إذا كُنت ترغَب فِي أن تترُكَني - 4
دوّي—
خرجت دِيليا من الغرفة ، فتفوه كالياس بسخرية بينما كان يجلس بتعبير غامض على وجهه.
كان من الطبيعي أن يُبقي على مسافة بينه وبين ابنة عدوه الذي حاول قتل والدته. لكن العكس تمامًا؟ لم يكن ليستوعبه أبدًا.
ما الذي حدث خلال تلك الفترة المنسية؟ بدأ يشك في أن ابنة عدوه اللئيم قد حاولت التلاعب به بطريقة ما.
“كم هو تصرف غير لائق.”
لم يكن الأمر مجرد عبث، بل بدأ يشعر بالانزعاج حقًا.
حين كُشف أمر فقدانه لعدة سنوات من ذاكرته، شحب وجه الخدم، أما مستشاره فكان متيقنًا تمامًا من أنه قد تزوج ابنة عدوه بدافع الحب.
لكن أكثر ما أزعجه كان وجه تلك المرأة—ذلك الوجه الذي بدا كما لو كانت ضحية بريئة تعرضت لخيانة كبرى، وكأنها شخص جُرح بعمق.
في البداية، كان يضحك ساخرًا عندما علم أنها ترفض الطلاق. لكنه الآن، بدأ يشعر بالضيق من حقيقة أنها هربت منه.
أدرك أن كل ما فعله هو تقديم اقتراح منطقي تمامًا، ومع ذلك، بات الوضع وكأنه الشخص السيء هنا. بل حتى شعر كما لو أنه ارتكب خطأ لا ينبغي فعله.
منذ أن أصبح ربّ عائلة هيلديبرانت، لم يُعامل بهذه الطريقة قط. نظر كالياس إلى المكان الذي كانت تقف فيه دِيليا قبل لحظات، ثم نقر لسانه بانزعاج.
بعد بضع دقائق، سُمع صوت حركة خلف الباب، ثم تردد صدى طرق خفيف.
“جلالتك، هل لي بالدخول؟”
“ادخل.”
صرير—
انفتح الباب، وظهر جيفري غيلن، المستشار القديم لكالياس.
دخل جيفري إلى غرفة النوم بحذر، لكنه بدا مرتبكًا من الأجواء المتوترة. كان يتحرك بخطوات محسوبة، متجهًا نحو كالياس.
“أين ذهبت السيدة؟”
“غادرت بالفعل. يبدو أنها لم تكن مرتاحة للحديث معي.”
“ماذا؟ هذا مستحيل.”
اعتقد جيفري أنه قد أساء السمع.
أثناء إصابة كالياس بجروح خطيرة، كادت ديليا أن تهلك من الامتناع عن الطعام. لقد تأثرت بشدة حتى تدهورت صحتها، ومع ذلك، بدلًا من مواساتها، كان يشكّ بها؟
تصرفات كالياس لم تكن تشبهه على الإطلاق، مما جعل جيفري يشعر بالحرج.
“السيدة تحبك، يا جلالتك.”
“لا تقل سخافات.”
كالياس ، بصفته دوقًا، كان محاطًا بالأعداء دائمًا. لم تكن هناك امرأة عاقلة ستحب رجلاً يخرج إلى الحرب عدة مرات في السنة.
“من العجيب أن عائلتها سمحت بهذا الزواج.”
إلا إذا كانت عائلة بليك قد تخلّت عن ديليا، وإلا فإن هذا الزواج كان قرارًا أحمق لا يجب أن يحدث أبدًا.
عبس كالياس وهو يدرك أن هناك شيئًا مخفيًا عنه.
“حسنًا، في الواقع…”
حكّ جيفري مؤخرة عنقه، مترددًا في كيفية إيصال هذا الخبر دون أن يبدو الأمر غريبًا.
بعد تردد طويل، لم يستطع مقاومة نظرة كالياس الحادة، فتنهد وفتح فمه أخيرًا.
“قد لا تصدق هذا، لكن السيدة لم تتواصل مع عائلتها منذ وقت طويل.”
“… ماذا قلت؟”
تجهم وجه كالياس.
كان يعلم أن ديليا، بصفتها الابنة الصغرى لعائلتها، قد نشأت في ظل حماية أفراد أسرتها. لم يكن ليتخيل أبدًا أن علاقتها بهم قد انقطعت تمامًا.
