إذا كُنت ترغَب فِي أن تترُكَني - 17
“ما الذي أتى بكَ إلى هنا؟”
“وهل يُعدّ تجولي في منزلي مشكلة؟”
سلبها ردّ كاليـوس القدرة على النطق للحظة.
وبينما كانت ديليا تفتح فمها بلا جدوى، تجاوزها كاليـوس ودخل الغرفة، ثم جلس براحة على الأريكة في وسطها، متشابك الساقين.
بعدها ، حرّك إصبعه مشيرًا إليها.
“اقتربي إلى هنا”
كان صوته الآمر وطريقته التي بدت وكأنه صاحب الغرفة بالفعل أمرًا جعلها تشعر بالدوار. بقيت متصلبة للحظات، ثم حركت جسدها المتيبس وجلست أمامه.
وبينما كانت تفكر فيما إذا كان عليها تقديم الشاي أم لا، التفت كاليـوس نحو النافذة المغلقة، ثم سأل بصوت خافت مقارنة بما سبق: “لماذا فعلتِ ذلك قبل قليل؟”
“هاه؟ عما تتحدث؟”
“لقد كنتِ تنظرين إلي قبل قليل ، لماذا تنكرين الأمر؟”
وقف كاليـوس من مكانه، وتقدم إلى حيث كانت ديليا واقفة قبل لحظات. فتح النافذة المغلقة وألقى نظرة على الخارج، ثم ضحك بسخرية.
“لقد كنتِ تتجسسين علي من هذه المسافة؟”
أخفضت ديليا رأسها محاولة إخفاء احمرار وجنتيها.
عندها، ابتعد كاليـوس عن النافذة وتقدم نحوها، ثم مرّر أصابعه عبر خصلات شعرها الناعمة قبل أن يطلق ضحكة صامتة.
“على الأقل، شعركِ جميل.”
“آه…”
كانت عيناه أكثر قتامة من المعتاد. لم تعد تشبه الأمواج الهادئة، بل باتت كالبحر العاصف قبل هبوب العاصفة.
أمام هذه الأجواء المختلفة، شعرت ديليا بالارتباك. وفي أثناء ذلك، تحدث كاليـوس بنبرة غير مبالية، وكأن شيئًا لم يحدث.
“إذاً؟ كيف كان الأمر؟”
“ماذا تقصد؟”
“لقد قابلتِ الآنسة إيفلين شيلشستر للمرة الأولى، أليس كذلك؟”
بمجرد أن نطق كاليوس باسم إيفلين ، تصاعد شعور مزعج بسرعة من أطراف أصابع قدميها.
اجتاحها الغضب لرؤيته يذكر اسم إيفلين بهذه السهولة، لذا اعترضت ديليا بصوت أكثر انخفاضًا من المعتاد.
“هل تنوي حقًا الزواج من تلك المرأة؟”
“لقد جريتُ فقط على إيقاع والدتي، وليس لدي أي نية للزواج في الوقت الحالي.”
رغم أن كلماته حملت بعض الأمل ، فإن ديليا لم تقل شيئًا.
كانت تعلم أن الأمر مجرد مسألة “في الوقت الحالي”، لكن إلى متى سيستمر هذا الوقت؟ حتى توافق على الطلاق؟ وإن لم تفعل، فهل سيظل هذا الزواج معلقًا إلى أجل غير مسمى؟
كانت ديليا متشائمة.
قبل أن تحاول حتى اتخاذ أي خطوة، وجدت نفسها منجرفة وسط دوامة الأحداث. لم يكن لديها رفاهية الاطمئنان لمجرد وجود بصيص من الأمل بأن “ليس الآن ، إذن لا بأس”
“لن أوافق على الطلاق”
“دائمًا ترددين نفس الكلمات. هل تعتقدين أن لهذا أهمية كبرى؟”
“بالنسبة لي، نعم، إنه مهم للغاية. لقد قررت … أن أعيد إليك ذكرياتك المفقودة.”
“وكيف ستفعلين ذلك؟”
“هذا…”
لم يكن الأمر أن ديليا لم تفكر في ذلك من قبل. لكنها كانت دومًا متأخرة خطوة، فالأحداث تتسارع قبل أن تتمكن من التصرف.
