“أعتذر … و لكن لا أرغب في الاحتفاظ بشيء أعطاني إياه حتى في موقفٍ كهذا”
كانت جرعة الشفاء الموضوعة في وعاءٍ فاخر تبدو باهظة الثمن بشكلٍ واضح. لكن في هذه اللحظة المليئة باليأس، شعرت ديليا بغضبٍ شديد تجاه رين ، التي جاءت لتسلمها هدية كاليوس.
في النهاية ، لم تستطع ديليا كبت غضبها ، فقبضت على قبضتيها بإحكام ، ثم رفعت الغطاء الأبيض حتى رأسها و أصدرت أمرًا ببرود.
“اخرجي من الغرفة”
“نعم؟ ولكن …!”
“لم أعُد أرغب في الحديث. و إن لم تُظهري لي مزيدًا من الاحترام، فلن أبقى صامتة”
لو كانت ديليا في حالتها الطبيعية، لكانت هادئةً كما اعتادت، لكن ديليا الآن لم تكن سوى كتلةً من العدوانية. فقد مرّت بيومٍ مليء بالأحداث التي أنهكت أعصابها.
أدركت رين ذلك متأخرة، فجمّدها الذهول في مكانها. وبعد أن ترددت قليلاً أمام رغبة ديليا في عدم الحديث، غادرت رين الغرفة على عجل وهي تقول إنها ستعود لاحقًا.
حين سمعت ديليا صوت الباب يُغلق، أنزلت الغطاء الذي كان يغطي وجهها ببطء. ثم أطلقت ضحكةً فارغة و هي تشعر بأنها أصبحت أخيرًا وحيدة.
أن تصل بها الحال إلى أن تتوسل ليتركوها وحدها … يا لها من حياةٍ بائسة ومثيرةٍ للشفقة.
ألقت ديليا الغطاء بعشوائية فوق الجرعة المرمية على الأرض. ثم غطّت في نومٍ عميق كأن شيئًا لم يكن.
في عمق الفجر، حين نام الجميع، غطّى الظلام قصر الدوق الذي كان دائمًا يعجّ بالضجيج.
هدوءٌ لم يُسمع فيه حتى صوت الحشرات الطنّانة.
ولو لم يحدث شيء، لدام هذا الهدوء حتى شروق الشمس، لكن، للأسف، لم يدم السكون طويلاً. إذ انبعث صوت صريرٍ، وسرعان ما تبعته خطواتٌ غريبة ملأت الفراغ.
وصاحبة هذه الخطوات لم تكن سوى سيدة عائلة هيلدبرانت ، ديليا. كانت ترتدي قميص نومٍ يكشف نصف جسدها و هي تسير نحو الأمام.
في حالتها العادية ، ما كانت لتتجوّل في القصر بذلك الزي حتى لو كان الوقت فجرًا. لكن ، و قد غابت عن عينيها أي لمحة مِن الضوء ، لم تفعل شيئًا سوى التقدم بصمت.
أخيرًا، وصلت ديليا إلى الطابق الأول معتمدةً فقط على حواسها، دون مصباح أو خادمةٍ ترافقها.
فتحت بابًا لم يكن أمامه أحد، ووضعت قدمها في الحديقة التي امتلأت برائحة العشب.
ومشت حافية القدمين حتى اسودّت رجلاها، ثم توقفت فجأة بعدما بدا وكأنها تأكدت من شيءٍ ما. و كان المكان الذي وقفت فيه هو الحديقة الجميلة التي تملؤها أزهار الليلك البنفسجية.
الليلك، التي بدت كخصلات شعرٍ متدلية بأوراقها الخجولة، كانت فاتنةً سواء من بعيد أو عن قرب.
ابتسمت ديليا بسعادة وهي تستنشق عبير الليلك الممتزج بنسيم الفجر. ثم اقتربت من أصغر شجرةٍ في حديقة الليلك، وركعت ببطء على ركبتيها.
