حتى و إن كان الاستماعُ إلى الحقيقة سيؤدّي إلى انهيارها ، لم يكُن بوسعها أن تعيش مختبئةً خلف الناس إلى الأبد ، كجبانة.
…في الواقع، كلما تذكّرت ما حدث قبل فترة، حينما هاجمها الأمير الثاني، وما جرى بينها وبين كاليوس من علاقةٍ جسدية، كان العرق البارد يغمر جسدها، ويغدو التنفّس أمرًا بالغ الصعوبة.
في البداية، ظنّت أن هذه الأعراض ستزول خلال يومٍ أو يومين. لكنها لم تختفِ حتى بعد مرور أسبوع، بل أخذت أعراض القلق تزداد سوءًا، مما جعل ديليا تدرك من جديد أنها بدأت تتحطّم من الداخل.
ومن خلال ردّات فعل الآخرين، بما في ذلك رين، اتّضح لها أنّ أحدًا ما قد تعمّد إسكاتهم. لكنها، مع ذلك، لم ترغب في قضاء حياتها حبيسة الغرفة، تلوم الأمير الثاني و كاليوس على ما جرى.
ولذلك، قرّرت ديليا أن تعترف بمرضها. لم تعُد ترغب في أن تتخيّل وحدها كلّ ليلة ما الذي قد يحدث.
اقتربت ديليا من وسط السرير، ثم جذبت برفقٍ الحبل المعلّق في السقف. وما هي إلا لحظات حتى سمعت وقع خطواتٍ خفيفة، تلاها طرقٌ خافت على باب غرفة النوم.
ولأنّ الشخص الوحيد الذي يدخل غرفتها عادة هو رين، فقد فتحت داليا الباب دون أن تتأكد من هوية الطارق.
لكن ما رأته أمامها لم يكن رين، بل كبير الخدم العجوز بلحيته البيضاء الطويلة.
“…كبير الخدم؟ ما الذي أتى بك إلى هنا؟”
بصراحة، شعرت بدهشةٍ كبيرة.
فعادةً ما تأتي الخادمات بمجرد جذب الحبل المعلّق في السقف، ولهذا كانت تتوقّع أن تأتي رين كالمعتاد.
لكن من جاء هذه المرة كان كبير الخدم، بزيّه الأسود الأنيق، فنظرت إليه ديليا بدهشةٍ واضحة.
“ما الذي أتى بك إلى هنا؟”
“أعتذر على الزيارة المفاجئة، لكن لديّ بطاقة دعوة يجب أن أُسلّمها لسيدتي.”
“…بطاقة دعوة؟”
أخرج كبير الخدم البطاقة من جيبه، ومدّها نحو ديليا بهدوء.
نظرت إليها مطوّلاً وهي تحاول استيعاب مصدرها، ثم قرّرت بعد تفكيرٍ طويل أن تتسلّمها.
تفحّصت ديليا وجهي بطاقة الدعوة البيضاء، وحالما وقعت عيناها على ما تحويه، اتّسعت نظراتها بدهشة. فقد كان الختم المطبوع في منتصف الرسالة مألوفًا لديها للغاية.
ختمٌ غريب يبعث على الرهبة لمجرّد رؤيته، كما لو أن أسدًا قد يقفز من الورقة في أية لحظة.
كان ذلك هو الختم الإمبراطوري الفريد الذي توارثته العائلة الحاكمة عبر الأجيال.
“لا يُعقل … هل أُرسلت من القصر الإمبراطوري؟”
“…نعم، هذا صحيح”
أجاب كبير الخدم بصراحةٍ تامة، فتغيّرت ملامح ديليا إلى القلق. ظلّت تحدّق في بطاقة الدعوة صامتةً لبرهة، ثم وقفت وتوجّهت نحو مكتبها. فتحت الدُرج ، و أخرجت سكين الورق لتكشط بها ختم الشمع الصلب.
“…هاه.”
حتى هذه الحركات البسيطة جعلت جسدها يتجمّد من شدة التوتر. طرقت بيدها على جسدها المشدود من القلق ، ثم فتحت بطاقة الدعوة ، وبدأت أوّل بتفقّد الاسم المدوّن داخلها.
كانت تُصلّي في سرّها ألّا يكون ذلك الشخص الوقح هو المرسل.
[دانييل دي إلبرن فيسيون]
“…”
لكن أمنيتها لم تتحقّق.
