إذا كُنت ترغَب فِي أن تترُكَني - 13
– داخل القصر الكبير في العاصمة.
كانت إيزابيلا أكثر جدية من أي وقت مضى، وهي تمسك بأوراقٍ تحمل أسماء العديد من النساء.
“إنهنّ جميعًا غير مؤهلات.”
أخذت تتصفح أسماء العائلات المكتوبة على الأوراق، وملامح الاشمئزاز ترتسم على وجهها.
لم يكن اهتمام إيزابيلا موجهًا إلى وجوه النساء، بل إلى مكانة عائلاتهنّ. فالملامح غير الجذابة يمكن إخفاؤها بفنون التجميل، لكن أصل العائلة لا يمكن تغييره بأي وسيلة.
وفي النهاية، زفرت أنفاسها بعمق، ثم وضعت الأوراق جانبًا. بعدها التقطت ورقة واحدة من وسط الطاولة بحذر شديد.
“كما توقعت، هذه الشابة هي الأفضل.”
شعرٌ أحمر مموج، وعينان خضراء كالغابة الصيفية الكثيفة، واحمرارٌ خفيف يزين وجهها، مما جعلها تبدو فاتنة في نظر أي شخص.
إضافة إلى ذلك، فهي ابنة عائلة شيلتشستر، التي أصبحت محط اهتمام الجميع بفضل نجاحاتها التجارية المتواصلة.
لو تزوجت من كاليوس ، فلا شك أن ذلك سيعزز مكانة عائلة هيلدبرانت أكثر.
“في النهاية، لم أكن مخطئة”
منذ أن تزوجت في عائلة الدوق، كرست كل جهودها من أجل رفعتها. ومع ذلك، كان الناس يسخرون منها، ويدّعون أن طموحها لا حدود له. لكنها الآن، بعد هذا الإنجاز، قد تحصل أخيرًا على الاحترام الذي تستحقه.
ارتسمت ابتسامة على شفتيها و هي تتخيل ذلك، ثم أخذت تملس ببطء على الورقة التي تحمل صورة الشابة.
“إنها مختلفة تمامًا عن ديليا …”
من الناحية الموضوعية، كانت عائلة بليك إحدى العائلات العريقة ذات التاريخ الطويل. لكن المشكلة أنها كانت تقود الفصيل الأرستقراطي، بينما كانت عائلة هيلدبرانت مخلصة للإمبراطور منذ القدم.
في ظل هذا العداء المستحكم، لم يكن من المقبول أبدًا أن تحدث زيجة بين العائلتين.
عضّت إيزابيلا على شفتيها وهي تستذكر كيف ألقى كاليوس بنفسه في النار من أجل حماية ديليا.
“يا لولدي المسكين…”
كيف انتهى به المطاف ليحب امرأة مثل ديليا ، ويتحمل هذا العذاب؟ لقد شعرت كأم أن قلبها يتمزق.
أخرجت منديلًا من جيبها ومسحت دموعها، ثم زمّت شفتيها وهي تتذكر كيف كانت ديليا ترفض الطلاق بعناد.
“تلك المرأة الماكرة…”
كاليوس، رغم أنه بالكاد تعافى من مرضه، عاد إلى أداء مهامه فورًا، بينما هي تتشبث بالبقاء، وترفض الطلاق فقط لأنها لا تريد العودة إلى منزل أسرتها.
كانت إيزابيلا غاضبة للغاية.
“يجب التخلص منها في أسرع وقت ممكن.”
إن بقيت الأمور على هذا الحال، فقد يواجه كاليوس أمرًا أسوأ من الهجوم الذي تعرض له سابقًا.
وكأم، لن تسمح بذلك أبدًا.
لذا، اتخذت قرارها بعزمٍ لا يتزعزع.
وفي تلك اللحظة، دوى صوت خطوات كعبٍ عالٍ خلف الباب، تبعها طرقٌ خفيف.
اتسعت عينا إيزابيلا، وهبت واقفة بسرعة.
ثم قامت بتعديل هندامها، قبل أن تقول بصوتٍ هادئ وأنيق، يختلف تمامًا عن نبرتها قبل قليل: “ادخلي ، من فضلكِ”
بمجرد أن أنهت إيزابيلا كلامها، فُتح الباب المغلق.
