عندما سمعت دِيليا الصوت المألوف جدًا، أشرق وجهها بالسرور واستدارت بسرعة. وعندها، وقعت عيناها على كَاليوس، الذي كان ينظر إليها بتعبيرٍ يملؤه الذهول.
“هل يساعدكِ الجلوس بهذا الشكل على ترتيب أفكاركِ؟”
عند كلماته الباردة، ارتسمت على وجه دِيليا نظرة من الإحراج. في الحقيقة، لم تكن جالسة هناك فقط من أجل سقي الزهور، بل كانت تأمل في أن تُصادِف كَاليوس أيضًا.
قبل فترة وجيزة، أعطته خاتم الزواج و أكدّت له أنها ستساعده على استعادة ذاكرته بأي ثمن. لكن ، و بكل صراحة ، لم تكن لديها أي فكرة واضحة عن كيفية القيام بذلك.
لهذا السبب، لجأت إلى محاولة تحفيز ذاكرته شيئًا فشيئًا ، من خلال التواجد في الأماكن التي كانا يذهبان إليها معًا في الماضي، أو عبر النظر إلى الأشياء التي أهداها لها ذات يوم.
لكنها لم تكن تعلم كيف انساب الوقت بهذا الشكل، فحتى وقتٍ قريب، كانت الشمس مشرقةً في السماء، والآن باتت تُغرِق الأفق بلونٍ قرمزي، وكأنها لم تكن هناك أبدًا.
وفي خضم دهشتها من بقائها منغمسةً في التفكير طوال هذا الوقت، رمقها كَاليوس بنظرةٍ ساخرة، وهو يحدق في خدّها الذي تلطّخ بالتراب.
“لا أستطيع أن أفهمكِ. ترفضين القيام بواجباتكِ كزوجة، ومع ذلك، ترفضين بشدة فكرة الانفصال؟ لماذا؟”
لم تكن دِيليا ترغب في الغضب.
و مع ذلك ، فإن رؤية كَاليوس وهو يلقي بتلك الكلمات الجارحة بلا مبالاة جعل أطراف أصابعها ترتجف.
“إذا كنتِ على استعدادٍ فعليًّا لأداء واجباتكِ كزوجة، فقد أُفَكِّر في الإبقاء على هذا الزواج”
“إلى متى ستستمر في قول ذلك …؟”
ذلك الواجب الزوجي اللعين …
الآن ، لمجرد سماع عبارة “واجبات الزوجة” ، كانت مشاعر سلبية تغمرها.
وضعت ديليا إبريق الماء الذي كانت تحمله على الأرض و زفرت أنفاسًا ساخنة. كانت تشعر بإمتعاض شديد تجاه كاليوس ، الذي لم يكفَّ عن قول الكلمات الجارحة.
عندما بدأت عينا ديليا تضيقان و هي تنظر إلى كاليوس ، بدأت أصوات خطوات باهتة و طنين خفيف يقتربان شيئًا فشيئًا.
فوجئت ديليا بقدوم شخص آخر غير كاليوس إلى هذا المكان ، فإرتسمت على وجهها علامات الدهشة ، ثم أدارت جسدها محاولة تهدئة احمرار وجنتيها المتوهجتين من الغضب.
في تلك اللحظة ، صدح صوت لا يُمكن تصديقه في أذنيها:
“يا إلهي ، دوقي ، ها أنت هنا!”
كان صوتًا أنثويًا مرتفعًا جعل قشعريرة تسري في عمودها الفقري. استدارت ديليا ببطء، متمنية من أعماقها ألا تكون تلك المرأة هي القادمة. و لكن ، كما هو الحال دائمًا ، لم يكن الحظ يومًا إلى جانبها.
كانت المرأة الساحرة ذات الشعر الأحمر المموج، الذي انسدل على أحد جانبيها، هي إيفلين سيلشستر. قطبت ديليا جبينها كما لو أنها رأت شخصًا لم يكن ينبغي أن تلتقي به أبدًا.
“لقد كنتُ أبحث عنكَ في كل مكان ، لم أرَكَ في أي مكان ، ولم أكن لأتخيل أبدًا أنَّكَ هنا”
في ذلك البستان المليء بالزهور المتفتحة ، بدت أجمل من أي وقت مضى.
شعرت ديليا بإحساس حاد بالحرمان بالمقارنة بها ، فإنكمشت كتفاها لا إراديًا، وكأنها دخيلة غير مرغوب فيها بينهما.
