إذا كُنت ترغَب فِي أن تترُكَني - 2
– في يوم الحفل الذي أقيم في القصر الإمبراطوري.
تنهدت ديليا و هي تنظر إلى قطرات المطر المتدفقة من نافذة العربة.
كانت تتوقع بعض الإرهاق منذ الصباح ، لكن لم يخطر ببالها أبدًا أن المطر سيهطل بغزارة تعيق السير.
استمرت الرحلة لفترة طويلة، مما جعل وجه ديليا يشحب شيئًا فشيئًا. و عندها سألها كالياس ، الذي كان يجلس مقابلها ، بصوت مفعم بالقلق:
“عزيزتي، هل تشعرين بتوعك؟”
“… أنا بخير. أشعر ببعض التعب فقط بسبب الجلوس في العربة لفترة طويلة.”
قبل سنوات، عندما خرجت ديليا في نزهة مع عائلتها، تعرضت العربة التي كانت تقلهم لحادث انقلاب.
أسفر الحادث عن مقتل والديها على الفور، بينما نجت هي وحدها. منذ ذلك الحين، أصبحت تعاني صعوبة في تحمل الرحلات الطويلة بالعربة.
بينما كانت ديليا تلهث بأنفاس متسارعة، نهض كالياس فجأة من مكانه. اقترب منها و عانق كتفيها بقوة ليهدئ من روعها.
“لا داعي للخوف.”
ارتجف كتفا ديليا عند سماع نبرة صوته الحازمة.
رفعت عينيها الكبيرة ببطء ونظرت إليه.
كان شعره مصففًا بعناية، ورداءه الرمادي الداكن المتناسق يبرز قوامه الممشوق. أضفَت عليه رائحة المسك العميقة، التي فاحت من جسده القريب، مزيدًا من الجاذبية.
قال بصوت واثق:
“طالما أنا زوجكِ وأنتِ زوجتي، فلا داعي لأن تشعري بالخوف.”
“كالياس…”
ابتسم كالياس بلطف و هو يربت على خدها.
كانت تلك الابتسامة المليئة بالدفء تخصها وحدها، ما أعاد إليها بعض الطمأنينة التي كادت أن تفقدها.
وضعت ديليا يديها حوله وأغمضت عينيها بهدوء. وفي تلك اللحظة، شق صوت السائق القوي طريقه عبر جدران العربة.
“سيدي، سنصل قريبًا!”
اتسعت عينا ديليا بتوتر.
كانت تعلم أن الوصول وشيك ، لكن اقترابهم الفعلي من قاعة الحفل في القصر جعل قلبها ينبض بقلق.
ربّت كالياس على ظهرها ثم أجاب السائق الذي كان يقف خلف الجدار الفاصل: “كم من الوقت علينا الانتظار بعد؟”
“بسبب توافد عدد كبير من الضيوف قبلكم، تأخر الدخول قليلًا. على ما أعتقد، ستنتظرون حوالي عشر دقائق.”
نظرت ديليا عبر النافذة.
كما قال السائق، كانت هناك عربات فاخرة مصطفة في طابور طويل. بدا وكأن الحفل قد بدأ بالفعل. شعرت بتوتر خفيف وهي تشبك يديها معًا.
وبعد انتظار قصير، حان وقت دخولها إلى القصر. زفرت ديليا أنفاسها المتوترة. كان عليها أن تقابل العديد من الأشخاص بعد قليل، مما جعل أصابعها ترتجف لا إراديًا.
“يبدو أننا يجب أن ننضم إلى الحفل الآن.”
“لا يمكننا البقاء هنا إلى الأبد.”
أجابها كالياس بصوت حازم، ثم ربت على رأسها ونهض من مقعده. لم يكن هناك مجال للمماطلة أكثر، فقد حان الوقت للنزول من العربة والدخول إلى قاعة الحفل.
لكن ما أوقفه كان أصابع ديليا الرقيقة التي أمسكت بيده.
“عزيزي… هل سيكون كل شيء على ما يرام؟”
“بالطبع، لا تقلقي. بما أنكِ تظهرين لأول مرة منذ فترة طويلة، سيُحسِن الجميع استقبالك.”
