت دون مقاومة حين قال لها: “من أجل العائلة”
هل يُعقل أنّه كان يعلم بهجومٍ وشيك على فصيل النبلاء؟ بل، هل كان يعلم أنّ إصابة كاليوس لم تكن محاولة اغتيالٍ له، بل لها هي شخصيًا؟!
قفزت ديليا واقفةً من مكانها.
«لا يبدو أنّكِ تعلمين شيئًا. زيارتكِ هذه كانت مضيعةً للوقت»
إن كانت جميع الحوادث من البداية حتى الآن عبارةٌ عن حملةٍ منظّمة ضد فصيل النبلاء، فإنّ كاليوس لم يكن ضحيةً فحسب، بل قد يصبح هدفًا مرةً أخرى.
‘خشيتُ أن يُساء فهم الأمر و يُظنّ أنني أبيع المعلومات لعائلة بليك ، لذلك لم أجرؤ على سؤاله عن شيء’
كانت في حالة تردّد حول مدى صواب محاولتها لاستعادة ذاكرة كاليوس، ولكن فكرة أن يُصاب وهو يُحقق في أمرٍ لا يدري شيئًا عنه، جعلت قلبها يهوي من الخوف.
أمسكت ديليا يديها المرتجفتين وأخذت نفسًا عميقًا.
ومع ذلك، لا تزال هناك تساؤلاتٌ لم تجد لها إجابة.
فجميع الضحايا كانوا رؤساء عائلات من فصيل النبلاء.
أما هي، فكانت مرفوضةً من عائلتها، ومتزوجةً من كاليوس، وأصبحت تُدعى ديليا هيلدبرانت. إن كانت الحوادث بمثابة إعلانٍ لحملة تستهدف الفصيل ، فلماذا تكون هي الهدف؟
‘هل بالغت في التحليل بسبب صدمتي؟ ربما كنتُ أتوهم …’
بدأ قلبها الذي كان قد سقط من الرعب يستقر من جديد.
و أثناء تجوالها في الغرفة ، وقعت عيناها على بطاقة دعوة قديمة من ولي العهد الثاني ، كانت قد رمتها من قبل.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل "40"