“آه، والآن بعد أن تذكرت، الدوقة هنا أيضًا؟”
“… مرحبًا”
في الواقع، لم تكن على ما يرام على الإطلاق.
أرادت أن تصرخ و تسألها بصراحة: “لماذا أتيتِ إلى هنا؟!”
لكن بوجود كاليوس بجانبها، لم يكن بإمكانها التعبير عن مشاعرها، فاكتفت بإيماءة بسيطة وهي تخفي انفعالها.
“لكن ، سيدتي ، ما هذا المظهر؟”
“ماذا؟ ماذا تقصدين؟”
“فستانُكِ متسخ للغاية ، هل كنتِ تلعبين بالتراب قبل قليل؟”
حدقت ديليا في ملابسها.
بسبب جلوسها على الأرض الترابية قبل قليل ، أصبح نصف فستانها مغطى بالسواد.
شعرت بصدمة وهي تحاول نفض الغبار عنه، لكن كلما حاولت تنظيفه، ازداد السواد انتشارًا أكثر فأكثر.
بينما كانت ديليا تُظهر تعبيرًا مرتبكًا، تقدم كاليوس نحو إيفلين و سألها بصوت ينمّ عن الحذر:
“ما الذي أتى بكِ إلى هنا؟”
“ماذا؟ بالطبع جئتُ لرؤية دوقي المبجل”
“أليس من الأدب أن تُخبري قبل زيارة منزل شخص آخر؟”
عند ملاحظة كاليوس لها، ارتعشت حاجبا إيفلين قليلًا.
و بعد تردد قصير ، بدأت تبرر موقفها قائلة إنها اعتقدت أن السيدة الكُبرى قد أذِنَت لها.
عندها ، انحنى طرف شفتي كاليوس في ابتسامة ساخرة ، و كأنه لا يصدق ما يسمعه.
“هذا مثير للسخرية حقًا. صاحبة هذا القصر ليست والدتي، بل أنا. و مع ذلك ، تقتحمين المكان دون إذني؟ هل ينبغي أن أعتبر هذا تجاهلًا لي؟”
“آه ، لا! لم أقصد ذلك…”
على الفور، تلاشت ثقة إيفلين أمام نبرة كاليوس الحادة.
في هذه اللحظة المتوترة، حيث بدا وكأن الجو مشحونٌ بطاقةٍ قاتلة، أمسكت ديليا بطرف معطف كاليوس.
لكنها سرعان ما ارتبكت عندما التقت عيناها بعينيه ، فتركت يدها سريعًا.
راقب كاليوس رد فعلها للحظة بوجه غامض، ثم، على عكس توقعاتها، أمسك بيدها من جديد قبل أن يوجه نظره نحو إيفلين.
ربما بسبب النظرة الباردة التي علت وجهه، بدت إيفلين خائفة ، فتمتمت قائلة إنها ستنتظره في غرفة الاستقبال ، ثم غادرت مُسرِعة.
راقبت ديليا إيفلين وهي تبتعد، ثم خطت خطوة إلى الوراء مبتعدة عن كاليوس، قبل أن تهمس:
“لم أتوقع أن تتدخل بنفسك”
لطالما ظنت أنه لن يُبدي أي ردة فعل حتى لو أهانتها إيفلين، لكنها لم تتخيل أبدًا أنه سيظهر استياءه منها بهذه الطريقة.
بل إنه حتى … أمسك بيدها.
حدقت ديليا في يديهما المتشابكتين ، محاولة تذكر آخر مرة شعرت فيها بلمسته. كان الأمر يبدو بعيدًا ، و كأنه ينتمي إلى حياة أخرى.
و عندما لاحظ كاليوس نفسه ذلك، سحب يده بقوة و كأنه يحاول التخلص من أثرها.
غطّت ديليا يدها الأخرى على يدها التي تركها، ثم تمتمت بصوت خافت: “شكرًا لمساعدتك”
“لا تسيئي الفهم. لم أفعل ذلك من أجلِكِ”
“لكن مع ذلك…”
لم تستطع ديليا فهم تقلبات مشاعره.
أحيانًا يكون باردًا وقاسيًا إلى حدٍ لا يُطاق، وأحيانًا أخرى يلمح لها بطرف من الحنان الذي اعتادت أن تحبه فيه.
لكن عودته إلى بروده جعلت قلبها يؤلم من جديد.
