رفع النبلاء رؤوسهم ببطء عند سماع صوت الإمبراطور الجليل.
وعندها، لاحت أمامهم صورة الإمبراطور المسنّ، يضع تاجًا على رأسه ويرتدي عباءةً حمراء، وهو يتلفّت حوله بنظرات ثقيلة.
وفي اللحظة التي كانت فيها ديليا تتحسّر على تقدّم الإمبراطور في السن، لمحها الإمبراطور هو الآخر، وما إن وقعت عيناه على كاليوس حتى شحب وجهه و أطلق سعالًا متقطّعًا.
“أنا من نظّم هذا الحفل اليوم، لكن كما تعلمون، بطل هذه الأمسية شخصٌ آخر. إنه الرجل الذي أسهم في ازدهار إمبراطوريتنا، وأتمنّى من الجميع أن يعبّر له عن احترامه بتصفيقٍ حارّ”
عند كلمات الإمبراطور، بدأ النبلاء المحيطون يصفقون واحدًا تلو الآخر بصوتٍ عالٍ.
ومع ذلك، لم يرفّ جفن كاليوس، بل انحنى برأسه بوجهٍ رسميّ دون أيّ تعبير.
“سأكتفي بهذا القدر من الخطاب. استمتعوا بالحفل وعودوا كما شئتم”
رغم أنّ الإمبراطور عُرف بخطبه الطويلة ، إلا أنّه اليوم اختصر كلماته و جلس بهدوء احترامًا لبطل الحفل.
تبعته الإمبراطورة والأمراء في الجلوس بالترتيب.
كان وليّ العهد يبدو أكثر رسميّة من المعتاد ، أما الأمير الثاني فلم يظهر ، كونه قد غادر القصر.
و أما الأمير الثالث ، المشتبه في كونه الجاني ، فقد كان يعضّ شفتَيه بقوة بينما يُحدّق في الأرض.
بعد قليل، بدأت أنغام الآلات الموسيقية تتردّد في أرجاء القاعة، معلنةً افتتاح حفل الرقص.
وبينما كانت ديليا تحدّق بذهول في النبلاء المتجمّعين في الوسط استعدادًا للرقص، اقترب منها كاليوس ومدّ يده نحوها.
“ديليا ، هل ترقصين معي؟”
“ماذا؟ الرقص …؟”
“نعم. بما أنّه حفل النصر، فلن يبدأ الرقص حتى أرقص أنا”
نظرت ديليا حولها بدهشة. و كما قال كاليوس ، لم يتحرّك أحد، والجميع كان يحدّق بهما.
وبعد لحظة تردّد، أومأت برأسها أخيرًا، و أمسكت بيده وبدأت تتحرّك ببطء.
“آسفة، قد أبدو مرتبكة قليلاً. لم أرقص منذ وقتٍ طويل”
وبالفعل، كان جسدها يئنّ من الحرج وكأن مفاصلها قد نسيت كيف تتحرّك. وبينما كانت ترسم ملامح خجلٍ على وجهها، هزّ كاليوس رأسه.
“لا تهتمي لما حولكِ. فمع تقدّم الموسيقى، سيتزاحم الناس ولن يلاحظ أحد وجودنا”
“حقًّا؟”
كان في كلماته ما يهدّئ روعها. تنفّست ديليا بعمق ، و أشرقت عيناها. ثم بدأت تتحرّك وتدور بتناغم مع الموسيقى.
وبينما كانت تُركّز بكلّ جوارحها على خطوات الرقص، اقترب كاليوس منها أكثر، ووضع يده برفق على خصرها، ثم همس في أذنها: “ديليا ، إن لم يكن لديكِ مانع … هل يمكن أن تكرّري ما لم تتمكّني من قوله سابقًا؟”
“مم؟ تقصد ما لم أقله …؟”
“نعم، ما تحدّثنا عنه في العربة سابقًا”
اتّسعت عينا ديليا فجأة.
حديث العربة …
-“في الحقيقة ، كنتُ متردّدًا كثيرًا قبل المجيء إلى هنا. لم أكن واثقًا إن كان من الصواب أن آتي بكِ إلى هذا الحفل. هل كنتُ أُجبرك فقط من باب العناد؟”
-“……”
-“لكن اليوم أدركت شيئًا. ربما … مشاعري ليست من طرفٍ واحد كما كنت أظنّ”
تردّدت ديليا في إكمال حديثهم ، لكنّ نظراته التي كانت تخترقها أجبرتها على رفع رأسها ببطء.
وسط الحشود المتحرّكة ، كان كاليوس واقفًا بثبات ، يحدّق بها بجدّية.
“…كاليوس؟”
“لقد قلتِ حينها… إنكِ لا تزالين… تحبّينني.”
توقّف عن الكلام ، و كأنّه ينتظر بشغف ما ستقوله.
لم تستطع ديليا مقاومة ابتسامتها، ثم قالت بصوتٍ خافت: “أعتقد أنّني … ما زلتُ أحبّك”
في تلك اللحظة، حدّق بها كاليوس مذهولًا، وكأنّه غير متأكّد ممّا سمعه.
“هل هذا يعني … أنّكِ تقبلين بي؟”
“لا أقول إنني سامحتك تمامًا. لكن لدينا متّسع من الوقت، وأرغب في أن أكون بجانبك، لنرى ما سيحدث معًا”
أدرك كاليوس أخيرًا أن ما سمعه لم يكن وهمًا، بل حقيقة.
وبينما كان لا يزال ممسكًا بيد ديليا ، رمش بعينيه ببطء، ثم انحدرت دمعة رقيقة من عينيه.