كان يعتقد أنها استخدمت بعض الحيل لتحتل مكانة دوقة، لكنها لم تكن كما توقع، مما جعله يعبس أكثر.
“هل لديك أي فكرة عن التفاصيل؟”
“للأسف، لا أعرف الكثير عن الأمر. بسبب حساسية الموضوع، لم أستطع طرح أي أسئلة.”
عند سماع النبرة غير الواثقة في صوت جيفري، أطلق كالياس ضحكة ساخرة وكأنه غير مصدق.
“لقد كنتَ بجانبي لسنوات، ومع ذلك لا تعرف حتى حقيقة واحدة عن تلك المرأة؟”
“ذا… ذلك…”
شحب وجه جيفري تمامًا. عضّ على شفتيه بسبب إحساسه بالعجز، ثم انحنى اعتذارًا وهو يشعر بالخزي.
ألقى كالياس بعنف ربطة العنق التي كانت تلتف حول عنقه على الأرض، ثم فكّ اثنين أو ثلاثة من أزرار قميصه. ومع ذلك، لم يتبدد الإحساس الخانق الذي يملأ صدره.
“سنتحدث عن هذا الأمر لاحقًا.”
إذن، لقد قطعت علاقتها بعائلة بليك حتى قبل الزواج؟ إذا كان الأمر كذلك، فلماذا تزوجتُها من الأساس؟ في النهاية، بخلاف مظهرها الجميل، لم يكن هناك شيء آخر فيها.
بمجرد أن انتهى من التفكير، اجتاح عقله ألم حاد، مما جعله يغلق عينيه بإحكام. كلما فكر في تلك المرأة، أصاب رأسه صداع مزعج.
كان ربّ الأسرة يجب أن يكون عقلانيًا في قراراته وأفعاله. لم يكن هناك داعٍ لإضاعة الوقت بالتفكير في امرأة لا تستحق حتى الالتفات إليها.
لذلك، بغضّ النظر عن علاقات ديليا أو وضعها، لم يكن لذلك أي أهمية بالنسبة له.
“إذن؟ لماذا جئتَ لرؤيتي؟”
“آه، في الحقيقة…”
ألقى جيفري نظرة متوترة حوله، ثم انحنى قليلًا نحو كالياس. وبعد تردد، رفع إحدى يديه إلى فمه وخفض صوته أثناء إبلاغه بالخبر.
“وصلت رسالة من الكاهن قبل قليل.”
“وماذا قال؟”
“يبدو أنهم مستاؤون للغاية من قرار جلالتك بالمضي قدمًا في الطلاق. قالوا إنه بمجرد تقديم وثيقة الاتفاق على الطلاق، سيتم البدء فورًا في فترة المراجعة القانونية.”
تصفح كالياس أوراق الطلاق أمامه بملامح باردة، وعندما رأى الفراغات غير المكتملة تحت اسمه، عضّ شفتيه دون أن يشعر.
توهّجت عيناه بغضب وهو يتذكر اللحظة التي أدارت فيها ديليا ظهرها له، عندها فقط، تحدث جيفري بحذر شديد، محاولًا قراءة مشاعره قبل أن يقترح بحذر:
“أعتذر على تطفلي، لكن… ألا تفكر في إعادة النظر مرة أخرى؟”
كان جيفري يأمل بصدق أن يغير رأيه.
منذ أن أصبح كالياس ربّ عائلة هيلديبرانت، بالكاد رآه أحد يبتسم. حتى أن البعض بدأ يتهامس ساخرًا بأن قلبه قد صُنع من الجليد.
لكن في أحد الأيام، أحضر كالياس إلى القصر ديليا من عائلة بليك. ومع مرور الوقت، بدأ الاثنان ينجذبان لبعضهما البعض، حتى أصبحا زوجين لا ينفصلان.
وبينما فقد كالياس اهتمامه بكل شيء، كانت ديليا الوحيدة التي استطاعت أن ترسم الابتسامة على وجهه. لذلك، كان من المستحيل تصديق أنه يريد إنهاء هذا الزواج.
“لا تجبرني على تكرار كلامي.”
لكن رأي كالياس كان مختلفًا تمامًا.
رفض طلب جيفري بإعادة النظر في الأمر دون تردد. كانت نبرته باردة، كما لو كان الدم الذي يجري في عروقه قد تحول إلى جليد. عندها فقط، أومأ جيفري برأسه مستسلمًا.
