إذا كُنت ترغَب فِي أن تترُكَني - 10
** تغيّر إسم البطل من «كالياس» لـ «كاليوس» **
كلّما تحدّثت ديليا مع كَاليوس ، شعرتْ بالاختناق.
وضعتْ يدها على صدرها، تلتقط أنفاسها بصعوبة مرارًا و تكرارًا.
كانت تشعر أنّها إذا ازدادت انفعالًا أكثر من ذلك ، فسوف تنهار آخر خيوط كبريائها المتبقية.
“… لم أعد أرغب في الحديث أكثر.”
لم يكن الأمر أنّها لا تملك ما تبرّر به نفسها، لكنّها شعرت بوضوحٍ مُؤلم أنّ كَاليوس لا يثق بها على الإطلاق.
كان يعلم بشأن علاقتها بعائلتها ومع ذلك استمرّ في استجوابها. كان الأمر كما لو أنّ قطيعتها لعائلتها طوال هذه السنوات مجرّد حقيقة هشّة يمكن لرسالةٍ واحدةٍ من جيريمي أن تُدمّرها تمامًا.
شعرت بالعجز واليأس، إذ أدركت أنّ أيّ تبريرٍ تقدّمه لن يؤثّر في قلبه على الإطلاق.
حدّق كَاليوس طويلًا في ديليا ، التي لزمت الصمت ، ثمّ استدار دون أدنى تردّد. نظرت ديليا إلى ظهره وهو يغادر غرفة الطعام، وهمست بصوت خافت: “ربّما لن تتذكّر هذا أبدًا.”
كلّ اللحظات التي قضياها معًا، والفستان الجميل الذي صنعه لأجلها، لعلّها بالنسبة له ليست سوى ذكرياتٍ زائفة. مجرّد التفكير في ذلك جعلها تشعر وكأنّ العالم قد نسيها تمامًا.
“لقد كنتَ دائمًا الشخص الذي يمنحني كلّ شيء….”
كلّما استغرقت في استرجاع ذكرياتهما، ازداد شعورها بالألم في زاوية قلبها. وبينما كانت تحاول كتم مشاعرها والتقاط أنفاسها، توقّفت خطواتٌ بعيدة فجأة، وأعقبها صوتٌ باردٌ يصدح في الأرجاء: “ربّما تكونين على حقّ. بالنظر إلى أنّني طلبتُ صنع ذلك الفستان لكِ.”
رفعت ديليا رأسها بسرعة، مصدومةً من كلماته غير المتوقّعة. وعندما وقع نظرها عليه، رأته يبتسم بسخرية وكأنّه لا يصدّق نفسه.
اقترب كَاليوس منها، ثمّ أمسك بذقنها الرقيق بإحكام. حدّق مباشرةً في عينيها المرتجفتين وهمس بلا أيّ مشاعر:
“لا تتوقّعي شيئًا. الماضي ليس سوى ماضٍ. إنّه لا علاقة له بي الآن. وحتى لو استعدتُ ذاكرتي يومًا، فلن أحبّك أبدًا.”
كانت كلماته القاسية المتتالية كالسكاكين تمزّق قلب ديليا. لم يكن يهمّه إن كانت ستتألّم أم لا، وهذا ما زاد من وجعها.
ألقى عليها نظرة خاطفة، وهي لا تزال في حالة ذهولٍ تامّ، ثمّ تابع سيره مبتعدًا. وفي غرفة الطعام التي بقيت فيها ديليا وحدها، لم يكن هناك سوى صمتٍ خانق يخيّم على المكان.
بعد مغادرة كَاليوس ، أنهت ديليا طعامها على عجلٍ، ثمّ نهضت من مكانها بغير حيلة.
بعد ذلك، بقيت جالسةً في غرفتها تحدّق بشرودٍ عبر النافذة، حتى سمعت صوت طرقٍ على الباب ، فردّت بصوت خافت: “ادخلي.”
صرير—
فُتح الباب الذي كان مغلقًا بإحكام، وسمعت صوت خطواتٍ تدخل إلى الغرفة. افترضت ديليا بطبيعة الحال أنّها الخادمة، فتحدّثت بنبرةٍ لطيفة: “ما الأمر فجأة؟”
“…….”
لكنّها لم تتلقَّ أيّ إجابة، رغم انتظارها.
