إذا كُنت ترغَب فِي أن تترُكَني - 12
وكأنَّها قد رُشَّت بماءٍ بارد، حدَّقت ديليا في جيريمي بعينين متَّسعتين. كان جيريمي يتظاهر بالقلق، لكن عينيه لم تحملَا سوى السخرية تجاه ديليا التي أصبحت في موقفٍ مثيرٍ للشفقة.
وإذا أصبحَ وجودها مشكلةً لعائلة بليك، فستتحوَّل تلك النظرات إلى احتقارٍ صريح.
“عليكِ على الأقلِّ الحفاظُ على منصبكِ كدوقة، حتى لا تصبحي أكثر إثارةً للشفقة.”
ارتشفت ديليا رشفةً من الشاي الأسود لترطِّب حلقها الجاف.
عندها، اقترب جيريمي ووضع يده على كتفها، ثمَّ همس وكأنَّه يقدِّم لها نصيحةً خفيَّة.
“هل لا تزالُ لديكِ علاقةٌ جيِّدةٌ مع كاليُوس؟ ليس لديكِ شيءٌ تعتمدين عليه، لذا إن أردتِ الحفاظَ على مكانكِ، فعليكِ على الأقلِّ استغلال وجهكِ الجميل.”
“جيريمي-!”
“لا تكوني عنيدةً أكثر من اللازم، فالأمرُ لن يستغرق وقتًا طويلًا قبل أن يُنتزع منكِ منصبُ سيدة الدوقية.”
“……لقد فهمتُ، لذا أرجوكَ عُد الآن.”
شعرت ديليا بالغثيان.
لم تكن تتوقَّع أن تسمع مثلَ هذه الكلمات في موقفٍ كهذا، الذي كان بالفعل أكثرَ من طاقتها. لقد صار الاستماع إلى حديثه دون إظهار أيِّ ردِّ فعلٍ أمرًا متعبًا للغاية.
“يبدو أنَّكِ لم تتغيَّري أبدًا عمَّا كنتِ عليهِ في الماضي”
“وماذا تتوقَّعُ مني؟ حتى لو عدتُ إلى القصر، فلن تستقبلني فيه، أليس كذلك؟”
على الرغم من أنَّها وُلِدَت في عائلة بليك، إلا أنَّها لم تعد تمتلك أيَّ مبرِّرٍ للعودة بعد وفاة والديها. والأهمُّ من ذلك، كان جيريمي ينظر إليها كما لو كانت عبئًا مزعجًا.
“أجل، أنتِ تفهمين ذلك جيدًا.”
“حتى لو تطلَّقتُ، فلن أفعل شيئًا يُلحقُ الضررَ بالعائلة، لذا لا تقلق.”
على الرغم من نبرة صوتها المتوسِّلة، لم يُظهر جيريمي أيَّ استجابةٍ دافئة. بل أمسك قطعةَ سكَّرٍ مكعَّبةً في صحنٍ صغيرٍ أمامه، وبدأ يعبث بها بين أصابعه بينما تمتمَ بصوتٍ بارد.
“أتعلمين؟ كان ذلك في الربيع أيضًا، أليس كذلك؟”
“… ماذا؟ أيُّ وقتٍ تعني؟”
“اليومُ الذي توسَّلتِ فيه إلى والدينا كي تأخذي نزهةً بعيدًا عن ناظري.”
وقف جيريمي ووضع يده على كتفها، ثمَّ واصل حديثه وهو يُقلِّب مكعَّب السكَّر الذي التصقت به حبيباتٌ بيضاء.
“في اليوم الذي خرجتِ فيه إلى النزهة، تعرَّضت العربة لحادثٍ بعد أن انثقبَت إحدى عجلاتها، وأدَّى ذلك إلى انقلابها.”
“… أخي الأكبر ، توقَّف من فضلك.”
بدأت أنفاسها تتسارع.
كانت ذكرياتُ ذلك اليوم تمثِّلُ صدمةً هائلةً بالنسبة لها.
وضعت يدها على عنقها و هي تحاول التنفُّس بعمقٍ مرارًا وتكرارًا.
“لكنَّكِ دائمًا ما تملكين حظًّا عجيبًا. فكلُّ من حولكِ هم الذين يلقون حتفهم، أليس كذلك؟”
شعرت ديليا أنَّ أنفاسها تكاد تنقطع.
لم يكن جيريمي يُشير فقط إلى الحادثةِ القديمة، بل كان يعني أيضًا ما يحدث الآن. بدا وكأنَّه يعتقد أنَّ فقدان كاليُوس لذاكرته كان دليلًا على صحَّة افتراضاته.
“هل تعتقدُ حقًّا أنَّني تعمَّدتُ التسبُّبَ بذلك الحادث؟”
“ألم يكن موتُ والدينا بسبَبكِ؟”
“لا! لقد توفِّيَا لأنَّ العربة لم يتمَّ صيانتها بشكلٍ جيِّد، وليس بسببي!”
“تبدين بارعةً جدًّا في اختلاقِ الأعذار.”
