إذا كُنت ترغَب فِي أن تترُكَني - 19
“ماذا؟ هل هذا صحيح؟!”
لم تستطع السيدات إخفاء صدمتهن.
فبغض النظر عن خطأ الزوجة، لم يكن الطلاق أمرًا سهلًا بين النبلاء.
كان مجتمعهم محافظًا بطبيعته، وحتى لو طُلب الطلاق ، فإن تجاهله من الطرف الآخر يعني نهاية القضية دون نتيجة.
ولا شك أن السيدة السابقة لعائلة “هيلدبرانت” كانت تدرك ذلك جيدًا، فهل كانت حقًا تعتزم فرض الطلاق بأي وسيلة؟
كان من المؤكد أن الشخص المعني بالأمر سيعاني كثيرًا ، لذا تبادلَت السيدات نظرات القلق ، ثم وجّهن أنظارهن إلى “إيزابيلا” بقلق واضح.
“هل أنتِ متأكدة من ذلك؟”
“أنا بخير، لكن ما يؤلمني هو التفكير في ابني، الذي سيعاني بسبب الطلاق.”
تك … تك …
تساقطت دموع “إيزابيلا” على وجنتيها. رؤية هذه الصورة الضعيفة منها، على غير عادتها، جعلت السيدات يتنهدن بأسى.
واحدة تلو الأخرى، وقفت السيدات من أماكنهن واقتربن من “إيزابيلا”، ثم نظرن إليها بعيون حازمة، وقد اتخذن قرارهن بالفعل.
“لا تقلقي، سنساعدكِ في ترتيب الطلاق”
“بالضبط! أي زوجة هذه التي تترك زوجها المصاب وتركّز على مصالحها الشخصية؟ لم أسمع بشيء كهذا من قبل!”
كانت السيدات اللواتي اجتمعن في الصالون يتميزن بولائهن المطلق لمن يقفن إلى جانبه، ولكن إن تغيرت المواقف، فإنهن يدِرن ظهورهن دون أي تردد.
و”إيزابيلا”، التي كانت تعرف هذه الحقيقة جيدًا، كتمت ضحكتها في سرّها.
كان الأمر مسألة وقت فقط قبل أن تُطرد “ديليا ” وهي مكللة بالعار. لذا، وبينما كانت السيدات يقدّمن لها المواساة، لم تستطع منع دموع الفرح من الانهمار.
***
بعد انتهاء الصالون الطويل والمُرهق، خيّم صمت غريب على المكان بعد مغادرة السيدات.
تنهّدت “إيزابيلا” وهي تفرك كتفيها المتشنجين، فقد كان التعامل مع السيدات طوال الجلسة مرهقًا للغاية.
ثم فتحت أحد الأدراج وأخرجت زجاجة نبيذ أحمر، وبعد أن أزالت سدادة الفلّين بمهارة، سكبت القليل منه في فنجان الشاي.
وبينما كانت تحتسي النبيذ بطريقة أنيقة وكأنها تحتسي الشاي، رفعت بصرها إلى “إيفلين” وابتسمت لها بلطف.
“عزيزتي، لماذا تحدّقين بي هكذا؟”
“أوه، أعتذر. لقد تفاجأتُ قليلًا عندما بدأتِ بشرب النبيذ فجأة.”
أسندت إيزابيلا إحدى ذراعيها على الطاولة وبدأت في النقر بلطف على فنجان الشاي المملوء بالنبيذ. كان لون النبيذ الأحمر المتماوج يشبه الدم تمامًا.
“زوجي كان لديه نفس ردة الفعل”
“ماذا؟ هل تقصدين دوقكِ السابق؟”
“نعم، كان يعبس قائلًا إنني أبدو كساحرة ذات وجهين”
بدت إيزابيلا شديدة الوحدة وهي تتحدث.
اقتربت إيفلين منها وعانقتها بقوة، ثم أعلنت بصوت مليء بالحماسة: “لا بأس. أنا أحترمك بشدة حتى بهذا الشكل.”
“…ماذا؟ أنتِ تحترمينني؟”
أومأت إيفلين برأسها ومسحت بلطف دمعة كانت لا تزال على خد إيزابيلا.
“أنا أكره الخسارة بشدة، ولهذا لا أتردد في فعل أي شيء من أجل تحقيق النصر. حتى لو تسبب ذلك في إيذاء الآخرين.”
“…أنتِ تذكرينني بنفسي عندما كنتُ صغيرة”
منذ طفولتها، كانت إيزابيلا تكره أن تُهزم. ولهذا السبب، كانت تُساء فهمها كثيرًا، حيث وُصفت بأنها أنانية أو طموحة أكثر من اللازم. لكن من الصعب تغيير الطبع الفطري.
