لمّا رأت دِيليا ملامحَ رين المطمئنة وهي تقول لها: “لا تقلقي”، أطلقت زفرة ارتياح.
“حسنًا، لنعد ببطء. إذا تأخّرنا أكثر، سيقلق الخدم.”
على عكس كَاليوس، كان الخدم يولون اهتمامًا كبيرًا بخروج دِيليا.
فعلى الرغم من أنهم كانوا منشغلين عادةً بإنتقادها، إلا أنهم، في مثل هذه المواقف، كانوا يتظاهرون بالتزام القواعد، وهو ما بدا نفاقًا واضحًا.
منذ أن فقد كَاليوس ذاكرته، انقلب كل شيء رأسًا على عقب.
عندما كان في كامل وعيه، كانت معاملتهم المتجاهلة لها تتمّ في الخفاء، لكن بعد فقدانه للذاكرة، طفت تلك المعاملة القاسية على السطح بشكل علني.
ولم تنسَ دِيليا أبدًا أن الشرارة الأولى لكل هذا كانت حماتها، إيزابيلا، مما جعلها تعضّ شفتيها قهرًا.
بصراحة، لم تكن خاليةً من مشاعر الاستياء تجاه إيزابيلا.
فمنذ أن فقد كَاليوس ذاكرته، بدأ الجميع – بإستثناء سَارا – في تجاهلها تمامًا. كانت كرامتها تتآكل يومًا بعد يوم.
“لكن يا سيدتي، لاحظتُ منذ قليل أن معظم الحاضرين جاؤوا برفقة شركائهم”
“أوه؟ هل هذا صحيح؟”
نظرت دِيليا حولها على عجل، فرأت العديد من النساء يمسكن بأيدي أزواجهنّ أثناء التجوّل.
مشهدُهم وهم يبتسمون لبعضهم البعض ذكّرها بكَاليوس وبنفسها قبل أن يفقد ذاكرته. تأملت الأزواج الغارقين في السعادة، وشعرت بغصةٍ في قلبها.
‘متى يا تُرى سأتمكن أنا وكَاليوس من العودة إلى ما كنّا عليه؟ كم عليّ أن أبذل من جهدٍ حتى يستعيد ذاكرته؟’
فجأةً، تلاشى الحماس الذي كان يملأ قلبها، وحلّ محله شعور ثقيل بالكآبة. وضعت يدها على صدرها لتحتوي وجع قلبها، وزفرت تنهيدةً طويلة في الفراغ.
ظلت واقفةً هناك لفترة طويلة، وقبل أن تستدير عائدةً إلى العربة، توقفت رين التي كانت تتبعها فجأة واتسعت عيناها بدهشة.
ثم اقتربت من أذن دِيليا وهمست بصوتٍ متحمّس:
“سيدتي ، انظري إلى هناك!”
“هاه؟ ما الأمر؟”
اتبعت دِيليا اتجاه إصبع رين ، فرأت كشكًا يعرض أنواعًا مختلفة من الفاكهة، من بينها التفاح الأحمر الطازج.
حينها فقط، أدركت لماذا كانت رين متحمّسة إلى هذا الحد.
“أنتِ ترغبين في تناوله، أليس كذلك؟”
“آه، لا! ليس هذا ما قصدته…!”
“يبدو أنهم يصنعون العصير طازجًا أيضًا. لقد مشينا طويلًا، فلنشحن طاقتنا ببعض السكر قبل أن نواصل.”
كانت دِيليا تعلم جيدًا مدى حبّ الفتيات في سنّ رين للأطعمة الحلوة، لذا ابتسمت بلطف ووضعت بعض المال في يدها.
“سأنتظركِ هنا، لذا اذهبي واشتري ما تشتهين.”
“لكنني بخير، لا داعي لذلك…!”
“أنا أيضًا أشعر بالعطش. أودّ شرب عصيرٍ بارد بعد فترة طويلة.”
بالطبع، كان هذا مجرد كذب.
لكنها لم ترد الدخول في جدال قد يمتد حتى غروب الشمس ، لذا تظاهرت بأنها تشتهي العصير حقًا.
اتسعت عينا رين بفرحة، وأسرعت مبتعدة وهي تقول بحماس: “سأعود سريعًا!”
بدا أنها كانت تتوق فعلًا لشرب العصير، إذ احمرّت وجنتاها بينما كانت تركض نحو الكشك مثل طفلة صغيرة.