“توقفي عن إظهار ذلك الوجه البائس أمامي.”
“… لم أكن أتصنع البؤس.”
تراجعت ديليا خطوة إلى الخلف ، ثم انحنت بخفة وهي تقول بصوت منخفض: “سأعود إلى الداخل الآن.”
الرجل الواقف أمامها لم يكن هو كاليوس الذي عرفته.
كان كاليوس الذي تُحبه رجلًا نبيلاً، يضبط نفسه حتى في الغضب، ويضع مشاعر الآخرين في الاعتبار.
لكن مهما كانت دوافعه في تقليد اللطف الذي اعتاد عليه، فقد كان حتى قبل لحظات فقط الرجل القاسي الذي تحدث عن “واجبات الزوجة” ببرود.
أدارت ظهرها له، محاولة أن تستعيد اتزانها، ثم غادرت المكان على عجل.
بقي كاليوس في مكانه لفترة طويلة بعد رحيلها، ناظرًا إلى الفراغ بصمت. ثم، بهدوء، خفض رأسه وحدق في يده اليمنى.
شعر وكأن الألم الحاد الذي كان يُثقل رأسه يتلاشى تدريجيًا، ابتداءً من أطراف أصابعه التي لامستها.
عندما استعاد وعيه لأول مرة، لم يكن يُطيق حتى النظر إلى وجهها، لكنه الآن، وجد نفسه يتطلع إلى أي لحظة يلامسها فيها.
“ما الذي تفعله بي هذه المرأة…”
شعر كاليوس بانزعاج غير مبرر، وتقطّبت ملامحه لا إراديًا. كان الأمر كما لو أن هذه المرأة، دون أن يدرك، أصبحت أكثر أهمية مما كان يتخيل.
ثم، عندما استرجع في ذاكرته تلك الابتسامة الصافية التي أهدته إياها ديليا، وضع يده على صدره، حيث شعر بوخزة خفيفة.
حدق في الاتجاه الذي اختفت فيه، و ضيّق عينيه كما لو كان وحشًا يدرس فريسته.
ظل واقفًا وحده في حديقة الليلك لفترة، ثم خطا أخيرًا، وكأنما كان من الصعب عليه المغادرة.
بعد فترة وجيزة، وصل إلى غرفة الاستقبال.
دون أي تردد ، دفع الباب ليفتحه ، ليُكشف أمامه مشهد إيفلين و هي تمسك بفنجان الشاي بكلتا يديها ، مبتسمة ابتسامة هادئة.
“… ما زلتِ هنا؟”
“بالطبع ، كنتُ مستعدة للانتظار لساعات”
وضعت إيفلين فنجان الشاي الذي كانت تحمله ونظرت حولها، ثم سألت بتعبير متسائل: “لكن أين الدوقة؟”
“زوجتي لم تكن على ما يرام، لذا أرسلتها إلى غرفتها للراحة.”
“أوه، كنت أشعر أن هناك شيئًا غريبًا… منذ أن رأيتها في الحديقة مغطاة بالتراب”
استعاد كاليوس في ذهنه المشهد الذي رآه قبل قليل.
ديليا، التي كانت واقفة في الحديقة وقد غطّاها التراب، بدت بعيدة كل البعد عن صورة “دوقة نبيلة”. و مع ذلك ، و هي محاطة بتلك الليلك البنفسجية المتألقة ، بدت و كأنها سعيدة بشكل لا يوصف.
بينما كان غارقًا في مشاعره غير القابلة للوصف و عبوسه يزداد عمقًا ، فتحت إيفلين عينيها على اتساعهما و كأنها تذكرت شيئًا ، ثم جمعت يديها برقة قائلة: “لكن قبل ذلك ، هناك شيء أود أن أريه لكَ ، يا صاحب السمو”
بعد أن ابتلعت قطعة البسكويت التي كانت تأكلها، استدارت إيفلين والتقطت بعض الأوراق الموضوعة في زاوية الأريكة، ثم مدتها نحو كاليوس.
“هذه وثائق أعددتها خصيصًا لك. أرجوك ، تأكد من قراءتها”
تحدثت بصوت واثق، مما جعل تعبير كاليوس يصبح أكثر غموضًا. أخذ منها الأوراق وبدأ يتصفح محتواها بسرعة.
و بعد أن قرأ نصفها تقريبًا ، فجأة ، انفجر ضاحكًا بسخرية ، و كأنه لا يصدق ما يراه.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل "21"