حدّقت طويلاً في الشجرة الصغيرة، التي لم يبلغ طولها نصف طولها بعد، وبدأت تمسح بلطف على أوراقها الرقيقة.
وفجأة، وبدون إنذار، ارتمت بجسدها على الأرض.
فتسبّب الحصى الصغير المختلط بالتراب بخدوش حمراء في يديها وقدميها. لكنها لم تُعر ذلك أي اهتمام. ما كان يهمّها الآن هو أن تُغمض عينيها إلى جانب تلك الشجرة الصغيرة.
و هي مستلقية على الأرض ، مدت يدها نحو الليلك بكل ما أوتيت من قوة. ثم، بعد فترة قصيرة، رمشت بعينيها مرتين قبل أن تفقد وعيها تمامًا.
لقد كان هذا الطقس الغريب شيئًا اعتادت ديليا فعله كل فجر ، منذ عودتها من القصر الإمبراطوري.
* * *
صباحٍ جميل تغرّد فيه الطيور.
لكن وجوه خدم قصر هيلدبرانت كانت شاحبة وكأنهم على وشك الموت.
خصوصًا الخادمات اللواتي ساعدن ديليا في النزول من العربة قبل بضعة أيام، فقد كنّ يذرعن الممر أمام غرفة ديليا بقلق، يتصبّبن عرقًا باردًا.
“هيه، رين! هل سيدتنا بخيرٍ فعلاً؟”
“فعلاً … خصوصًا أننا لم ننتبه أنها نامت في الحديقة ، فأصيبت للحمى”
“ما حدث هذه المرة مؤسفٌ بحق. سيدتنا لم ترتكب خطأً، لكنها انهارت هكذا…”
وفي وسط تلك المجموعة كانت تقف رين ، الخادمة الصغيرة عديمة الخبرة.
فقد قامت كعادتها بمساعدة ديليا على الاستحمام والنوم، لكنها استيقظت فجرًا على الصراخ العنيف من رئيسة الخدم.
هرعت رين إلى الحديقة دون حتى أن تغسل وجهها، وبثيابٍ غير مرتبة، لتشهد منظرًا مروّعًا.
“… سيدتي؟”
كانت هناك امرأةٌ فاقدة للوعي أمام شجرة الليلك الصغيرة، تتناثر خصلات شعرها الفضي حولها. تلك المرأة لم تكن سوى سيدتها التي تخدمها، ديليا.
راحت رين تحدّق مذهولةً في ديليا الممددة أرضًا وقد امتلأت يداها وقدماها بالخدوش، ثم سارعت نحوها بفزع.
نادت اسمها عشرات المرات وهي تنظر إلى وجهها الشاحب المائل للزرقة.
لا أحد يعلم كم من الوقت مضى على تلك الحالة.
لكن سرعان ما وصل جنود الحراسة إلى المكان، ونقلوا جسد ديليا البارد بسرعة إلى غرفة نومها.
وصل الطبيب متأخرًا بعدما سمع بالحادثة، ولم يكن لديه وقتٌ حتى ليمسح عرقه، فباشر بدأ بفحص حالة ديليا.
تحسّس نبضها، وراقب نبضات قلبها ليتأكد من انتظامها، ثم أطلق تنهيدة ثقيلة بعد الفحص.
“ما الذي كنتم تفعلونه حتى وصلت السيدة إلى هذه الحال؟!”
“هلّا أخبرتنا ما الخطب؟ ماذا بها؟”
“هاه؟ ألا تعرفون حتى ذلك؟!”
توقف الطبيب عن الحديث، عاجزًا عن تصديق ما يحدث.
راح يحدّق مطولًا في وجه ديليا الشاحب، ثم مسح وجهه بيده كما لو كان يحاول طرد الضيق، قبل أن يُسقط كلماتٍ كالصاعقة.
“إنه السير أثناء النوم. إنها حالةٌ مرضية ناتجةٌ عن ضغطٍ نفسي وصل إلى أقصى حدوده”
صمت الجميع، غير قادرين على التفوّه بكلمة. كانوا يعلمون أن ديليا تمرّ بوقتٍ عصيب منذ أن فقد كاليوس ذاكرته، لكنهم لم يتخيلوا أبدًا أن حالتها النفسية قد تسوء إلى هذا الحد.