وربما لأنها جاءت بديلة عن سَارا على عجل، فقد كانت تبدو أصغر سنًا من بقية الخادمات في مثل عمرها.
يبدو أنها لا تزال تفتقر إلى الخبرة كخادمة، إذ كانت تتعمد التحديق في تصرفاتي كثيرًا.
لكنها كانت مجرد مبتدئة خطت أولى خطواتها في المجتمع، ومن الطبيعي أن ترتكب بعض الأخطاء، لذا لم أجد داعيًا لتوبيخها.
بينما كانت تُراقب رين وهي تبتعد شيئًا فشيئًا، استدارت دِيليا ببطء. نظرت حولها، ثم جلست على مقعد مظلَّل و أسندت ظهرها إليه.
كم مضى من الوقت منذ أن حظيت بلحظة كهذه من الحرية؟
استنشقت دِيليا الهواء العليل بعمق، مستمتعة بالنسيم العذب الذي يداعب جسدها. وبينما كانت تغمرها هذه السعادة، بدأت تهمهم بلحنٍ خافت.
وفي تلك اللحظة، سمعت وقع خطوات عديدة قادمة من بعيد. شيئًا فشيئًا، كانت الخطوات تقترب نحوها.
نظرًا لكونها نادرًا ما تخالط المجتمع الأرستقراطي ، كانت فرصة لقائها بمعارفها ضئيلة جدًا ، و لهذا كانت تُرتب خصلات شعرها المتطايرة بإبتسامةٍ رائقة.
لكن فجأة ، غَشِي ظلٌّ جسدها ، ثم صدح صوت مألوف في أذنيها: “أوه؟ لم نلتقِ منذ وقت طويل.”
“…أنتِ…”
كان صوتها ناعمًا كحبات اللؤلؤ وهي تتدحرج، ترافقه رائحة آسرة كأنها محاطةٌ بورودٍ من جميع الجهات. لم تكن هناك امرأة تتمتع بهذه الأوصاف سوى إيفلين سيلشستر.
تصلبت ملامح دِيليا، ورفعت رأسها ببطء. هناك، رأت إيفلين تبتسم بهدوء، و معها امرأتان مجهولتان.
‘كما توقعتُ، حظي كان جيّدًا بشكلٍ مريب اليوم’
بمجرد أن أدركت أنها تواجه أكثر شخصٍ تكرهه، تلاشى مزاجها الجيد على الفور.
أخفت إحباطها، ونهضت من مقعدها بتصنعٍ شديد وكأن شيئًا لم يكن.
“لقد مرَّ وقتٌ طويل، آنسة سيلشستر.”
“هذا صحيح. في المرة الماضية، رحلتِ فجأة دون أن تمنحيني فرصةً لوداعكِ.”
كانت إيفلين تشير إلى ذلك اليوم الذي كانت فيه برفقة كَاليوس وحدهما في غرفة الاستقبال.
صحيح أن دِيليا وضعت رهانًا يتعلق بهما، لكنها لم تمنحها أبدًا الإذن بإغواء رجلٍ متزوج بجسدها.
ظلت دِيليا صامتة، تحاول كبح غضبها، لكن إيفلين سرعان ما التقطت التوتر في الأجواء، فرفعت حاجبيها ببراءة وزادت من ميلان رأسها.
للحظة، ظنّت دِيليا أن إيفلين قد تكون لديها ذرة ضمير، لكنها سرعان ما شعرت بقشعريرة تجتاح جسدها بسبب تصرفاتها المستفزة.
‘كما توقعت، المرأة التي اختارتها إيزابيلا ليست عادية أبدًا’
ارتسمت على وجهها ابتسامة باردة وهي تفكر بذلك.
ثم فجأة، قطعت إيفلين أفكارها وسألت، وكأنها لم تفعل شيئًا يثير الشكوك: “لكن قولي لي، سيدتي، ما الذي تفعلينه هنا؟”
“ليس بالأمر الكبير، لقد جئت فقط لرؤية الفساتين. ستصل الخادمة قريبًا، لذا سأغادر قريبًا.”
عندما أجابت دِيليا بهذه الكلمات، ارتسمت على وجه إيفلين تعابير غامضة. ثم اقتربت من دِيليا بخطوات هادئة، متجاهلة الفتيات النبيلات اللواتي كنَّ يقفن خلفها.
