أخرجت ديليا للتوِّ الكعكاتِ من الفرن، وكانت لا تزال تنبعثُ منها أدخنةٌ خفيفة. بعد أن تركتها تبردُ قليلًا، نقلتها بحذرٍ إلى سلةٍ صغيرة.
تأمَّلَتِ الكعكاتِ التي تفوحُ منها رائحةُ الفول السوداني من زوايا مختلفة، ثم ارتسمت على شفتيها ابتسامةٌ راضية.
بدا لها أنَّ مستواها كان جيدًا بما يكفي لتقديمِها هديةً إلى كاليـوس.
حلَّت ديليا شَعرَها الذي كانت تربطه، ثم وضعت ما تبقَّى من الكعكاتِ في سلةٍ أخرى، وغادرت المطبخ. هناك، في الممر، وزَّعَت الكعكاتِ على طاقمِ المطبخ.
قالت لهم بلطافة:
“بينما كنتُ أخبز الكعكاتِ لزوجي، قمتُ بخَبزِ بعضها لكم أيضًا. إذا لم يكن لديكم مانع، هل تودُّون تذوُّقَها؟”
اتَّسعت أعينُ الطهاة دهشةً عندما سمعوا عرضها. تطلعوا إلى الكعكاتِ بذهول، ثم تناول كلٌّ منهم واحدةً بحذرٍ و وضعها في فمه.
“يا إلهي، هل هذه من صنعكِ حقًّا، سيدتي؟”
“نعم، اعتدتُ على الخَبزِ بين الحين والآخر مع زوجي في الماضي، لذا يُمكنني إعدادُ الحلوياتِ البسيطة مثل الكعكاتِ بنفسي.”
نظر رئيسُ الطهاةِ إليها بدهشةٍ، فهو لم يكن يعلم بذلك، حيث لم يتولَّ مسؤوليةَ قاعة الطعام إلا مؤخرًا.
لكن لم يكن الجميعُ سعداءَ بوجود ديليا.
كان هناك من يُعادونها في القصر، فأخذوا الكعكاتِ ونظروا إليها باشمئزازٍ قبل أن يتسلَّلوا إلى زاويةٍ بعيدةٍ ويلقوا بها خلسةً في صندوقِ القمامة.
رأَت ديليا ذلك المشهدَ مباشرةً، فإحمرَّ وجهُها من الإحراج.
تبدَّدَت سعادتها التي شعرت بها قبل لحظاتٍ، وغادرت قاعةَ الطعام على عجَل.
راودها شعورٌ بأن عددَ مَن يكرهونها في القصر يفوقُ عددَ مَن يتقبَّلونها. قبضت أصابعها بقوةٍ على سلةِ الكعكات التي كانت تحملها.
كانت تظن أن قلبها أصبحَ أقوى بعد كلِّ ما مرَّت به مع كاليـوس، وإيزابيلا، وإيفلين، لكن اتضح أن ذلك لم يكن سوى وَهمٍ. ابتسمت بسخريةٍ من نفسها.
حاولت ديليا تهدئةَ مشاعرها المجروحة، وسارت بسرعةٍ نحو المكتب. وما إن اقتربت حتى ظهرَ أمامها بابٌ ضخم، يختلف حجمه تمامًا عن باقي الأبواب في القصر.
أخذت نفسًا عميقًا وهي لا تزالُ تحملُ سلةَ الكعكات، ثم استجمعت شجاعتها وطرقت الباب برفقٍ.
“مَن هناك؟”
كان الصوت القادمُ من الداخل صوتَ جيفري، مساعد كاليـوس.
شعرت ديليا بخيبة أملٍ طفيفة، لكن بما أن كاليـوس كان بالداخل أيضًا، فقد فتحت فمها متحمسةً و قالت:
“مرحبًا، هل يُمكنني الدخولُ للحظات؟”
“…آه، هل هذه أنتِ، سيدتي؟”
مع دخول ديليا، انقلبَ هدوءُ المكتبِ فجأةً إلى ضجَّةٍ عارمةٍ.
بينما كانت ديليا متفاجئةً بالموقف غير المتوقع، عاد المكتبُ إلى الهدوءِ في لحظة، ثم فُتح البابُ المغلقُ على مصراعيه مع صوتِ خطواتٍ رتيبة. أمامها، كان جيفري يبتسم، رغم العرقِ الباردِ الذي يتصبَّبُ من جبينه.
“سيدتي، مضى وقتٌ طويلٌ منذ آخر لقاءٍ لنا”
“حقًّا، رغم أننا نعيشُ في القصرِ نفسه، لم نلتقِ منذ فترةٍ طويلة.”
منذُ زمنٍ طويل، كان جيفري هو المساعدَ الشخصيَّ لـ كاليـوس، وقد تكفَّلَ بكلِّ شيءٍ أثناء فقدانِ سيده لذاكرته.