وبما أن الأمر قد يتطور إلى فقدان ديليا أيضًا، بعد فقدان كاليوس لذاكرته، لم يكن أمام الطبيب سوى الذهاب إليه وإبلاغه بكل ما حصل.
في البداية، بدا على كاليوس الارتباك من حالتها، لكنه سرعان ما استعاد بروده وأجاب بصوتٍ بارد.
“إذًا؟ ماذا تريدني أن أفعل؟”
“عذرًا؟ يا سيدي، إن استمرت على هذا الحال، فقد…!”
“أترى؟ انتَ كثير الكلام اليوم على غير عادتك”
نهض كاليوس من على الأريكة واقترب من الطبيب.
ثم نقر بخفةٍ على جبين الطبيب المبتل بالعرق البارد.
“هي ليست مريضة. إنها بخير، فقط كانت تمرّ بيومٍ سيء”
ظهرت على وجه الطبيب ملامح صدمة واستنكار، وكأن كلام كاليوس لا يُعقل. كيف يمكن أن يُقال عن شخصٍ انهار فجرًا في الحديقة أنه بخير؟ أيوجد شخصٌ بهذه القسوة فعلاً؟
أراد الطبيب أن يعاود مناشدة كاليوس من جديد، لكن كلماته التالية أوقفته كليًا.
“ألم يكن لديك زوجةٌ و ابنة؟”
“نـ، نعم، صحيح…”
“إذًا عليك أن تحذر جيدًا. لا تزعجني أكثر من هذا”
أغلق الطبيب فمه فورًا.
كان يعلم أن كلمة واحدة إضافية قد تكلّفه حياة عائلته قبل أن يُنقذ ديليا.
وفي النهاية، اضطر الطبيب إلى مغادرة القصر على عجل، دون أن يتمكّن من علاج ديليا. أما كاليوس، فاختار أن يُغلق أبواب القصر ليلاً، حتى لا تتمكن ديليا من الخروج إلى الحديقة مجددًا.
لكن كلما اشتد الإغلاق، ساءت حالة ديليا أكثر. ففي كل فجر، كانت تضرب على الباب بقبضتيها حتى تنزف الدم. و كم من مرةٍ استيقظ الجميع مذعورين من صوتها ، لكن كاليوس لم يُبدِ أي نيةٍ لحلّ الأمر.
وحين استيقظت ديليا بعدها، ونظرت إلى يديها وقد تمّ لفّهما بالضمادات، ثم إلى وجوه الخدم المرهقة التي علتها الظلال حتى الذقن، أدركت الأمر.
لم تكن متأكدةً من السبب، لكنها علمت شيئًا واحدًا: أنها كانت تفقد عقلها شيئًا فشيئًا.
حدقت ديليا في راحة يدها الملفوفة بالضماد و أطلقت ضحكةً خاوية ثم أسندت رأسها إلى ركبتيها وراحت ترتجف بكل جسدها.
“هل أنا … بخيرٍ حقًا؟”
في البداية، ظنت أن الأمر بسيط. فقد سبق أن سقطت من السرير في أيام مرضها دون أن يُعدّ ذلك غريبًا.
لكن الأمور بدأت تتغير. فكل صباح كانت تستيقظ لتجد كدماتٍ جديدة على جسدها. و ذات يوم ، حين نظرت إلى الضمادات في يديها ، تسلّل الخوف إلى قلبها.
“هل يُعقل … أنني مصابةٌ بمرضٍ ما؟”
لكن ما عدا الكدمات، كانت بصحةٍ ممتازة. بإستثناء مرةٍ واحدة أصابها فيها الحمى بشكل مفاجئ …
نعم، لا بد أن هناك شيئًا غريبًا.
شعرت أن خدم القصر يُخفون عنها شيئًا ما.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل "38"