في اللحظة التي بدأ فيها الارتباك يتسلل إلى دِيليا بسبب هذا التصرف المفاجئ، انحنت إيفلين قليلًا نحوها وهمست بصوت خافت:
“سيدتي، ما يثير فضولي ليس هذا”
“… إذن، ما الذي يثير فضولك؟”
عند سؤال دِيليا، ابتسمت إيفلين ابتسامة مشرقة، وكأنها كانت تنتظر هذه اللحظة.
ثم حركت المروحة في يدها برفق وتحدثت بصوت يملؤه مزيج من الشفقة و التساؤل: “عادةً ما يكون من الطبيعي أن ينسّق الزوجان ملابسهما معًا، فهل علاقتك بزوجك ليست جيدة؟”
“… ماذا قلتِ؟!”
اتسعت عينا دِيليا من الذهول.
طوال حياتها، لم تسمع مثل هذا الكلام إلا من إيزابيلا فقط.
عندما عبست دِيليا، رفعت إيفلين كتفيها بخفة وتراجعت إلى الخلف. بدا الأمر كما لو أن بينهما صداقة وطيدة ، مما جعل دِيليا تضحك بسخرية.
“يبدو أن الآنسة سيلشستر تشعر بملل شديد، أليس كذلك؟ وإلا لما تكلفت عناء القدوم إلى هنا لمضايقتي.”
“ماذا قلتِ للتو…!”
احمرّ وجه إيفلين، على غير عادتها، وكأنها تلقت ضربة مفاجئة. ثم أخذت نفسًا عميقًا ولوّحت بمروحتها لتهدئة نفسها.
لطالما اعتقدت دِيليا أن شعر إيفلين الأحمر جميل، لكن الآن، مع احمرار وجهها، بدت تمامًا كالتفاحة الناضجة التي تتأرجح بين الخريف والشتاء.
عندما تخيلت ذلك، لم تستطع منع نفسها من الضحك.
عندها، رفعت إيفلين إحدى حاجبيها في انزعاج وسلّمت مروحتها إلى إحدى الفتيات النبيلات بجانبها.
بدت كما لو أنها قررت التعامل مع الأمر بجدية، مما جعل دِيليا تأخذ نفسًا عميقًا دون أن تشعر.
فبما أنها اختارت البقاء كزوجة لكاليوس، لم يكن من الممكن تجنب المواجهة مع إيفلين، لكن التوتر كان أمرًا لا مفر منه.
“على أي حال، لدي سؤال لسيدتي.”
“… لي أنا؟”
“نعم، كنت أرغب في سؤالكِ منذ فترة، لكن لم يكن هناك توقيت مناسب.”
بلا تردد، جلست إيفلين بجانب دِيليا دون انتظار إذنها.
وعندما لامس جسدها جسد دِيليا، تراجعت الأخيرة على الفور.
نادرًا ما كانت إيفلين تمدحها، لذا أدركت دِيليا بسرعة أن هناك نية خفية وراء كلماتها. ضيقت عينيها في تأمل، لكن إيفلين نظرت إلى السماء كما لو كانت تطمئنها بعدم القلق.
السماء الزرقاء الصافية بدت جميلة للغاية، فتحدثت إيفلين بنبرة سعيدة قائلة إنها مذهلة.
كانت دِيليا تتوقع أن تتذمر إيفلين قائلة إن الجو مشرق بلا داعٍ، لذا فوجئت بردّها الطبيعي على غير العادة.
“لكن ، تبدين وكأنك متفرغة ، أليس كذلك؟”
“… ماذا؟”
كان سؤالًا غريبًا و غير متوقع.
لو كانت حياتها خالية من المسؤوليات حقًا، لكانت تعيش حياة مريحة في القصر بعيدًا عن كل هذا.
عندما ظهرت على وجهها ملامح الدهشة ، فتحت إيفلين عينيها على اتساعهما و لوّحت بيديها كما لو أنها تريد تصحيح سوء فهم.
“أوه، لا تسيئي الفهم. أنا فقط أشعر بالغيرة لأنك تتجولين بحرية، بينما حضرة الدوق لا يفعل ذلك”
“هاه…”
شعرت دِيليا كما لو أن ضغط دمها قد ارتفع فجأة.
من الخارج ، قد يبدو حديثهما مجرد دردشة عادية بين سيدتين، لكن دِيليا فهمت المعاني الحقيقية المخفية خلف الكلمات أكثر من أي شخص آخر.
عندها، شدّت شفتيها في صمت.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل "29"