ولهذا، حتى بعدما أصبحت زوجة الدوق السابق، لم تحظَ أبدًا بحبه. لم تكن تتوقع أن تجد شخصًا مثل إيفلين، التي تفهمها وتشعر بها بصدق. كان الأمر أشبه بالعثور على صديقة متوافقة معها تمامًا، بغض النظر عن فارق العمر بينهما.
“أن أسمع هذا منكِ هو شرف لي حقًا”
أغلقت إيفلين عينيها بإبتسامة عذبة.
لم تستطع إخفاء نشوة الانتصار بداخلها ، فقد نجحت في كسب إيزابيلا قبل أن تفوز بكاليوس.
وضعت أمامها قطعة من الحلوى اللذيذة وقالت بابتسامة مشرقة: “سيدتي، سأبذل قصارى جهدي حقًا.”
“إذا فعلتِ ذلك، فسأكون ممتنة جدًا.”
“قبل قليل، بعد أن رأيتُ السيدة، أدركتُ شيئًا … لقد أصبحتُ أرغب بشدة في أن أكون السيدة الجديدة لعائلة هيلدبرانت.”
بالطبع، كانت إيفلين تشعر بالأسف تجاه إيزابيلا، لكن هدفها النهائي كان الحصول على لقب “هيلدبرانت”. كانت ترغب في أن يحمل طفلها المستقبلي لقب عائلة دوقية ذات تقاليد عريقة وتاريخ طويل، وليس مجرد لقب عائلة نبيلة عادية.
ذكاء إيفلين الحاد، إلى جانب مهارة كاليوس الاستثنائية في فنون القتال … إذا اجتمع هذان العاملان، فمن المؤكد أن طفلهما سيكون عبقريًا لا مثيل له.
“سأبذل قصارى جهدي!”
كانت مستعدة لفعل أي شيء لتصبح سيدة عائلة هيلدبرانت، حتى لو كان عليها الإطاحة بديليا، دوقة هيلدبرانت الحالية.
***
منذ أن أعادت ديليا خاتم الزواج، بدأت حياتها الكئيبة تتغير تدريجيًا. وأبرز ما تغير كان سلوك كاليوس ، الذي لطالما تجاهلها، حيث بدأ يتصرف بشكل مختلف.
فمثلًا… عندما تنزل إلى غرفة الطعام، تجده في انتظارها، أو يرسل إليها مجوهرات فاخرة عدة مرات في الأسبوع.
تصرفات لم تعهدها منه من قبل.
حتى الخدم بدوا قلقين، فقد كانوا يتساءلون عمّا إذا كان قد استعاد ذاكرته، وإذا كان الأمر كذلك، فماذا سيحدث لهم؟
لكن ديليا كانت تدرك الحقيقة جيدًا…
كاليوس لم يستعد ذاكرته بعد، بل كان يختبرها.
من الجيد أنني لم أطمئن له حتى الآن …
لولا ذلك، لكنت قد طُردت فورًا.
نظرت ديليا إلى المجوهرات الفاخرة التي أرسلها كاليوس كهدية لها، وعبست قليلًا.
“أنا آسفة، أعيديها كلها.”
“ماذا؟! هل تقصدين هدايا الدوق؟!”
“نعم، لدي بالفعل مجوهرات تكفيني و أكثر. أخبريه أنني لا أرغب في تلقي مثل هذه الهدايا بعد الآن.”
نظرت سارا إليها بعينين مليئتين بالحيرة.
حسنًا… من منظور الآخرين، قد يبدو الأمر كما لو أن كاليوس بدأ يهتم بها مجددًا.
لكن الحقيقة أنه لا يزال ينظر إليها كأنها مجرد لعبة…
نظرت ديليا بلا مشاعر إلى المجوهرات في يدها، ثم رفعت عينيها نحو سارا و قالت: “بالمناسبة، هناك أمر أريد منكِ القيام به.”
“ماذا؟! ما هو؟”
نظرت ديلّيا إلى سارا المندهشة بهدوء وأومأت برأسها. ثم نهضت من مقعدها، وحدّقت في الحديقة من النافذة وهمست بصوت خافت: “أريدكِ أن تقدّمي له زهرة كل صباح.”
“زهرة؟”
“نعم، وسيكون من الأفضل لو كانت زهور الليلك.”
لم يكن بإمكانها أن تبقى مستسلمة للأمر إلى الأبد.
أرادت ديليا أن تستغل هذه الفرصة لتردّ على كاليُوس بنفس الأسلوب، عبر تقديم نفس الزهور التي كان يهديها لها باستمرار.
