إذا كُنت ترغَب فِي أن تترُكَني - 16
لم يكن الأمر كذلك، بل بدا كما لو أن ذلك المشهد يشبهه قبل أن يفقد ذاكرته، فظننت أنني رأيت خطأً. و لكن عندما نظرتُ مجددًا إلى وجه كاليوس ، لم يكن يظهر عليه سوى اللامبالاة.
نظرت ديليا إلى كاليوس بشرود، ثم سرعان ما ارتسمت على وجهها ملامح الحزن.
‘لماذا يفعل هذا فجأة؟’
“آه… أنا آسفة، لا شيء على الإطلاق.”
رغم أن كاليوس الحالي قد فقد منذ زمن طويل ذلك الوجه الذي اعتادت عليه، إلا أنها وجدت نفسها ما زالت تنجرف نحو لطفه الخافت.
كانت تعلم أنه وافق على دخول إيفلين إلى هذا المكان، ولهذا تمكنت الأخيرة من البقاء هنا.
وفي وسط هذا الصمت الثقيل الذي خيّم بين ديليا و كاليوس، قُطع الجو بصوت ضحكة لم تكن سوى ضحكة إيفلين.
“يبدو أن السيدة تحب الدوق حقًا”
كان صوتها هادئًا بشكل غريب ، لا يتناسب مع امرأة تحاول أن تحلّ محل دوقة قائمة بالفعل.
تحدّثت بنبرة غامضة أربكت ديليا ، وعندما نظرت إليها بدهشة، لمعت عينا إيفلين فجأة وكأنها فكّرت في أمر مثير.
ثم مررت أصابعها بين خصلات شعرها المتموج وقالت بصوت مليء بالتحدي: “سيدتي، ما رأيكِ في أن نقوم برهان؟”
“رهان؟!”
ابتسمت إيفلين ابتسامة مشرقة و أمسكت بيد ديليا فجأة.
تفاجأت ديليا من الموقف المفاجئ، فما كان من إيفلين إلا أن رسمت ابتسامة ماكرة و أعلنت قائلة: “لديكِ ثلاثة أشهر. إن تمكنتِ من كسب قلب صاحب السمو خلال هذه الفترة ، فسأنسحب تمامًا”
صدمت كلماتها إيزابيلا، التي نظرت إليها بذهول غير مصدّقة، ثم أمسكت بكتفيها بسرعة وهزّت رأسها بجزع.
“يا فتاة، ما الذي تقولينه؟!”
لكن إيفلين طمأنتها وهي تربت على ظهرها بلطف، قبل أن تنظر إلى ديليا بابتسامة واثقة وتقول: “الدوقة جميلة للغاية، لكن عدا ذلك، ليس لديها أي شيء آخر.”
“هاه؟! هل وصلت بكِ الجرأة إلى حد احتقاري؟!”
كان من الممكن أن تتقبل إهانتها، لكنها شعرت بالقهر الشديد حين رأت أن حتى كاليوس، وسط كل هذا المشهد العبثي، لم يقل كلمة واحدة.
كما قالوا، لم يكن هناك شيء يمكن أن تقدمه دِيليا لكاليوس. لكن هذا لا يعني أن من تسببوا في هذا الوضع لم يكونوا ظالمين، أو أن دِيليا كان عليها ببساطة أن تتخلى عن مكانها لهم.
حدَّقت دِيليا في كاليوس الذي كان يراقب الوضع بصمت، ثم أومأت ببطء باتجاه إيفلين.
ما يمكن أن تفعله دِيليا الآن هو الإيمان بعودة ذاكرة كاليوس وبذل الجهد من أجل ذلك. إن استعاد ذاكرته وقال إنه لا يرى فيها أي فائدة، عندها فقط قد تفكر في التراجع، لكن ليس قبل ذلك أبدًا.
بعدما دخلت دِيليا غرفتها أولاً، قام كاليوس بتوديع إيزابيلا و إيفلين.
عندما كان كاليوس يراقب عربة إيزابيلا وهي تبتعد، اقتربت منه إيفلين بصوت مازح.
“كنت أنوي فقط إلقاء التحية اليوم ، لكن لم أكن أتوقع أن أجد نفسي في موقف ممتع هكذا”
اقتربت إيفلين ببطء من كاليوس، ثم سألته بلطف وهي ترتسم على وجهها ابتسامة هادئة.
“هل يحب الدوق زوجته بصدق؟”
“ما الهدف من سؤالكِ؟”
“آه، آسفة، لقد بدوتَ وكأنك تهتم بها كثيرًا قبل قليل.”
