إذا كُنت ترغَب فِي أن تترُكَني - 15
تقدَّمت إيزابيلا إلى الأمام وهي تُخرِج زفيرًا ساخرًا، وكأنها تجد الأمر مثيرًا للسخرية.
“هَه، لا تجيدين سوى الكلام المنمَّق”
ثم تعمدت الوقوف بين ديليا وكاليـوس، متشابكة الذراعين، فيما كانت تحدّق في ديليا بنظرة حاقدة مليئة بالاحتقار.
“يا لكِ من فتاة وقحة! عندما يقدّم الرجل أوراق الطلاق، أليس من الطبيعي أن توقّعي عليها بهدوء؟”
“أعتذر، ولكن لا يمكنني الموافقة على ذلك.”
“ألم تفهمي بعد؟ هل تعتقدين أن بإمكانكِ دعم كاليـوس كزوجة صالحة؟ أو حتى أن تكوني ذات فائدة للعائلة؟ أنتِ مجرد فأرة قذرة لا تفعلين شيئًا سوى إلحاق الضرر بنا!”
كانت كلمات إيزابيلا الفجَّة صادمة للغاية، مما جعل ديليا غير قادرة على إخفاء ارتجافها. ثم استغلت إيزابيلا ارتباكها، وأخذت توخز كتفيها بإصبعها، مستمرة في إلقاء الإهانات.
“قبل لحظات فقط كنتِ متعجرفة، فلماذا تبدين الآن بهذا الضعف؟”
رسمت إيزابيلا ابتسامة المنتصر، وكأنها وجدت متعة خالصة في رؤية ديليا شاحبة الوجه و مهزومة. لم تكن تهتم إطلاقًا بمشاعرها، سواء تأذت أو لا.
وفي اللحظة التي كانت فيها ديليا تحاول قمع مشاعر الإذلال المؤلمة، سُمِع صوت أنثوي ناعم لأول مرة، قادم من خلف كتف إيزابيلا.
“مرحبًا، إنه لمن دواعي سروري أن ألتقي بكِ لأول مرة.”
كان الصوت نقيًا، كأنه خرز من اليشم يتدحرج على أرضية من الحرير.
رفعت ديليا رأسها، وكأنها منومة مغناطيسيًا، تتبع مصدر الصوت.
شعرها الأحمر المتوهج كان نقيضًا تامًا لشعر ديليا.
أما عيناها الخضراء، فقد كانت تشبه أوراق الأشجار في غابة مورقة. مع حركاتها الواثقة وهالتها الأرستقراطية، كان من الواضح أنها ابنة إحدى العائلات النبيلة.
سارت المرأة متجاوزة إيزابيلا ، متجهة مباشرة نحو ديليا.
أمسكت بطرف فستانها، وانحنت برشاقة.
“أنتِ دوقة هيلدبرانت، أليس كذلك؟”
لم تكن ديليا تتوقع ظهور شخص غريب في هذه اللحظة. و بطبيعتها الخجولة، لم تستطع إخفاء ارتباكها، فوضعَت يدها على صدرها، وردّت التحية بعد صمت طويل.
“أنا ديليا هيلدبرانت، زوجة كاليـوس. وأنتِ…؟”
“أنا إيفلين سيلشيستر.”
قاطعت إيفلين حديث ديليا وأكملت كلامها، مما جعل ديليا تشعر بعدم الارتياح بسبب هذا التصرف غير اللائق.
“أنا الابنة الكبرى لأسرة كونت سيلشيستر. سنلتقي كثيرًا من الآن فصاعدًا، لذا يمكنكِ مناداتي ببساطة إيفلين.”
سنلتقي كثيرًا؟ ما الذي تعنيه بذلك؟
قبل أن تتمكن ديليا من الرد، اقتربت إيفلين منها أكثر، ثم أخذت تتأمل وجهها ببطء.
نظرت ديليا إلى إيفلين التي استمرت في تجاوز حدود اللياقة، وانقبضت ملامحها من الضيق في النهاية.
“ماذا تفعلين الآن؟”
تراجعت ديليا خطوة إلى الخلف وهي تشعر بالانزعاج، عندها ابتسمت إيفلين بهدوء وقدّمت اعتذارها بسلاسة.