“شكرًا لكِ … لأنك ناديتِني بهذا الشكل، ولأنك قبلتِ بي مرة أخرى رغم كل شيء”
تجمدت ديليا من المفاجأة ، فما كان من كاليوس إلا أن اقترب منها أكثر وضمها إلى صدره بقوة.
“من الآن فصاعدًا، لن أسمح لكِ بأن تكوني أول من يضع نفسه في مواقف خطرة. سأجعلكِ سعيدة لدرجة ألا تشعري يومًا بالندم على حياتكِ”
كان من الكذب القول إن فقدانه للذاكرة لم يؤلمها، لكن رغم كل ما جرى، لم تستطع التوقف عن حبه.
فحياتها كلها بدأت معه، ولذلك لم يكن أمامها إلا أن تتمسك بيده من جديد.
ربما لم يكن أحد يعلم إن كانت هذه الخطوة ستجلب لها السعادة أم التعاسة، لكن شيئًا واحدًا كانت متأكدة منه، أنها لم تعد تستطيع العيش بدونه.
وكان هو الآخر يشعر بالأمر ذاته، ولهذا ربّتت على ظهره وهو يبكي بصمت، وأغلقت عينيها.
“تعرضنا للكثير من المصاعب ، لذا لا بد أن تكون الأيام القادمة مليئة بالخير”
“نعم، لا بد أن تكون كذلك”
قالها كاليوس بنبرة حاسمة تنمّ عن قرار عميق ، فابتسمت ديليا بخفة وتراجعت قليلًا إلى الخلف.
“لكن قبل ذلك، علينا أن ننهي ما بدأناه”
و بينما كانت تتحدث ، بدأت الموسيقى التي كانت تعم القاعة تخفت تدريجيًا.
ولأن الوقت لم يحن بعد لرقصة أخرى ، أمسكت ديليا بيد كاليوس وتوجّها معًا ببطء نحو العرش.
كان آيدن يجلس بجوار الإمبراطور ، وحين رأى الاثنين قادمين، أومأ لهما بهدوء.
وقد فهم كلاهما ما تعنيه تلك الإيماءة، فانحنيا أمام الإمبراطور بجدية ووقار.
“هل كنتَ بخير خلال هذه الفترة، جلالة الإمبراطور؟”
“نعم، وهل أنتما أيضًا كنتما بخير؟”
اختفى ذلك الإمبراطور المتماسك الذي اعتاد الجميع رؤيته، وبدت على وجهه علامات شحوب وقلق غير معتادة.
“أستميحك عذرًا ، يا جلالة الإمبراطور ، لديّ سؤال أود طرحه عليك”
“سؤال؟ وما هو؟”
ضاقت عينا كاليوس و هو يحدّق في الإمبراطور المتوتر و المتصبب عرقًا ، ثم ارتسمت على وجهه ابتسامة صغيرة.
“هل تذكر ما قلته لك في المرة السابقة؟”
“ذ … ذلك الأمر!”
… ما الذي يقصده بكلامه؟ ما الحديث الذي يجعل الإمبراطور يبدو بهذا التوتر و الضعف؟
تساءلت ديليا بقلق ، فربت كاليوس على يدها في محاولة لطمأنتها ، ففهمت و أومأت له برأسها بصمت.
“يبدو أن جلالتك قد نسيتَ ، لذا دعني أذكرك”
“انتظر ، أيها الدوق–!”
نهض الإمبراطور من مكانه و وجهه محتقن بالغضب ، و أسرع نحوه في محاولة لمنعه من الكلام.
لكن كاليوس نطق بما لم يكن أحد يتوقعه ، و بكل هدوء:
“القاتل المتسلسل الذي استهدف النبلاء موجود بيننا الآن”
ساد الصمت القاعة في لحظة.
فالجرائم التي استهدفت فئة النبلاء كانت الأعنف و الأكثر دموية في تاريخ الإمبراطورية. و بدأ النبلاء ، واحدًا تلو الآخر ، بالتجمع قرب العرش.
نظر الإمبراطور من حوله بذعر ، ليكتشف أن حتى الحراس الذين كانوا يحيطون به قد اختفوا.
“القاتل هذا استهدف نبلاء أبرياء واحدًا تلو الآخر ، و كأنه يحمل حقدًا دفينًا ضدهم منذ زمن بعيد”
“كفى …”
استدار كاليوس نحو النبلاء المتجمعين و أخرج من جيب معطفه منديلاً ، ثم كشفه دون تردد.
و ظهر داخله بعض خصلات الشعر الأشقر اللامع ، الذي يميز أفراد العائلة الإمبراطورية.
“هذه الشعرات عثرتُ عليها بعد سقوطي من على الشرفة. لقد سقطَت من القاتل أثناء الحادث”
“يا إلهي ، لا يُصدق!”
“جلالة الإمبراطور! ما الذي يحدث هنا؟!”
لم يجب كاليوس ، و اكتفى بالنظر إلى الإمبراطور الذي بدا كمن فقد السيطرة.
و لو أراد ، لكان بإمكانه الآن أن يكشف المزيد من الأدلة ، اتصاله السري بمملكة جلاديوس ، أو أوامره المبطنة بارتكاب جرائم داخل منزل الكونت سيلشستر ، أو حتى تورطه في الحرب و سفك الدماء.
بدأ الإمبراطور يعض على أسنانه بقلق ، ثم استدار مترنحًا بخطى غير مستقرة ، و توجّه نحو شخص محدد.
توقف أخيرًا عند شخص كان واقفًا بعيدًا … الابن الثالث ، الأمير لورين.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل "100"