طَق-! تحطَّم مكعَّب السكَّر في يد جيريمي بضغطةٍ واحدة.
راقبت ديليا الفُتاتَ المتناثرَ في يده، والتوت ملامح وجهها بتوتُّر.
“في اليوم الذي سبق النزهة، شهدَ أحدُ الخدَمِ أنَّكِ كنتِ تتجوَّلين بالقرب من العربة. كانت العربة تعمل بشكلٍ جيِّد، ثمَّ تعطَّلت فجأةً في اليوم التالي. إن لم تكوني أنتِ الفاعلة، فمن يكون؟”
“لا! لم أفعل ذلك!”
“لقد سئمتُ من رؤيتكِ تتظاهرين بأنَّكِ الضحيَّة البريئة. بعد وفاة والدينا، الوحيدة التي أصبحت أكثر سعادةٍ كنتِ أنتِ، بعدما حصلتِ على زواجٍ مثاليٍّ وسطَ تلك المأساة!”
مع استمرار كلمات جيريمي القاسية، أصبحت ملامح ديليا باهتة كالأرض القاحلة.
“في النهاية، ها أنتِ وحدكِ من بقي سالمة هذه المرة أيضًا. تمامًا كما كنتِ الوحيدة التي قُذِفت خارج العربة قبل أن تهوي إلى أسفل الجرف حينها”
أخيرًا، وضعت ديليا كلتا يديها على فمها وأغمضت عينيها بقوة. بدا وكأنها على وشك الانهيار، مما جعل جيريمي ينقر بلسانه بضيق. ثم، وهو يرفع يده عنها، أطلق ضحكة ساخرة مليئة بالسخرية.
“هذا ممل … أعتقد أنه حان وقت المغادرة”
“اذهب بسرعة. اختفِ من أمامي حالًا”
“كنتُ سأفعل ذلك على أي حال. إن بقيتُ هنا أكثر، فقد ينتهي بي الأمر بمقابلة ذلك الرجل.”
استدار جيريمي، تاركًا ديليا المرتبكة خلفه. لكن عندما همّ بسحب مقبض الباب لفتحه، دوّى صوت صريرٍ مفاجئ، وانفتح الباب على مصراعيه بقوة.
ومن خلفه، ظهر زوج داليا نفسه—كاليـوس.
“زوجي …؟”
سمعت أنه كان مشغولًا بإدارة الأراضي منذ بداية العام. لم تره منذ أسبوع تقريبًا، لذا اتسعت عيناها بدهشة عند رؤيته.
حاولت ديليا التوجه نحوه، لكنها فقدت توازنها فجأة و انهارت جالسة على الأرض. قبضت على يديها بإحكام وهي تشعر بالدوار الذي لم تعهده من قبل.
قال كاليـوس بصوت بارد: “هل انتهيت من شؤونك مع زوجتي؟”
ابتسم جيريمي بسخرية و ألقى نظرة على ديليا قبل أن يميل برأسه قليلًا.
“بفضل سماحكَ الكريم، تمكنتُ من لقائها، دوق.”
لم تستطع ديليا تصديق ما تسمعه.
كاليـوس سمح لجيريمي بالدخول؟ لقد كان يكره عائلة بليك، وبعد أن فقد ذاكرته، حتى أنه كرهها فقط لأنها تنتمي إليهم. فكيف سمح لجيريمي بالدخول؟
تابع جيريمي بنبرة ساخرة: “آه، إن قررتما الطلاق، فأرجو إبلاغي مسبقًا. حتى لو كانت أختي ناقصة ، فلا بد أن تتدخل العائلة في الأمر.”
أجاب كاليـوس ببرود: “إذا حدث ذلك، فسأبلغك”
بينما أغمضت ديليا عينيها المثقلة بالدوار، غادر جيريمي غرفة الاستقبال بعد أن ألقى تحية مقتضبة.
عندها، خيَّم ظل كاليوس فوق رأسها. و ما إن رفعت رأسها نحوه بوجه مذهول ، حتى رأته يقطب حاجبيه ويشيح بنظره، وكأنه كان ينوي قول شيء لكنه تراجع.
“لقد أظلمت السماء بالفعل”
عند كلماته ، نظرت ديليا نحو النافذة. وكما قال، كانت أشعة الشمس التي أغرقت الأفق قد بدأت تتلاشى في ظلام المساء.
“لقد تعكر الهواء بسبب الزائر غير المرغوب فيه. لنتابع حديثنا في الخارج”
لم تعرف لماذا، لكن كلماته بدت وكأنها إعلان لحكم نهائي. و بينما كانت تعيد التفكير فيها، أومأت برأسها بوجه شاحب.
رافقت كاليوس إلى خارج غرفة الاستقبال. كان الظلام قد خيَّم على الحديقة، لكن المصابيح المنتشرة هنا وهناك أضاءت الطريق، مما بدد أي قلق من التعثر.
كانت هذه المرة الأولى منذ فترة طويلة التي تتجول فيها في الحديقة. رغم أن عقلها كان مشوشًا بسبب كل ما حدث اليوم، إلا أن جو الحديقة كان يبعث على الهدوء. لم تشعر بنفسها إلا عندما بدأت دموعها تنساب بلا وعي.