و بينما كانت تعقد حاجبيها بإستغراب، وصل إلى مسامعها صوتُ تنفّسٍ عميق، تبعه صوتٌ حادّ يحمل نفحةً من التوبيخ: “ماذا تفعلين وأنتِ جالسةٌ هناك شاردة؟”
“… السيّدة الكُبرى؟”
عندما التفتت، وقع نظرها على حماتها، إيزابيلّا. لم تكن تتوقّع أن تقتحم غرفتها في هذا الوقت المبكر من الصباح، لذا لم تستطع سوى أن تحرّك شفتيها بصمتٍ، دون أن تنطق بأيّ كلمة.
استغلّت إيزابيلّا صدمة ديليا وبدأت تتفحّص الغرفة بتمعّن.
سرعان ما عكّرت ملامحها، وهي تنظر حولها باشمئزاز: “ما هذا المنظر؟”
“عذرًا؟ ما المشكلة؟”
“كلّ شيء قديمٌ هنا. وكأنّكِ متشرّدةٌ لا تملك فلسًا واحدًا.”
تابعت إيزابيلّا تفحّص الغرفة بلا إذنٍ، ثمّ التفتت نحو ديليا وأخذت توبّخها بصوتٍ صارم: “يبدو أنّكِ لا تتحرّكين إلا عندما آتي إليكِ. كيف لا تفعلين أيّ شيءٍ بشكلٍ صحيح؟”
“سيّدتي ، الأمر ليس كذلك…”
كانت ديليا تشعر بالغبن.
لا يزال الوقت مبكرًا للغاية للقيام بأعمال المنزل، كما أنّ جميع الأثاث في غرفتها لم يمضِ على صنعه سوى عامٍ واحد، ومع ذلك، ها هي تتلقّى التوبيخ وكأنّها قامت بأمرٍ مشين. كانت يداها ترتجفان قليلًا من شدّة التوتّر.
هي تفهم أنّ إيزابيلّا تكرهها، لكن أن تضيّق عليها بهذا الشكل العلني؟ كان الأمر قاسيًا للغاية.
وما زاد الطين بلّة، أنّها بالكاد انتظرت حتى فقد كَاليوس ذاكرته لتبدأ فورًا بالبحث له عن امرأةٍ أخرى.
كانت تعلم أنّ حماتها لا تحبّها، لكن أن تكون بهذه القسوة؟ كيف لها أن تتصرّف بمثل هذا الجفاء؟
لكن، مهما كان الأمر مؤلمًا، لم يكن بوسع ديليا فعل أيّ شيء. وكما هو الحال دائمًا، لم يكن أمامها سوى التزام الصمت.
“لقد سمعت بعض الأخبار.”
“ماذا؟ إن كنتِ تتحدّثين عن قصةٍ ما…”
“سمعتُ أنّكما، منذ وقوع الحادث، تنامان في غرفٍ منفصلة، صحيح؟”
لم يكن أحد يعلم بذلك سوى قلة قليلة. و بينما تجمّدت ملامح ديليا من الصدمة، انفجرت إيزابيلّا ضاحكة.
“برأيكِ، من يثق به الخدم أكثر؟ أنتِ أم أنا ، الدوقة السابقة؟”
في تلك اللحظة، أدركت ديليا الحقيقة. كان لدى إيزابيلّا أعوانٌ مخلصون داخل قصر هيلدبرانت.
بينما كانت يداها ترتجفان من الإحساس بالمهانة، ربتت إيزابيلّا على كتفها بلطفٍ زائف، وعيناها تتلألآن بدهاء: “سأراقب بعينيّ و أرى. إلى متى ستتحمّلين؟”
“لماذا تعاملينني بهذا الشكل …؟”
اقتربت إيزابيلّا من ديليا وهي تلوّح بمروحتها بخفة، ثم انحنت نحو أذنها وهمست بصوتٍ منخفض:
“منذ أن وطأت قدميكِ هذا المنزل، لم أحبّكِ ولو لمرّةٍ واحدة. هل تظنّين أنّ الجميع تبعوكِ لأنّهم يحبّونكِ؟ يا لغبائكِ! لقد كانوا يراقبون ردة فعل ابني ، لا أكثر. هل تظنّين نفسكِ مناسبةً لكَاليوس؟”
كانت كلماتها مهينةً إلى درجة أنّ ديليا لم تستطع الردّ فورًا.