بالطبع، كانت ديليا –بصفتها زوجته– تساعدُ قدر الإمكان، لكن من الصعبِ التغلُّبُ على شخصٍ كان غارقًا في العملِ معه منذ البداية.
عندما رسمت ديليا ابتسامةً هادئةً على وجهها، احمرَّ وجهُ جيفري قليلًا وهو يحكُّ مؤخرةَ عنقه بخجل. وفي تلك اللحظة، سُمعَ صوتُ تنهيدةٍ من خلفه، حيثُ كان يقفُ أمام الباب.
“إلى متى ستظلُّ واقفًا هكذا؟”
“آه، يا للعجب! أعتذر، لم أنتبه لسيدتي!”
تلقَّى جيفري ضغطًا صامتًا يُشيرُ إليه بأن يُدخِلَ ديليا إلى المكتبِ سريعًا، فإبتعدَ على الفورِ ليُفسح لها المجال.
قادها إلى الأريكةِ وجعلها تجلس، ثم قال إنه سيُحضرُ الشايَ الأسودَ على الفورِ قبل أن يُغادرَ الغرفةَ مسرعًا.
بينما كانت ديليا تُحدِّقُ في ظهر جيفري الذي اختفى بسرعة، توقفَ فجأةً صوتُ القلمِ الذي كان يكتبُ على الورق. بعد لحظةٍ، دوَّى في الأرجاءِ صوتٌ عميقٌ مألوف.
“إذن، ما الذي جاء بكِ إلى هنا؟”
“آه، في الواقع…”
وقفت ديليا من مقعدها واقتربت من كاليـوس، ثم ناولته سلةَ الكعكاتِ التي كانت تحملها بيدها اليمنى بحذرٍ.
“…ما هذا؟”
“إنها كعكاتٌ صنعتُها بالفولِ السوداني. سمعتُ أنكَ لم تكن تتناولُ أيَّ وجباتٍ خفيفةٍ مؤخرًا، لذا قررتُ أن أُعدَّ لك شيئًا بنفسي.”
حدَّق كاليـوس في الكعكاتِ التي قدَّمتها له ديليا دون أن ينطقَ بكلمةٍ.
في تلك اللحظة، كانت ديليا تحاولُ تخمينَ ما الذي كان يفكرُ فيه. وبينما كانت غارقةً في تأمُّلاتها، انطلق صوتُ كاليـوس البارد، الخالي من أيِّ مشاعر، قائلاً:
“هل جئتِ إلى هنا لمجردِ إحضارِ هذا؟”
“نعم…؟”
فقدت ديليا القدرةَ على الكلامِ في النهاية.
لقد صنعت هذه الكعكاتِ بنفسها من أجلِ ذكريات كاليـوس المفقودة، ومع ذلك، لم تتلقَّ سوى هذا البرودِ القاسيِ منه.
وضعت يدها على معدتها، تحاول تهدئةَ الغصةِ التي شعرت بها، ثم ابتسمت له بلطفٍ وقالت:
“ربما لا تتذكر الآن، لكنك كنتَ تحبُّ الحلوياتِ التي تحتوي على الفول السوداني أكثر من أيِّ نوعٍ آخر.”
في الواقع، لم تكن ديليا تحبُّ كعكاتِ الفول السوداني.
ومع ذلك، لأنها كانت الحلوى المفضلة لـ كاليـوس، شاركته الخَبزَ عدة مرات، حتى تغيَّر ذوقها تدريجيًّا. أما الآن، فإن مجردَ التفكيرِ في أنها الوحيدة التي ستتناولُ هذه الكعكاتِ التي صنعتها بيدها، جعل طعمها يبدو مريرًا في فمها.
“أنت مشغولٌ منذ استيقاظك، لذا أردتُ أن تأخذَ استراحةً ولو للحظةٍ مع هذه الكعكاتِ…”
“لم تكن لديكِ عادةُ القدومِ إليَّ مباشرةً، لكنكِ فعلتِ ذلك الآن بمجرد وصولِ دعوةِ الحفل؟”
“هذا….”
مدَّت ديليا الكعكاتِ مرةً أخرى نحو كاليـوس، لكنه لم يُحاول حتى أن يأخذها، بل أطلق ضحكةً ساخرةً كما لو أن الأمرَ لا يُصدَّق.
“إن كنتِ تظنين أنني سأأكلُ هذه الكعكاتِ التي صنعتِها، فأنتِ مخطئةٌ تمامًا. كيف لي أن أعرفَ ما الذي وضعتِه فيها حتى أضعها في فمي؟”
عند رفضِ كاليـوس القاطع، بدأت يدُ ديليا التي كانت تحملُ الكعكاتِ ترتجف. نظرت إلى الفتاتِ المتناثرِ بين أصابعها، ثم أغلقت شفتيها بإحكام.