فالاسم المكتوب على بطاقة الدعوة هو ذاك الذي بات مألوفًا جدًا… الأمير الثاني المنحلّ ، دانييل.
ذاك الذي هاجمها على شرفة القصر، يجرؤ الآن على إرسال دعوة لحضور حفل شاي؟ تنفّست ديليا بعمق وهي تتذكّر وقاحة دانييل التي تجاوزت حدود الخيال.
“لن ألبّي هذه الدعوة.”
“نعم، أعتقد أنه من الأفضل ألّا تحضري”
تنفّست ديليا بامتعاض، وهي تعقِد حاجبيها.
دعوة لحفل شاي يجمع الشابّات غير المتزوّجات، وهي امرأةٌ متزوجة؟ لم تَفهم قطّ ما الذي يدور في رأس الأمير الثاني.
رمَت بطاقة الدعوة بإهمال على المكتب دون أن تُبدي اهتمامًا بها.
كان ذلك بمثابة انتقامٍ صغير منها تجاه الأمير الثاني.
وبعد أن رفضت الدعوة، وقفت ديليا بهدوء من مكانها.
شعرت أن البقاء في غرفتها سيجعلها تجنّ أكثر ممّا هي عليه الآن، لذا أمسكت بدرابزين السلم، وبدأت تنزل ببطء.
رغم النظرات من حولها، والتي لم تدرِ أكانت شفقة أم سخرية، إلا أنها رفعت ذقنها متظاهرةً بالثبات.
فقد اعترفت لنفسها بأنها مريضة، لكن كان من الصعب تجاهل تلك النظرات التي تنظر إليها كما لو كانت عبئًا سيسقط في أيّ لحظة.
من يراها، وهي عائدة بذلك المظهر البائس في ذلك اليوم، لا بدّ أنه بدأ يستهين بها. و لم يعُد من السهل عليها التخلّص من تلك الأفكار القاتلة التي بدأت تنخرها أكثر من ذي قبل.
في الحقيقة، كانت ديليا تشعر بشكٍ كبير. فعندما اعترفت لنفسها بمرضها، كانت تعلم أنه ينبغي عليها أن تبذل جهدها ليعود كاليوس إلى رشده. لكنها باتت تتردّد بسبب الذكريات التي تؤرقها كلّ ليلة.
والأمر أنّ كاليوس، الذي تجرّد من مشاعره واستباح جسدها ببرود، بات يبدو لها أكثر رعبًا من الأمير الثاني الذي حاول الاعتداء عليها.
هل حقًا هو نفس كاليوس الذي أحبّته؟ لقد قال إنه لا يريد استعادة ذكرياته. وحتى لو حاولت بكلّ ما أوتيت، فلن يكون من الغريب أن يراها بصورةٍ أسوأ. لكنّ أكثر ما كان يُرعبها … أن يعود كاليوس إلى وعيه ، و يظلّ على حاله هذا.
فهي قد أصيبت بجراحٍ لا يمكن لأيّ عودةٍ أن تُشفى منها.
“آه…”
“…كاليوس”
اصطدمت ديليا بكاليوس، الذي بدا وكأنه كان يصعد من الأسفل.
كانت تلك المرة الأولى التي تراه فيها منذ ذلك اليوم.
و في لحظة ، بدا لها أن ملامح ذلك اليوم المبعثرة قد غطّت وجهه الأنيق. و بينما شعرت داليا بدوارٍ و تمايلت على الدرج ، أسرع كاليوس إليها و أمسك بخصرها.
“تترنحين أكثر من مهرٍ وُلِد لتوه. ما الذي تفعلينه خارج غرفتك؟”
“أردتُ أن أتمشّى قليلاً… أنا بخير، أرجوك دعني.”
كان حنانه غريبًا عنها.
لقد شعرت كأنّه لم يبدأ بمعاملتها كزوجةٍ إلا بعد أن أدّت واجبها كزوجة، وكان هذا التغير يبعث في نفسها القشعريرة.
وضعت ديليا يدها على كتفه، محاولةً إبعاده بلطف، لكن ذراعه التي تمسّك بخصرها بقيت مشدودة، دون أن تبدي أي نيةٍ في التراجع.
“أنتِ مريضة. ألا تعلمين أن الطبيب قد زاركِ؟”
“أعلم. لكنني لم أشأ البقاء في الغرفة فقط”
تراءى لها في عينيه لومٌ بارد. و كانت ديليا تعرف.
كانت تعرف أنه لا أحد ينتظر خروجها.