وما لبثت أن ظهرت الشابة ذات الشعر الأحمر، التي كانت إيزابيلا تنظر إلى صورتها قبل لحظات.
كانت ترتدي فستانًا محتشمًا يغطي جسدها بالكامل، وسارت نحو إيزابيلا بخطوات هادئة. ثم أمسكت بطرفي فستانها برفق، وانحنت بتحية مهذبة.
“تشرفت بلقائكِ، هذه أول مرة أراكِ فيها. أنا إيفلين شيلتشستر، ابنة عائلة شيلتشستر. يمكنكِ مناداتي فقط بإيفلين بكل أريحية.”
رؤية هذه الشابة المهذبة، سواء في حديثها أو تصرفاتها، جعل إيزابيلا تشعر وكأن صدرها انشرح. ابتسمت لها بحرارة، مرحبة بها ترحيبًا وديًا.
“لا بد أنكِ عانيتِ في طريقكِ إلى هنا.”
“ليس على الإطلاق، بل كنت متحمسة جدًا لمقابلتكِ يا أمي.”
“أوه، هل بدأتِ تنادينني أمي بالفعل…؟”
رغم أن كلماتها حملت نبرة استغراب، إلا أن الابتسامة لم تفارق وجه إيزابيلا. كانت تنظر إلى إيفلين برضى وسعادة، ثم جلست معها على الأريكة.
بعد فترة قصيرة، سُمع صوت طرقات خفيفة على الباب، تلاه دخول خادمة تحمل صينية بيدها.
وضعت الخادمة فنجاني قهوة أمام كلٍّ من إيفلين وإيزابيلا، ثم صبّت القهوة الساخنة من الإبريق بعناية. وبعد أن انحنت تحية لهما، غادرت غرفة الاستقبال بسرعة.
“هذه قهوة خاصة مصنوعة من حبوب طلبتها خصيصًا. إنها تناسب ذوقي، لكن لا أعلم إن كانت ستعجبكِ أيضًا، إيفلين”
رفعت إيفلين الفنجان بحذر، واستنشقت رائحة القهوة قليلًا، ثم ابتسمت قائلة: “إنها مصنوعة من حبوب البن المستوردة من مملكة كيرين ، أليس كذلك؟”
اتسعت عينا إيزابيلا في دهشة.
لم يسبق لأحد من قبل أن نجح في تخمين منشأ القهوة، لكنها الآن تسمع ذلك من هذه الشابة أمامها!
حاولت أن تهدئ دهشتها، ثم سألت:
“لم أتوقع أنكِ ستعرفين ذلك. هل تهتمين بالقهوة عادةً؟”
“نعم، أنا أحبها كثيرًا. حتى أنني أقنعت والدي ذات مرة بتنظيم حفل تذوق خاص بالقهوة.”
كلما تحدثت إيفلين ، شعرت إيزابيلا بأنها تناسب توقعاتها تمامًا.
حاولت كبح ابتسامتها المتزايدة، ثم سعلت بخفة قائلة:
“إن كان الأمر كذلك ، فسأدعوكي إلى صالوني الخاص. أغلب الحاضرين هناك من محبي القهوة ، لذا لن تجدي صعوبة في الانسجام معهم”
اتسعت عينا إيفلين بحماس ، و قالت بلهفة:
“حقًا؟ هل هذا صحيح؟”
لم تستطع إيفلين إخفاء فرحتها.
فكون إيزابيلا تدعوها إلى الصالون يعني أنها اعترفت بها كجزء من دائرتها الخاصة. تأثرت إيفلين بشدة، فنهضت من مكانها وأمسكت بيد إيزابيلا بحماس.
“ثقي بي، سأكون سندًا قويًا لدوقنا المبجّل. سأجعله يتألق أكثر من أي شخص آخر.”
ابتسمت إيزابيلا برضا.
لم تستطع إلا أن تشعر بالحماس عند تخيل كاليوس الوسيم برفقة زوجته الجميلة الجديدة. بلطف، ربتت على ظهر يد إيفلين، وهي تفكر في أن هذه الفتاة لن تكتفي فقط بإبعاد ابنة العدو، بل ستجعل ابنها يلمع أكثر من أي وقت مضى.
***
“همم…”
في صباح اليوم التالي ، استيقظت ديليا قبل طلوع الفجر، رغم أنها نامت مبكرًا الليلة الماضية.