أحيانًا، كما هو الحال الآن، يمكن لجهدٍ بسيط أن يؤتي ثماره العظيمة. نظرت ديليا إلى الزهرة الأرجوانية الموضوعة على مكتبها، لترتسم ابتسامة خفيفة على شفتيها.
❀ ❀ ❀
لم يمضِ وقتٌ طويل حتى رفعت ديلّيا جسدها المتعب من القراءة في المكتبة. وعندما وقع نظرها على عقارب الساعة التي تشير إلى الثانية عشرة، أطلقت تنهيدة طويلة.
عادةً ما كانت تفرح بقدوم وقت الغداء، لكن الأمر لم يكن كذلك بالنسبة لها الآن.
فمجرد التفكير في الرجل الذي ينتظرها في غرفة الطعام جعلها تشعر بعدم الارتياح.
كم كانت تتمنى لو أنهما يتناولان الطعام معًا كما يفعل الأزواج العاديون، لكن بدلاً من ذلك، كان كاليُوس يحدّق بها من البداية إلى النهاية وكأنه يريد أن يخترقها بنظراته، حتى أنها لم تعد تعلم ما إذا كانت تتناول الطعام بفمها أم بأنفها.
نظرت ديليا إلى جسدها النحيل المتزايد هزالًا وأطلقت تنهيدة أخرى.
“لكن، لا بد لي من تناول الطعام على أي حال.”
مهما كان الوضع صعبًا، لم يكن بإمكانها الصمود عبر تجويع نفسها. لذا، ورغم شعورها بالكآبة، بدأت في التحرك بخطوات بطيئة.
“كاليُوس… يا له من رجل مذهل بالفعل”
هل يرغب بشدة في الطلاق؟
تخيّلت ديليا عائلة هيلدبرانت من دونها.
عندما تصوّرت كاليوس يضحك وهو يتبادل النظرات مع امرأة جديدة، شعرت وكأن أشواكًا تنمو داخل فمها.
في الآونة الأخيرة، تكرر لديها هذا النوع من الأفكار.
كاليوس، بعد فقدانه للذاكرة، لم يعد بحاجة إليها مطلقًا.
ربما لم تعد سوى حجر عثرة أمام نمو عائلة هيلدبرانت.
ومع ذلك، لا تزال ترغب في البقاء بجانبه. سواء كان سعيدًا أم حزينًا، أرادت أن تكون إلى جانبه دائمًا. لكنها لم تكن متأكدة مما إذا كان سيسمح لها بذلك.
وقفت ديليا أمام غرفة الطعام، وأخذت نفسًا عميقًا. وبينما كانت تمسك بمقبض الباب مترددة، سمعت صوته من خلفه:
“ماذا تفعلين و أنتِ واقفة هناك؟”
… أجل، لا يمكنها الهروب إلى الأبد. حتى لو كان الوضع أمامها مؤلمًا، لا يمكنها الاستمرار في تجاهل الواقع.
صفعت وجنتيها برفق بكلتا يديها، ثم فتحت باب غرفة الطعام على مصراعيه. وما إن فعلت، حتى وقع بصرها على كاليوس، الذي كان يضع ساقًا فوق الأخرى ويقرأ الصحيفة بارتياح.
كان يبدو وسيمًا كعادته، لا يختلف عن السابق بشيء. كان هو الرجل الذي تحبه، ولكنه أيضًا الرجل الذي يجعلها تعاني الآن.
حاولت ديليا أن ترسم ابتسامة طبيعية وهي تقترب منه.
“هل قضيتَ يومًا جيدًا؟”
“…”
لم يرد كاليوس على سؤالها.
اكتفى بالتحديق بها بصمت.
رؤيته يتجاهلها بهذا الشكل جعلت شعورًا بالفراغ يتسلل إلى قلبها. لو كانت تعلم أن الأمر سيكون هكذا، لما نزلت إلى غرفة الطعام من الأساس.
الجلوس مع كاليوس، الذي بالكاد يعيرها اهتمامًا، جعل كل لحظة تمر وكأنها عذاب مستمر.
“الطقس اليوم رائع، لذا أنوي ريّ الحديقة لاحقًا. لقد قمتُ بتغيير التربة قبل بضعة أيام، ومن الممتع رؤية الأزهار تنمو يومًا بعد يوم.”
“…”
على الرغم من أنها كانت تتحدث إليه، شعرت وكأنها تجري حوارًا مع نفسها.
في النهاية، لم تستطع إلا أن تضحك بمرارة وهي تخفض رأسها مستسلمة.
بغضّ النظر عن مدى محاولتها، لم يكن هناك أي رد فعل من جانبه. وهذه الحقيقة كانت أكثر ما يؤلمها.
وسط هذا الصمت الطويل بينهما، لم تكن ديليا هي من تحدثت أولًا، بل كاليوس.