“هل تعلمين؟ لقد مرّت أشهر منذ أن استيقظت، ومع ذلك لم أستعد أي ذكرى عنكِ ، ولا حتى واحدة”
صوت كاليوس كان أشبه بإقرار بأنه ربما لن يتذكرها أبدًا.
تلك الفكرة جعلت ديليا عاجزة عن الكلام، وكأن قلبها يتمزق إلى عشرات الأجزاء.
“ومع ذلك، لا تزالين غير راغبة في التنازل عن لقب دوقة؟”
“نعم. ليس لدي أي نية لفعل ذلك.”
كان صحيحًا أن ديليا اعتقدت أن إيفلين جميلة، لكنها…
كان من المؤكد أنَّها تستطيع أن تقدِّم لكاليوس مساعدةً أكثر، وربَّما تمتلك سحرًا لا تملكه دِيليا.
لكن ذلك كان كلَّ شيء. فالمكان بجانب كاليوس كان لها، إذ كان هو بنفسه من منحه لها قبل أن يفقد ذاكرته.
ما دامت هناك أدنى فرصةٍ لعودة الذكريات، فلا يمكنها التخلِّي عن هذا المكان.
“لن أسمح أبدًا بأن يتمَّ انتزاعك مني”
عرفت دِيليا منذ اللحظة الأولى. لم تكن إيفلين تحبُّ كاليوس، بل كانت تقترب منه فقط من أجل مكانته العائلية.
نظرت دِيليا إلى القصر المليء بذكريات كَاليوس معها بعينين تملؤهما الحنين. وعندما بدا على وجه كَاليوس تعبيرٌ غريب أثناء رؤيته لملامحها، قطع تأمُّله وحوَّل نظره بعيدًا قائلًا:
“ما الذي يجعلكِ تحبِّينني؟”
“هل يحتاج المرء إلى سببٍ ليحبَّ شخصًا ما؟”
نظرت دِيليا إلى كَاليوس بعينين حازمتين.
كان هو كَاليوس، لكنه لم يكن كَاليوس الذي أحبَّته، ولم يكن كَاليوس الذي أحبَّها. ومع ذلك، كان لا يزال زوجها.
“إذًا، أثبتي لي ذلك بنفسكِ… أثبتي أنَّكِ تحبِّينني بصدق.”
تردَّدت دِيليا قليلًا ، ثم وضعت يدها على الخاتم الذي كانت ترتديه دائمًا في يدها اليسرى. وبعد لحظةِ حزم، نزعته ببطء. كانت أصابعها نحيلةً و كأنَّها لم تخلع هذا الخاتم من قبل.
“هذا خاتم زواجنا”
عادةً ما يمتلك النبلاء خاتم خطوبةٍ وخاتم زواج. لكن نظرًا لأنَّ عائلتها أجبرتها على الاستعجال في الزواج، لم يكن لديها الوقت لإقامة حفل خطوبة. لهذا، كان كلُّ ما تبقَّى لها هو خاتم الزواج فقط.
لذلك، عندما قدَّمت دِيليا خاتم الزواج لكَاليوس، كان الأمر أشبه بمنحه كلَّ ما لديها. بالنسبة لها، كان كَاليوس شخصًا لا يُقدَّر بثمن.
لكن كَاليوس، الذي لم يكن يعلم مدى أهمية هذا الأمر، ألقى نظرةً سريعة على الخاتم وسخر قائلًا: “خاتم زواج؟ وما شأنه؟”
“أريد أن أُسلِّمك إيَّاه”
اهتزَّت يدها التي كانت تقدِّم بها الخاتم.
ثم نظرت دِيليا إلى إصبعها البنصر الذي خلَّف فيه الخاتم أثرًا واضحًا، وارتسمت على ملامحها تعابير حزينة.
“إذا تمكنتُ من إعادة ذاكرتك ، فحينها أرجوك أن تعيد إليّ خاتم الزواج.”
“وإن لم أتمكن من استعادتها؟”
“…حينها، قم بالتخلص منه.”
كان التخلص من الخاتم يعني الموافقة على الطلاق، ولهذا نظر كاليـوس إلى ديليا بملامح تنم عن المفاجأة.