عندها، زفر كاليوس أنفاسه بصوت خافت، ثم سألها:
“هل استمتعتِ بلقاء عائلتكِ؟”
ترددت ديليا قليلًا، ثم أومأت برأسها.
تُرى ، هل يعلم ما دار بينها وبين جيريمي؟ إلى أي مدى سمع؟ و إن كان قد أدرك كذبها بشأن علاقتها الجيدة مع عائلتها، فكيف سيرد؟ كانت خائفة من الكلمات القاسية التي قد تلي ذلك.
“لماذا…؟”
“ألستِ من كتب الرسالة لمقابلة جيريمي بليك؟ لقد كنتِ وحدكِ مع أحد أفراد عائلة بليك في هذا القصر أثناء غيابي ، فكيف لي أن أثق بما جرى؟”
“أنا آسفة…”
مسحت دِيليا دموعها بظاهر يدها وهي تتحدث. لم تكن تعلم كيف سيستقبل كَاليُوس حقيقة أنها ليست على وفاق مع جِيريمي، مما جعلها تشعر بالقلق.
نظر كَاليُوس إليها بتعبير لا يزال معقدًا، ثم مدّ إليها معطفه الذي كان مُلقى على ذراعه.
“ارتديه. إن سقطتِ مريضة مرة أخرى بسبب إهمالكِ صحتكِ، فماذا سيقول الخدم عني؟”
عضّت دِيليا شفتها بحرج، وأمسكت بالمعطف الذي استمر في الانزلاق عن كتفيها بكلتا يديها، ثم تمتمت بصوت خافت يملؤه التردد: “عندما أنظر إليك، لا أجد فرقًا بينك الآن وبين ما كنت عليه قبل أن تفقد ذاكرتك، وهذا يجعلني في غاية الارتباك.”
“أما زلتِ غير قادرة على تقبّل حقيقة أنني فقدت ذاكرتي؟”
“… لا، أنا أدرك ذلك جيدًا.”
كان كَاليُوس قد فقد ذاكرته بعد سقوطه من الشرفة، وأصيب باضطراب ذهني، ولم يكن يفهم سبب زواجه منها ، حتى إنه طلب الطلاق.
رفعت دِيليا رأسها نحو السماء بإبتسامة يملؤها المرارة.
كان اللون الداكن للسماء الخالية من الغيوم يُذكّرها بشعر كَاليُوس الأسود القاتم. وأثناء تأملها للنجوم، رأت شهابًا يسقط، فأغمضت عينيها متمنية: “أتمنى ألا يحلّ عليّ الشقاء مجددًا… وأن أبقى مع كَاليُوس إلى الأبد”
ثم سألت بصوت يحمل أملاً خفيًا:
“وأنت، ما الأمنية التي تمنيتها؟”
“هل عليّ حقًا أن أخبركِ بذلك؟”
“آه… كما توقعتُ تمامًا…”
حتى لو فقد كَاليُوس ذاكرته، كانت تأمل أن يجري بينهما حديثٌ صادق، لكنه خذلها مجددًا. شعرت بأن أملها كان مجرد وهم سخيف، فابتسمت بسخرية على نفسها.
بينما كانت تتلقى لفحات الهواء البارد بصمت، قالت بصوت خافت وكأنها تحدث الفراغ:
“حبيبي، هل لي أن أطلب منك شيئًا واحدًا؟”
نظر إليها كَاليُوس بتعبير مليء بالشك، بينما هي نفسها ترددت قليلًا قبل أن تواصل، وهي تحكّ خدها بحرج:
“إذا لم يكن الأمر مزعجًا لك، هل يمكنك استقبال الزهور التي أرسلها لك من وقت لآخر؟”
“ما الذي تعنيه هذه الكلمات فجأة؟”
لم تردّ دِيليا مباشرة، لكن السبب كان واضحًا لها.
ففي الماضي، كان كَاليُوس يرسل لها نوعًا مختلفًا من الزهور كل صباح، ليس عن طريق الخدم أو البستانيين، بل كان يقطفها بنفسه بعناية فائقة.
ولهذا، اعتقدت دِيليا أنه إذا أرسلت إليه الزهور بنفس الطريقة، فقد تثير شيئًا في أعماقه وتعيد إليه الذكريات المفقودة.
لكن الردّ الذي تلقته كان باردًا كالجليد، لدرجة جعلت جسدها يرتجف.
“يكفي إلى هنا… بدأت أشعر بالغضب”
“حبيبي…”
لم يضف كَاليُوس أي كلمة أخرى بعدها. فقط حدّق بصمت في دِيليا المرتبكة، بتلك النظرة الباردة المعتادة.
عندما أدركت أن مشاعرها لم تصله مطلقًا ، ارتسمت على شفتيها ابتسامة مُرّة. قبضت على ثوبها عند موضع قلبها، وزفرت نفسًا محملًا بالمرارة.
لقد كان حبًا من طرف واحد، مؤلمًا لدرجة جعلتها ترغب في الصراخ.