“كما تشاء، يا جلالتك.”
“عُد إلى عملك إذن.”
امتثل جيفري للأمر وغادر غرفة النوم الزوجية. أما كالياس، فبقي يحدّق في الأوراق التي كان يمسك بها للحظات، قبل أن يتمتم بشتيمة منخفضة.
لقد كان هو من طلب الطلاق منذ البداية. لكن لماذا يشعر بهذا الألم الحاد في رأسه؟ ولماذا يشعر أن شيئًا ما يضغط على صدره بقوة؟
أطلق كالياس ضحكة ساخرة وهو يحدّق في المكان الذي كانت ديليا تقف فيه قبل لحظات، دون أن يدرك المشاعر العاصفة التي كانت تضطرم في عينيه.
***
في الأيام القليلة الماضية، لم تستطع ديليا النوم بسهولة.
كلما أغلقت عينيها، كانت صورة زوجها تطاردها، مما جعلها تقضي الليالي مستيقظة. ومع استمرار الأرق، بدأت تظهر الهالات السوداء حول عينيها، حتى أصبح من المعتاد أن تستيقظ بملامح شاحبة ومنهكة.
بفضل لمسات سارا في التجميل، استعادت ديليا القليل من حيويتها قبل أن تتوجه إلى غرفة الطعام. جلست هناك، ونظرت إلى المقعد الفارغ أمامها، ثم فتحت فمها ببطء.
“… سأبدأ الأكل.”
بالطبع، لم تتلقَّ أي رد.
بدأت تقلب قطعة السمك المشوية أمامها ببطء، لكنها سرعان ما وضعت الشوكة ونهضت من مكانها. بالكاد تناولت لقمتين.
صحيح أن شهيتها كانت ضعيفة منذ البداية، لكنها لاحظت أن كميّة طعامها قد انخفضت بشكل ملحوظ خلال الشهر الماضي. عندما نظرت إلى فستانها الفضفاض، ارتسمت على وجهها نظرة قلق.
“هل يجب أن أجبر نفسي على الأكل؟”
بهذه الوتيرة، ستعود إلى النحافة الشديدة التي كانت عليها قبل الزواج، وذلك كان أسوأ فترة في حياتها، ولم تكن تريد العودة إليها أبدًا.
بعد لحظة من التردد، جلست مرة أخرى وأمسكت بالشوكة والسكين، ثم وضعت قطعة من السمك المتبّل في فمها وبدأت بمضغها ببطء.
في النهاية، وبعد أن تناولت نصف الطعام في غرفة الطعام الخالية، نهضت من مقعدها وتحركت بهدوء. وعندما صعدت الدرج المؤدي إلى الطابق الثاني، سمعت فجأة أصوات نسائية مرتبكة تتردد في الممر.
“يا إلهي، هل هذا صحيح؟”
بلا وعي، اختبأت ديليا خلف الجدار ومدّت رأسها قليلًا لترى مصدر الأصوات.
كان هناك خادمتان شابتان تتحدثان، ووجوههما شاحبة ومليئة بالقلق، كما لو كانتا تتبادلان أخبارًا خطيرة.
شعرت ديليا بارتجاف قلبها، فوضعت يدها على صدرها واستدارت للمغادرة، إلى أن سمعت جملة أوقفتها مكانها.
“سمعت أن السيدين سيطلقان بعضهما”
في تلك اللحظة، شعرت وكأن أغلالًا قيدت قدميها، ولم تستطع التحرك.
في هذه الأثناء، واصلت الخادمتان حديثهما بصوت منخفض وحذر.
“نعم، هذا صحيح. الشائعات انتشرت بين الخدم منذ أيام.”
“لكنكِ لم تذكُري شيئًا عندما كنا مع بقية الخدم!”
“بالطبع! كيف يمكنني التحدث بينما الأخت سارا ، التي لا تُخلِص إلا للسيدة ، تراقبنا بعينيها الحادتين؟ من يجرؤ على فتح فمه أمامها؟”
“هذا صحيح….”
قبضت ديليا يديها بإحكام.
مجرد إدراكها أن جميع خدم القصر قد أدركوا وضعها، جعل أنفاسها تتسارع. لم تهتم حتى بالألم الناتج عن أظافرها التي غرستها في راحة يدها، وواصلت الاستماع إلى حديث الخادمتين.
“إذا كان الطلاق سيحدث حقًا ، فماذا سيحدث للسيدة؟”