“لستُ واثقة من أنني سأتمكن من استعادة ذاكرتك، ولكنني شعرتُ بأنني بحاجة إلى المجازفة بهذا القدر حتى تلفت انتباهي.”
إذا كان ذلك سيُبقيها كزوجته ، فليس لديها أي مانع في التخلي عن الخاتم.
تأملت ديليا الألماسة المتألقة على الخاتم وابتسمت بمرارة، ثم، وكأنها اتخذت قرارها، تراجعت خطوة إلى الوراء دون أي تردد.
“لذا، أرجوك، ثق بي.”
كانت مخلصة تمامًا.
لم يكن احتمال الانفصال عن كاليـوس خيارًا واردًا على الإطلاق. كان هناك أشياء كثيرة لا تزال تدين له بها.
حب شخص بلا قيد أو شرط…
لقد كان كاليـوس هو من علمها ذلك، والآن حان دورها لترد له هذا الدين.
راقبت ديليا ظهره وهو يبتعد، وعقدت العزم على الفوز في هذه المعركة ضد إيفلين، وعلى استعادة خاتم الزواج بكل فخر، بل وإثبات حبها لكاليـوس.
✽ ✽ ✽
بعد أن انتهى من حديثه مع ديليا وعاد إلى مكتبه، جلس كاليـوس متجهمًا، غارقًا في التفكير.
كان يعلم أنها تحبه بصدق، لكنه لم يكن يتخيل أنها ستسلمه خاتم الزواج بهذه السهولة.
‘سأعيد لك ذاكرتك مهما كلف الأمر، وحتى ذلك الحين، سأترك لك هذا الخاتم’
لم يستطع منع نفسه من السخرية من هذا الطموح الساذج لديليا.
لقد مر أكثر من شهر منذ أن فقد ذاكرته، ومع ذلك، لم يستعد أي شيء يتعلق بها على الإطلاق.
بالنظر إلى ذلك، بدا من المستحيل أن يتمكن من تذكرها.
ورغم ذلك، استمرارها في إنكار الواقع جعله يشعر بمشاعر متشابكة.
لو كان منطقيًا، لكان قد مضى قدمًا في حياته وبدأ فصلًا جديدًا بعد طلاقه منها. لكن ، رؤية ديليا وهي تهز كيانه مرارًا وتكرارًا جعله يشعر باضطراب لم يكن معتادًا عليه.
كان الأمر مثيرًا للسخرية؛ كلما اقترب منها، كلما وجد نفسه يريد مراقبتها أكثر.
“…ثم إن القُبلة لم تكن سيئة”
في الآونة الأخيرة، كان يعاني من صداع مزعج، لكن كلما تذكر لحظة تقابل شفتيه مع شفتيها، كان الألم الذي يطغى على رأسه يتلاشى.
وما كان يتبقى هو ذلك الشعور الغريب الذي يتسلل من أطراف قدميه، كما لو كان يحاول إثارة شيء ما بداخله.
كلما تواصل جسديًا معها، كان يتساءل … هل من الممكن أن يكون الأمر على ما يرام كما هو؟
تقطّبت ملامحه تلقائيًا بسبب هذا التفكير المزعج.
كانت تبدو بريئة من الخارج، لكنها في الحقيقة كانت ماكرة تمامًا، وهذا ما كان يستفزه.
بالطبع، أكثر ما كان يثير غضبه هو استسلامه التام أمام أفعالها المغرية.
وفي خضم أفكاره حول ديليا، سمع صوت جيفري، الذي كان ينظم الأوراق في أحد أركان المكتب، يقترب منه بحذر.
“جلالتك، هل لديك لحظة؟”
“هل لديك ما تقوله لي؟”
أومأ جيفري برأسه، ثم أخرج ملفًا كان قد وضعه تحت ذراعه، وناول كاليـوس ورقة واحدة منه.
تناولها كاليـوس بملامح غير مبالية، لكن بعد لحظات، انفرجت شفتاه بسخرية، ثم أطلق ضحكة قصيرة وكأن ما رآه لم يكن سوى نكتة سخيفة.
“هاه، هذا…”