أومأت ديليا برأسها. مر وقت طويل منذ آخر مرة حضرت فيها حفلة كهذه، وربما تغيرت نظرة الناس إليها.
في النهاية، نظرت إلى كالياس بعزم واضح في عينيها.
“على أي حال، أنتِ تقلقين كثيرًا.”
رفع كالياس القبعة التي كان قد وضعها بجانبه ووضعها على رأس ديليا. ثم قام بربط الشريط أسفل ذقنها بعناية، موجهًا إليها تحذيرًا لطيفًا.
“ابقي قريبة مني قدر الإمكان”
“نعم ، سأضع ذلك في اعتباري بالتأكيد”
“بالطبع، لا ينبغي أن يحدث ذلك، ولكن إذا وجدتِ نفسكِ في موقف خطير، نادي عليّ على الفور”
بينما كانت ديليا تطرف بعينيها، فتح كالياس باب العربة ونزل أولًا. ثم مد يده اليمنى نحوها ليساعدها على النزول.
كانت كفّ كالياس ممتلئة بالندوب التي خلفتها معاركه في ساحة الحرب.
و بينما كانت ديليا تحدق بصمت في تلك الندوب التي تشهد على نضاله من أجل البقاء، مدت يدها بحذر و أمسكت بيده.
ثم سارت بجانبه متجهة إلى قاعة الحفل.
***
بمجرد دخول ديليا وكالياس إلى القاعة، خيّم الصمت فجأة على الحاضرين، الذين كانوا يتجاذبون أطراف الحديث بحيوية حتى تلك اللحظة.
لم تكن ديليا تحضر الحفلات بانتظام، وكالياس أيضًا لم يكن من روادها. لذا، كانت دهشة الجميع واضحة على وجوههم وهم يحدقون فيهما بعدم تصديق.
ولكن سرعان ما استعاد الحضور وعيهم وبدأت الابتسامات ترتسم على وجوههم. كان في نظراتهم احترام كبير موجه نحو كالياس.
“سيدي كالياس!”
“يا إلهي، لقد مر وقت طويل جدًا!”
“كيف كنتَ تقضي وقتك؟ لطالما أردنا التحدث إليك ، لكننا لم نحظَ بفرصة لذلك”
بدأ الحاضرون يتحدثون بعبارات متنوعة لجذب انتباه كالياس. كان البعض يشيد بشجاعته، بينما كان آخرون يثنون على إنجازاته السابقة، في محاولة يائسة لكسب وده.
أما ديليا، فلم تكن تحب الأماكن المزدحمة، لذا تراجعت خطوة إلى الوراء بحذر.
نظرت نحو كالياس الذي كان في قلب التجمع، ثم أرسلت له إشارة خفيفة بعينيها قبل أن تتجه نحو الشرفة.
خرجت ديليا إلى الشرفة وأطلقت زفرة متوترة وهي تحدق في النجوم اللامعة التي تزين السماء الليلية.
كانت تلك النجوم تبدو مشرقة للغاية على عكس مشاعرها المضطربة، مما زاد من شعورها بالكآبة.
في الماضي، عندما أقيمت جنازة والديها الراحلين، وُصمت ديليا بأنها “ابنة عاقة نجت بينما مات والداها.” كانت نظرات الاستهجان والكلمات الجارحة تلاحقها في كل مكان.
في ذلك الوقت، كانت تشعر بظلم شديد لا يُحتمل. كل ما كانت تريده هو البقاء مع والديها، ولم تتخيل أبدًا أن تفقدهما بتلك الطريقة.
ولكن الأمر لم يتوقف عند حد الوصمة، بل امتد إلى تعرضها للاتهامات الجائرة حتى خلال الجنازة نفسها. لم تستطع تحمل ذلك، وانتهى بها الأمر جالسة في زاوية القاعة، تبكي بصمت.
عندها، شعرت بشيء ثقيل يُلقى فوق كتفيها. كان معطفًا دافئًا يغطيها برفق.
قبل أن تتمكن من رفع رأسها لترى من الفاعل، سمعت صوت ركوع شخص على الأرض. ثم دوّى في المكان صوت عميق وهادئ، منخفض إلى حد جعلها تشعر بقشعريرة تسري في ظهرها.