مؤخرًا، كان التوتر ينهكها، حتى إنها بدأت تبكي فور أن فتحت عينيها. مسحت دموعها بحذر بإستخدام كمّ ردائها، ثم اعتدلت في جلستها.
رغم كل شيء، فهي دوقة، ولا يمكنها الظهور أمام الآخرين بعينين متورمتين. لذا، دلّكت جفنيها برفق، ثم سحبت حبل الجرس لاستدعاء الخدم.
بعد أن غسلت وجهها وغيّرت ملابسها، نزلت ديليا الدرج بوجه خالٍ من الزينة. وعلى غير عادتها، كانت تشعر بحماس وهي تتجه إلى الحديقة التي زُرعت فيها أشجار الليلك.
في هذا الوقت من العام، كانت أزهار الليلك في أوج تفتحها، ولهذا استيقظت باكرًا اليوم كي تستمتع بمشاهدتها.
كانت شجرة الليلك التي شاركت فيها لحظات مع كاليوس بمثابة ملاذها النفسي. وبينما كانت تتأمل بتلاتها المتطايرة، بدا عليها سعادة غامرة.
“إذًا، ها هو الربيع يمر بهذه السرعة…”
فإزهار الليلك كان يعني اقتراب تبدل الفصول. وضعت ديليا يدها على لحاء الشجرة الخشن ، تتلمسه بنظرات مزيجها الفرح والحزن.
أشجار الليلك في حديقة هيلدبرانت كانت من زراعتها ، والآن، بعد مرور بضع سنوات، أصبحت شاهقة وكأنها طفل كبر بسرعة.
ورغم أن ذلك لا يزال بعيد المنال، إلا أنها فكرت أن شعورها تجاه هذه الأشجار قد يكون شبيهًا بما ستشعر به عندما تنجب طفلًا من كاليوس.
“كيف سيكون شكل طفلنا عندما يولد؟ لا بد أنه سيكون جميلًا…”
إذا كان الطفل سيشبه كاليوس، فقد كانت ديليا واثقة من أنها ستكون سعيدة، مهما كان عدد الأطفال الذين ستنجبهم.
تمنت أن يكون طفلها القادم مشرقًا، لا يعرف معنى الحزن. فقط تخيلت نفسها وهي تمسك بيد طفلها، بينما يبتسم لهما كاليوس، فشعرت بتأثر عميق.
نظرت إلى أزهار الليلك المتساقطة بعذوبة، ثم عزمت أمرها:
في المستقبل، لن تأتي لرؤية الليلك وحدها، ولا حتى مع شخص واحد فقط، بل مع عائلتهم الصغيرة، ثلاثتهم معًا.
***
بعد أن عادت ديليا من الحديقة، وصل زائر إلى القصر مع أولى ساعات الصباح.
كانت لا تزال تتناول فطورها المتأخر عندما سمعت الخبر، ففوجئت ونهضت بسرعة إلى الطابق الأول.
هناك، رأت رجل دين يرتدي ملابس بيضاء من رأسه إلى قدميه.
“تشرفت بلقائكِ للمرة الأولى، سيدتي.”
بصراحة، شعرت ديليا بالارتباك.
لم يسبق لها أن قابلت كاهنًا من قبل، فشعرت وكأن جسدها قد تجمد للحظة. استجمعت نفسها سريعًا، واعتدلت في وقفتها، ثم سألته بتردد:
“مرحبًا، أيها الكاهن المحترم. لكن، ما سبب قدومك إلى قصرنا؟”
بدا الكاهن مبتسمًا بلطف، مما جعلها تشعر وكأنها مذنبة لسبب لا تعرفه.
أشارت للخدم بأن ينصرفوا، وانتظرت جوابه بقلق.
“أعتذر عن الإزعاج، لكن دوقكم المبجّل قد قدّم هذا الطلب قبل فترة.”
فتح الكاهن المجلد الذي كان يحمله، ثم سحب ورقة مليئة بالكتابة، وقدمها لديليا.
نظرت إليها بحيرة، ثم قرأت ما كُتب فيها، وسرعان ما ارتسمت على وجهها تعابير الصدمة.
“ه… هذا…”
رؤية هذه الكلمات، التي حاولت جهدها نسيانها، جعل عقلها يغرق في الضباب.
بيدين مرتعشتين، أعادت قراءة ما كُتب، غير قادرة على تصديق ما تراه.