كان من الصعبِ عليها أن تقتربَ منه بعد أن أصبحت علاقتهما متوترةً هكذا.
ومع ذلك، لأنها كانت تعرفُ أنه لا يزالُ يعتني بها، ولو قليلاً، فقد ظنَّت أنه لن يكون قاسيًا لهذه الدرجة.
حتى لو لم يكن يثقُ بها، فقد كانت زوجتَه الوحيدة. لم يخطر ببالها يومًا أن تضعَ السُّمَّ في طعامِه.
لم تكن تتوقع أن يثقَ بها بسهولةٍ، لكنها أيضًا لم تتوقع أن يتهمَها صراحةً بمحاولةِ تسميمه.
“أنا فقط… كنتُ أرغبُ في…”
كان الارتباك يمنعها من النطق بكلمات واضحة.
حاولت ديلّيا أن تهدّئ ما بداخلها، والذي كاد أن ينفجر في بكاء، ثم فتحت فمها مجددًا متوجهةً نحو كاليـوس.
“أنا فقط… كنتُ أرجو أن تتناول هذا وتتذكّر. لهذا لم أدع أحدًا غيري يحضّره، بل خبزتُ الكوكيز بنفسي وجئتُ بها إليك.”
فهذا كل ما كان بوسعها فعله من أجله. لقد وضعت ديلّيا كل مشاعرها الصادقة في خبز تلك الكوكيز له.
ومع ذلك، فإنه لا يزال ينظر إليها بعدم تصديق. حتى لو لم يكن يراها كزوجة مرغوبة، فقد اعتقدت على الأقل أنه لن يعتبرها عدوة.
نظرت ديلّيا إلى كاليـوس، الذي كان يحدّق في الكوكيز الملقى على الأرض بنظرة مشككة، ثم قالت بصوت مشرق متصنع:
“كيف لي أن أؤذيك بأي شكل من الأشكال…؟”
كان عقلها مشوشًا تمامًا.
فهي تعرف جيدًا أن كاليـوس لا يحبّ الأشخاص كثيري الكلام، لكن مجرد التفكير في أنه يشكّ بها جعل دماغها يتوقف عن العمل تمامًا.
“اليوم أيضًا، أثناء زيارتي للصـالون، التقيتُ بـالآنسة سيلشستر. لقد قالت الشيء نفسه. بأنه ليس لديّ أي شيء… ومع ذلك، لماذا قد أرغب في إيذائك؟ كيف لي ذلك أصلًا…؟”
نظر إليها كاليـوس بصمت، على غير عادته، بينما كانت تتحدث بشكل مرتبك. ثم أمال رأسه للخلف مستندًا إلى مسند الكرسي، ووضع كلتا يديه على ركبتيه، قبل أن يتمتم بصوت ينضح بالملل:
“حديثكِ طويل… إذن، ما الذي تريدين قوله؟”
“…ماذا؟”
“ما الفائدة من هذه التبريرات؟ هل تتوقعين أن أراكِ بنظرة أفضل بعد هذا الكلام؟”
شعرت ديليا وكأن عقلها تجمد.
على ما يبدو، فإن كل محاولاتها لتبرير نفسها لم تكن سوى ثرثرة مزعجة بالنسبة إليه.
“أجل، كما قلتِ، أنتِ لا تملكين أي شيء.”
“لكن، أنا أحاول بكل جهدي…!”
“ثم ماذا؟ حتى لو أكدتِ ذلك، فماذا سيتغير؟ هل تحاولين أن تبدين أمامي كشخص ضعيف وغير مؤذٍ؟”
عندما فقدت ديليا القدرة على الرد واكتفت بالرمش بذهول، أمال كاليـوس رأسه قليلًا وهو يطرح سؤالًا آخر:
“إذن، دعينا نقلب السؤال. ماذا يمكن أن تقدّمه عائلة بليك—وأنتِ معهم—لي؟”
“أنا… أنا…”
حاولت ديلّيا التفكير بشدة، لكن في النهاية لم تستطع سوى أن تلتزم الصمت.
فمنذ أن أصبح جيريمي مركيزًا، كانت قد أصبحت منبوذة من قِبَل عائلتها.
وأسوأ من ذلك، أن عائلة بليك لم تكن من أنصار الإمبراطور، بل كانوا ضمن طبقة النبلاء التي تتحفظ عليه وتراقبه بحذر.
وبهذه الظروف، لم يكن هناك شيء تستطيع ديليا فعله من أجل عائلة هيلديبرانت.
لذلك، لم تستطع سوى أن تخفض رأسها، وعيناها ترتجفان من الانكسار.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل "31"