“أعتذر إن أزعجتكِ. كنت أرغب في رؤية وجهكِ عن قرب، فهو غاية في الجمال. شعرُكِ الفضي ليس لونًا شائعًا يمكن رؤيته بسهولة، أليس كذلك؟”
“… و هل شعرتِ بالرضا الآن؟”
أومأت إيفلين برأسها، وعيناها تتخذان شكل الهلال، ثم جمعت يديها معًا وقالت بصوت سعيد: “إنه بالفعل ساحر. لا عجب أن من يراكِ يُسحَر بكِ. فالناس عادةً يفتتنون بما هو نادر وصعب المنال.”
“… ماذا قلتِ للتو؟”
قد يظن الآخرون أنها كانت تمدحها، لكن ديليا أدركت على الفور أن إيفلين شخص لا يخفي أفكاره الحقيقية.
“أقصد بذلك أنكِ شديدة الجمال، يا دوقة”
أطلقت ديليا ضحكة ساخرة.
لم تستطع تصديق كلمات إيفلين وهي تنظر إليها بعينين فارغتين. كانت ديليا تمسك بشفتيها بأسنانها بقوة، محاولةً الابتعاد عنها قدر الإمكان.
“يبدو أنني قد أزعجتكِ. سأكون أكثر حذرًا في المستقبل.”
أن أضطر لرؤية هذه المرأة المخادعة مرة أخرى؟ بدأت ديليا تشعر بالغثيان والدوار. وضعت يدها على معدتها المتألمة، ثم تحدثت بصوت ضعيف: “فهمتُ، إذن سأذهب الآن.”
كانت قد قضت يومًا طويلًا في التجول داخل القصر، مما جعل جسدها يشعر بالإرهاق. ولم تكن لديها الطاقة الكافية لمجاراة إيفلين، لذا قررت الانسحاب مؤقتًا.
بمجرد أن أنهت ديليا التحية الشكلية واستدارت لتغادر، انفجرت إيفلين فجأة في ضحكة خفيفة و قالت بصوت مفعم بالبهجة: “نحن سنرى بعضنا البعض كثيرًا من الآن فصاعدًا. كنتُ فقط أحاول التقرب منكِ سريعًا ، لذا لا تكرهيني كثيرًا، من فضلكِ”
ردت داليا بارتباك:
“ماذا تقصدين؟ لماذا علينا أن نلتقي كثيرًا؟”
“ألم تخبروها بعد؟”
بخطوات خفيفة، اقتربت إيفلين من كالياس، ثم وضعت يدها على كتفه و همست بصوت مغرٍ: “ذلك لأنني سأكون زوجة الدوق”
لم تستطع ديليا النطق من هول الصدمة.
لم تكتفِ إيفلين بلمس جسد كاليوس بحرية فحسب، بل أعلنت بكل جرأة أنها ستكون زوجته! بدا الأمر وكأنها فقدت عقلها تمامًا.
تقدمت ديليا بخطوات غاضبة و أبعدت يد إيفلين بقوة عن كتف كاليوس، ثم حذرتها بحدة: “ابتعدي عن زوجي.”
لكن إيفلين ابتسمت بمكر وقالت بسلاسة:
“ألم أخبركِ بالفعل؟ أنا سأصبح زوجته قريبًا.”
“ما هذا الهراء الذي تهذين به…!”
تنهّدت إيفلين ببطء ثم التفتت إلى إيزابيلا بنظرة متعبة، قائلة بنبرة مُشفِقة: “يا لكِ من امرأة صبورة، لقد عانيتِ كثيرًا، أليس كذلك؟ لابد أن الأمر شاق للغاية أن يكون لديكِ كنة كهذه…”
أومأت إيزابيلا برأسها موافقة، وقالت متنهّدة: “بالضبط، كنتُ أعلم أنكِ ستفهمينني. هذه الفتاة لا تستطيع استيعاب الأمور كما يجب.”
ثم أخرجت منديلًا من جيبها وبدأت تمسح دموعًا لم تنهمر أصلًا، متصنعة مظهر البطلة المظلومة، الأمر الذي جعل ديليا تعقد حاجبيها بانزعاج.
كانت تعلم جيدًا أنها ليست الزوجة المثالية، لكنها في المقابل، لم تستطع أبدًا اعتبار إيزابيلا حماتها المثالية أيضًا. كيف يمكنها احترام شخص لا يرى إلا العيوب ويتجاهل تمامًا أي مزايا؟
أخيرًا، لم تعد ديليا قادرة على تحمل الأمر أكثر، فقالت بصوت غاضب ومقهور: “كفى مراوغة! فلتشرحا لي ما الذي تتحدثان عنه بالضبط؟”
نظرت إليها إيفلين بنظرة خفيفة الاعتذار، ثم قالت بابتسامة زائفة: “يا إلهي، أعتذر إن كنتُ قد أغضبتُكِ، لم يكن ذلك نيّتي.”