“كنتُ أراقبكِ منذ مدة. لم ترتكبي أي خطأ.”
رفعت ديليا رأسها متتبعة الصوت. وعندها، وقع نظرها على رجل ذي شعر أسود حالك لم يتلون بأي لون، وعينين زرقاوين تذكّرانها بالياقوت الأزرق.
كان يقف عند الحد الفاصل بين الصبا والرجولة، متأملاً الصليب المثبت داخل الكنيسة، ثم قال:
“لذا، ارتاحي بسلام. حتى يتمكن والداكِ من إغلاق أعينهما بطمأنينة.”
“آه…”
في اللحظة نفسها، انحدرت دمعة شفافة من عيني ديليا. نظرت إلى الرجل دون أن تفكر حتى في مسح دموعها، ثم أطلقت العنان لبكائها بصوت عالٍ.
كان ذلك اليوم هو أول لقاء بين كالياس و ديليا، حين احتفظ كل منهما بصورة الآخر في قلبه. ومنذ ذلك الحين، لم تعد لقاءاتهما تقتصر على المناسبات العابرة، بل انتهت أخيرًا إلى زواجهما.
تأملت ديليا خاتم الزواج الذي يزين إصبعها الأيسر، وفكرت:
“ربما، لو لم يأتِ كالياس إليّ في ذلك اليوم وأنا أبكي… لكنا قد بقينا غرباء طوال حياتنا.”
بينما كانت غارقة في أفكارها، دوى فجأة صوت فتح عنيف لباب الشرفة. ظنت أن كالياس قد عاد، فاستدارت مبتسمة بفرح.
لكن ما رأته أمامها لم يكن زوجها، بل رجلاً ملثمًا يركض نحوها بسرعة، وفي يده خنجر حادّ.
“ما هذا…؟”
شعرت ديليا بأن عقلها أصبح فارغًا تمامًا، وجسدها تصلب من الخوف، غير قادرة على الحراك أمام هذا الموقف غير المألوف.
كانت محاصرة على الشرفة، بلا أي طريق للهروب. لم يكن أمامها خيار سوى إغلاق عينيها بإحكام، متوقعة الألم الوشيك.
لكن… كان هناك شيء غريب.
مر الوقت، ومع ذلك لم تشعر بأي ألم، ولا حتى بأدنى إحساس.
وبينما كانت تستعد لفتح عينيها، لامس أنفها عطر مألوف، واقترب منها شخص ما وهمس بصوت خافت:
“ديليا، لا تفتحي عينيكِ أبدًا”
“…”
“يجب ألا تري أي شيء. نادِ أحدًا فورًا وعودي إلى القصر.”
لم تستطع ديليا النطق بأي كلمة.
كان صوت أنفاسه متسارعًا أكثر من المعتاد. واختلطت رائحة الدم الحديدية برائحته المألوفة. كان كل ذلك دليلاً واضحًا على أن كالياس في خطر.
مرر كالياس يده على خدها بلطف، لكن نظرته إليها كانت مملوءة بشعور غامض من الذنب.
ثم، وبينما كان يحدق فيها، ترنح جسده قليلاً. وفي تلك اللحظة، اندفع الرجل الملثم مجددًا، ودفع جسد كالياس ليسقط من فوق السور.
“لا، لا! كالياس—!”
مدت ديليا يدها على عجل، لكنها كانت متأخرة جدًا.
كان كالياس ينظر إليها بتعبير يائس، بينما ترتسم على وجهه ملامح الألم.
تطلعت إليه وهي تهز رأسها، ثم جثت على الأرض الباردة، وارتجف صوتها وهي تهمس:
“كالياس…”
لكن… لم يصلها أي رد.
“أرجوك، قل لي إن هذا ليس حقيقيًا…”
وأخيرًا، لم تستطع ديليا حبس دموعها أكثر.
وكأن السماء شاركتها حزنها، إذ بدأت الأمطار الغزيرة بالهطول.
شاهدت ديليا الحشد الذي تجمع حول كالياس، ثم فقدت وعيها وسقطت على الأرض.