وكأن كلماتها كانت مثيرة للسخرية، انفجر كاليوس في ضحكة خفيفة ساخرة.
مدّ يده إلى جيب بنطاله، وأخرج سيجارًا أمسكه بين أصابعه، ثم قطع طرفه بخفة، وأشعل النار فيه بسرعة، ليأخذ نفسًا عميقًا من الدخان الكثيف.
راح كاليوس يحدق في الدخان المتراقص في الهواء بعينين ضيقتين، وأمسك السيجار في يده، ليبعث بجو صارم يغلفه هالة من الزهد والانضباط.
“لا تبالغي في أوهامك.”
“……”
“لن أحب زوجتي أبدًا. لكن، عليكِ أن تعلمي أن امتناعي عن التصرف بوقاحة تجاه الآنسة شيلتشستر هو فقط من أجل الحفاظ على مكانة والدتي.”
حدّق كاليوس إلى إيفلين بوجهٍ بارد. كانت تصرفاتها توحي وكأن مجرد امتثاله لكلمات إيزابيلا عدة مرات يعني أنه قد وقع في قبضتها، وهذا الأمر أزعجه.
نظر إلى إيفلين، التي بدت وكأنها بدأت تتعرق من التوتر، ثم حذّرها بصوتٍ صارم:
“لقد التقيتُ بكِ بدافع المجاملة فقط. لا تعتقدي أبدًا أنني سأحبك، لذا لا تُفرطي في الثقة بنفسك”
“جلالتك، ماذا تعني بهذا…؟!”
بدت إيفلين مرتبكة بسبب التغيّر المفاجئ في تصرف كاليوس.
كانت على وشك الرد عليه، لكنها صمتت فور أن التقت عيناها بعينيه الباردتين كالصقيع.
بدا أن الإصرار على الجدال في هذا الموقف لن يجلب لها سوى الخسارة، لذا صعدت إلى العربة ووجهها محمرّ من الإحراج.
***
عادت ديليا إلى غرفتها وألقت بجسدها على السرير على الفور.
كانت تتظاهر بأنها بخير، لكنها في الحقيقة كانت متوترة للغاية لدرجة أن كل عضلة في جسدها كانت تصرخ من الإرهاق.
عانقت وسادتها وبدأت تتقلب في السرير يمينًا ويسارًا، ثم حدّقت إلى السقف مستعيدةً أحداث اللحظات السابقة.
“إيفلين شيلتشستر…”
لم تكن ديليا مهتمة بعالم المجتمع المخملي، لذا كانت هذه أول مرة تلتقي بها.
بشرة بيضاء ناصعة، شعر أحمر لامع، وقوام فاتن… كانت نقيضًا تامًا لها.
لم يكن الأمر أنها تحسدها أو تغار منها.
لكن، بالنظر إلى أن كاليوس لا يكنّ لها أي مشاعر، كانت تشعر بالقلق من أن ينجذب إلى سحر امرأة لم يلتقِ بمثلها من قبل.
لم يكن يبدو عليه أنه يحبها كثيرًا، لكنها كانت واثقةً بنفسها للغاية… و كاليوس أيضًا لم يرفض لقاءه بها تمامًا.
إلى أي مدى سيجعلني أعيش في قلق؟ شعرت ديليا بالاختناق وهي تعضُّ شفتيها بقوة.
كانت المرارة تملأ طرف لسانها، لكن هذا لم يكن مهمًا. استذكرت ديليا ملامح كاليوس قبل لحظات، وارتسم على وجهها تعبيرٌ كئيب.
بينما كانت تتنهَّد في ضيق، دوَّت أصوات خطواتٍ متعدِّدة وضجيجٌ صاخب من النافذة المفتوحة.
رفعت ديليا جسدها عن السرير ببطء.
ثم بدأت تسير ببطءٍ، وعيناها فارغتان تمامًا.
“ما الذي يبعث على هذا القدر من السعادة؟”
كان قلبها يزداد كآبةً ، بينما أصوات الضحك المبتهج تثير عبوسها أكثر فأكثر.
مدَّت يدها نحو النافذة لإغلاقها، غير أنها شهقت حينما أبصرت مشهدًا غير متوقَّعٍ أمامها.
“…كاليوس؟”
عبر النافذة، رأت إيزابيلا وإيفلين، وزوجها كاليوس يقف برفقتهما.