لكن إيزابيلا قاطعتها ببرود:
“لا تعتذري، لا داعي لأن تشعري بالخضوع أمامها.”
في تلك اللحظة، تصلّب جسد ديليا بالكامل.
رؤية تلك النظرة المليئة بالود والاهتمام التي لم تحظَ بها أبدًا، جعلتها تدرك أن كل محاولاتها لكسب ود إيزابيلا كانت مجرد مضيعة للوقت.
“سيدتي ، أرجوكِ قدّمي لي شرحًا.”
“حسنًا، ستعرفين قريبًا، لذا سأشرح لكِ بنفسي”
تقدّمت إيزابيلا ممسكةً بيد إيفلين واقتربت من ديليا.
وبينما كانت تمرّر أصابعها بلطف عبر خصلات شعر إيفلين المتموّجة، شرحت قائلة: “كاليوس سينفصل عنكِ وسيتزوج الآنسة شيلشيستر التي ترينها هنا.”
“سيدتي!”
كان صوتها يوحي وكأنها قد حصلت بالفعل على موافقة كاليوس، بل وكأن الأمور قد تم الترتيب لها مسبقًا.
يبدو أن كلمات جيريمي كانت صحيحة، فقد كان منصب دوقة هيلدبرانت مهددًا إلى هذا الحد.
“إذًا … الشخص الذي أحضرتموه ليحلّ مكاني هو هذه السيدة”
ارتسمت على شفتي إيزابيلا الحمراء ابتسامة ماكرة، أشبه بابتسامة ساحرة شريرة من إحدى القصص الخيالية.
كانت أكثر لؤمًا من المعتاد، مما جعل العرق البارد يتصبّب من ديليا. شعرت وكأنها وقعت في فخ عميق.
“نعم، لقد التقى بالكثير من النساء، ولكن إيفلين كانت مختلفة. على عكس الأخريات، ابتسمت بثقة وقالت لي: ‘أنا وحدي من يمكنه أن يجعل كاليوس أسعد رجل في العالم.'”
لم تصدّق أذناها ما سمعته.
“سأجعل كاليوس أسعد رجل في العالم.”
كانت هذه الجملة جزءًا من نذورها التي قالتها لكاليوس يوم زفافهما. شعرت بأن إيفلين تسخر منها عمدًا. ومع فقدان كاليوس لذاكرته، أصبح من السهل على هاتين المرأتين دفعها نحو الهاوية.
كل ما فعلته ديليا هو أنها أحبّت كاليوس بصدق.
لكنها لم تستطع منع شعور الغضب من التغلغل في قلبها وهي ترى الجميع يحاولون إبعادها عنه. وضعت يدها على جبينها الذي بدأ يسخن، وابتسمت بسخرية.
“إذن، الآنسة شيلشيستر قالت ذلك؟”
“دوقة هيلدبرانت، أخبرتكِ أن تناديني إيفلين بكل بساطة.”
لم تكن ديليا في مزاج يسمح لها بالمزاح. رؤية إيفلين تبتسم أمامها بكل ارتياح أشعلت النار في قلبها. شعرت وكأنها على وشك الصراخ، فعضّت شفتيها بقوة حتى كادت تؤلمها.
عندها، تقدم كاليوس بخطوات واسعة نحوها، وأمسك بذقنها ليتفحّص شفتيها قبل أن يعبس.
“أنتِ تؤذين شفتيكِ كثيرًا”
“…ماذا؟”
فتحت ديليا فمها بذهول، لكن فجأة، ضغط كاليوس بإبهامه بقوة على شفتها السفلى.
“آه…! هذا مؤلم!”
“بالطبع يؤلم، لأن شفتيكِ متشققتان.”
كان يضغط بإبهامه على موضع الجرح، بينما يتأمل شفتها السفلى المنتفخة من أثر العضة.
“هل كنتِ تعلمين أنكِ تعضين شفتيكِ عندما تغضبين؟”
“أنا؟ أفعل ذلك؟”
“لا تعلمين حتى هذا عن نفسك؟ يبدو أنكِ لا تهتمين بنفسكِ أبدًا.”
لكن ما أثار استغراب داليا أكثر من كلماته هو الابتسامة الخفيفة التي ظهرت على وجهه.