سارا لم تعد بجانبها، ورين كانت لطيفةً لكنها لم تكن شخصًا يمكنها الاتكاء عليه دون قيد أو شرط.
ولأنها لم تُنهِ أفكارها بعد، لم تكن تعرف كيف تتعامل مع كاليوس أيضًا.
فقط للحظة … لو تجاهلت الأمر كما كانت تفعل دومًا ، لواصلت محاولة استعادة ذاكرته. لكن كاليوس بقي صامتًا، كعادته.
“سأوصلكِ.”
“نعم؟”
“ألن تنزلِي إلى أسفل الدرج؟”
“لكن …”
“لو كان طريقًا مستويًا، لربما تركتُكِ، لكن إن تعثرتِ على الدرج، قد تتحطمين تمامًا، جسدكِ الهزيل لا يحتمل …رغم أنني لا أحبكِ، إلا أنني لا أنوي الوصول إلى ذلك الحد”
نظرت إليه ديليا في صمت.
كان يحدّق بها بعينين لا تكشفان عن أي نيةٍ أو مشاعر.
بتردّد، وضعت ديليا يدها على ذراعه الممدودة. ومع أنها بدأت المشي بخطوات صغيرة، بقي كاليوس محافظًا على وضع ذراعه ليسندها.
“…الطلاق…”
“لن أتراجع عمّا نطقتُ به بلساني”
كان يقصد أنه، بما أنها أدّت واجبها كزوجة، فلن يُقدّم في الحال دعوى طلاق أو اتفاقًا للانفصال.
أومأت ديليا برأسها وأخذت تمشي من جديد.
و دوّى صوت خطواتها الخفيفة على الدرج مع وقع خطواته الثقيلة كصوت حذاءٍ عسكري، وكأنهما لا يسيران في انسجام.
“إذًا… متى سأؤدي الواجب التالي؟”
قالت ذلك بعد أن وصلت إلى الطابق الأول قبله، وهي تحدّق في الأرض. وبعد لحظة، وقف بجوارها دون أن يرد، وكأنه يفكر في الأمر، وصمت طويلاً حتى جعلها تتساءل.
وعندما رفعت رأسها تنظر إليه بدهشةٍ خفيفة، أجابها:
“أنا مشغول الآن، لا وقت لدي”
ثم أبعد ذراعه عن ذراعها كما لو أنه يُطلق طائرًا، واستدار فجأة.
“عندما تستعيدين صحتكِ، سنتحدث حينها من جديد”
رغم قسوته الظاهرة، إلا أن التغيّرات التي تطرأ على سلوكه بين الحين والآخر كانت تجعل قلبها يرتجف.
نظرت إليه ديليا بصمت ، ثم استدارت بسرعة ، و ابتعدت عنه من دون أن تلتفت.
***
أما كاليوس، الذي بقي وحده على الدرج، فقد تجمّدت ملامحه.
كان يعلم جيدًا أن ديليا مريضة بسبب السير أثناء النوم.
وكان هو من أمر بإغلاق الباب كل ليلة لهذا السبب.
لكنه ظنّ أن الأمر لن يطول. لأن ديليا التي يعرفها كانت دومًا تعود إليه حتى بعد أن تُرفض …لكن ، ما الذي رآه الآن؟ خطواتٌ متثاقلة، ونظراتٌ ضائعة، لم يكن بمقدوره تحمّل مشاهدتها.
أن يصل بها الحال إلى هذا الحد لمجرد أنها أدّت واجب الزوجة؟ كانت امرأةً ضعيفة و مؤلمةً بحق.
وبينما ظلّ يحدّق طويلًا في الفراغ الذي تركته وراءها، أمر جيفري الذي كان ينتظر في الأسفل بصوتٍ بارد.
“أرسل لزوجتي باقة زهور الليلك معتنى بها جيدًا”
“عفوا؟ زهور الليلك ، سيدي؟”
رغم أن ما هو صحي كان الأنسب لإرسالِه ، إلا أن كاليوس ، الذي كان يعلم جيدًا أن أكثر ما تريده داليا هو قلبه ، قرّر أن يرسل لها زهور الليلك التي كانت تُقدّرها دائمًا.
لم يكن يعلم كيف ستكون ردة فعلها عندما تتلقّاها ، لكن الأهم الآن كان أن يُسندها ، و هي في حالةٍ توشك فيها على الانهيار.
وعضّ كاليوس شفتيه وهو يتذكر خصرها، الذي بالكاد كانت يده تُحيط به.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل "39"