إيزابيلا كانت تمسك بيد إيفلين وتبتسم بسعادة، بهالةٍ طفولية لا تليق بعمرها، لكنها بلا شك تناسب لقبها كملكة المجتمع الراقي.
بعد حديثٍ طويلٍ مفعمٍ بالبهجة بينهما، صعدت إيزابيلا أخيرًا إلى العربة. وظلَّت إيفلين تتابع العربة بنظراتها بينما تبتعد، واقفةً في مكانها لوقتٍ طويل.
…والآن، لم يتبقَّ سوى إيفلين وكاليوس، وحدهما فقط.
في مواجهة هذا الموقف غير المتوقع، هرعت ديليا إلى النزول نحو الطابق الأول، لكنها توقَّفت فجأة، وعلامات التردُّد تعلو وجهها.
“…ولكن، حتى لو رأيتُ ذلك، هل سيتغيَّر أي شيء؟”
إذا كانا واقعين في الحب حقًّا، فحتى لو تدخَّلت، لن يكون لذلك أي فائدة.
تخيَّلت للحظةٍ كيف سيمسك أحدهما بيد الآخر، يهمسان بعبارات الحب، فشعرتُ بضبابيةٍ تعتري عيني ، وصعوبةٍ في التقاط أنفاسي.
استندت ديليا إلى النافذة، وأخذت تتنفس باضطراب.
“هذا بالذات… لا يمكنني تحمُّله أبدًا…”
لم تستطع حتى تخيُّل فكرة وقوع كاليوس في حب امرأةٍ أخرى.
رغم دوارها، أجبرت نفسها على التحديق نحو الخارج. وهناك، رأت كاليوس يبتسم بلطفٍ وهو ينظر إلى إيفلين.
بدا عليه الاسترخاء التام وهو يحرِّك شفتيه، عندها غطَّت إيفلين فمها بابتسامةٍ خجولة، وعيناها تتألَّقان بوميضٍ ناعم.
ظلَّ الاثنان يتبادلان الحديث لفترةٍ طويلة، وحين اقتربت العربة، ودَّعا بعضهما وكأنهما يشعران بالحسرة.
وقف كاليوس يشاهد العربة التي تقلُّ إيفلين حتى تلاشت عن الأنظار، ثم استدار ببطء، وألقى بنظره نحو غرفة ديليا مباشرةً.
“…!”
هل التقت أعينهما حقًّا؟
لكن المسافة بينهما كانت بعيدة جدًا لهذا.
تراجعت ديليا بسرعة عن النافذة، محاوِلةً تهدئة دقَّات قلبها المتسارعة.
انتظرت طويلًا قبل أن تنظر مجددًا، فلم تجد سوى الهدوء التام في الخارج، وكأن شيئًا لم يكن منذ البداية.
بينما كانت لا تزال غارقةً في ذهولها، دوَّت خطواتٌ ثقيلة خلف الباب، تلاها صوت طرقاتٍ قوية.
اتَّسعت عينا ديليا في دهشة، واستدارت بسرعة.
ثم ابتلعت ريقها بصعوبةٍ، واقتربت بحذرٍ من الباب.
“مـ… من هناك…؟”
هل يمكن أن يكون كاليوس؟
شعرت دِليا بالتوتُّر، فشبكت يديها بإحكام. وعندها، دوَّى زفيرٌ مألوفٌ من خلف الباب، مصحوبًا بصوتٍ يبدو عليه الضيق.
“افتحي الباب في الحال.”
توسَّعت عينا ديليا في صدمة.
المسافة بين غرفتها والمكان الذي كان فيه كاليوس كانت بعيدة جدًا، لذا اعتقدت أنها ربما توهَّمت نظراته نحوها ، لكنها لم تتخيَّل أبدًا أنه سيأتي بنفسه.
هل اكتشف أنها كانت تراقبه؟ هل جاء ليوبِّخها على ذلك؟
…نعم ، هذا منطقي. لماذا قد يأتي لرؤيتها غير ذلك؟
بمجرَّد أن فكَّرت في الأمر، خمدت نبضات قلبها المضطربة في لحظة.
لم يكن هناك شيءٌ يستحق التوقُّع من الأساس. شعرت ديليا وكأنها كانت ساذجة وهي تفكِّر عكس ذلك. رسمت على وجهها ابتسامةً مريرة، ثم فتحت الباب على مصراعيه.
و عندها، وقعت عيناها مباشرةً على كاليوس ، الذي كان يحدِّق بها من الأعلى بجسده الطويل المهيب.