هل كان السبب الوحيد وراء عدم إجبارها على الطلاق حتى الآن هو وجود كَاليوس؟
كانت تعلم أنّ إيزابيلّا تكرهها، لكنّها لم تتخيّل أنّ مشاعرها تصل إلى هذا الحدّ من الاحتقار. ومع ذلك، لم تكن تنوي الاستسلام بسهولة، فقبضت على يديها المرتجفتين وقالت بصوتٍ ثابت: “مهما قلْتِ، لن أطلّقُه.”
“ابني لا يبدو أنّه يفكّر بالطريقة ذاتها. وهذا مناسبٌ تمامًا. في الواقع، كنت أفكّر بالفعل في تزويجه من امرأةٍ جديدة، واحدةٍ أكثر نفعًا منكِ بمراحل.”
كانت كلمات إيزابيلّا كالسكاكين تمزّق قلب ديليا. رغم أنّها سمعت شيئًا مشابهًا ليلة أمس ، إلا أنّ ذلك لم يجعل وقعها أقلّ إيلامًا.
ثم دفعت كتفها بلا اكتراث، مما جعل ديليا تتراجع خطوة إلى الخلف. وعندما أمسكت يد إيزابيلّا دون تفكير، ضربتها هذه الأخيرة بطرف مروحتها قائلةً بازدراء: “قذرة! كيف تجرؤين على لمسي؟”
ثم استدارت بعنف، ودفعت بإحدى المزهريات المزخرفة على الأرض قبل أن تغادر الغرفة. تحطّمت الزهور البنفسجية على الأرض، وسُحقت تحت قدميها دون اكتراث.
بعد مغادرتها، وقفت ديليا ساكنة للحظة، تشعر بالفراغ الذي خلفته وراءها. وما إن تلاشى صدى خطواتها، حتى التفتت ديليا بسرعة، واتجهت إلى أحد الأدراج.
عبثت بين الأوراق حتى وجدت رسالةً تحمل اسم جيريمي بليك، ثم أمسكتها وفتحتها بعناية.
[ إلى ديليا ،
كيف كنتِ في الفترة الماضية؟ لا بدّ أنّكِ تعلمين جيدًا سبب إرسالي هذه الرسالة.
سمعتُ أنّ شائعاتٍ قد انتشرت مؤخرًا في العاصمة حول فقدان كَاليوس لذاكرته. لكن بما أنّه لم يظهر في أي مناسبة رسمية منذ حفلة القصر، فمن الصعب التأكد من صحة هذه الأقاويل.
بما أنّكِ زوجته، فما رأيكِ؟ هل فقد كَاليوس ذاكرته حقًا؟
بمجرد أن تصلكِ هذه الرسالة، قومي بالردّ في أسرع وقتٍ ممكن. وإن تسبّبتِ بأي ضررٍ لعائلة بليك ، فلن أترككِ و شأنكِ. تواصلي معي قبل أن يزداد الوضع سوءًا ]
بمجرد أن أنهت قراءة الرسالة ، انتابتها قشعريرةٌ باردة.
أسلوبه الآمر و كلماته المتعجرفة جعلا معدتها تنقلب.
لطالما قيل إنّ الأخوة يحافظون على روابط المحبة حتى لو افترقوا طويلًا، لكن كلمات جيريمي الباردة جعلتها تشعر وكأن لا علاقة دم تجمعهما أصلًا.
لقد تغيّر تمامًا بعد وفاة والديهما.
كان ينعتها بالقمامة عندما كانت طفلة، بل وكان يقول إن مجرد كونهما من دمٍ واحدٍ مقززٌ ومثيرٌ للاشمئزاز.
بسبب كراهيته الواضحة، أمضت ديليا ليالي طويلة تبكي، لكن ذلك لم يمنع جيريمي من مضايقتها، بل زاد من قسوته.
وفي أحد الأيام، توسلت إليه بيأس:
“أنا آسفة! أرجوكَ، توقف عن إيذائي … ألا يمكننا أن نكون كأي أخٍ وأخته؟”
لكنّ جوابه كان كالسيف الذي مزّق آخر خيطٍ من الأمل داخلها: “لا أنوي أن أكون قريبًا من طفلةٍ لا تستطيع حتى تدبير أمورها بنفسها.”
في النهاية، لم يكن جيريمي يريد أختًا، بل تابعًا مخلصًا يخدمه في المستقبل.
بعد أن أدركت هذه الحقيقة، تخلّت ديليا عن أي أملٍ في أن تصبح علاقتها به طبيعية. لم يكن أمامها سوى أن تظلّ صامتة، فلا تفعل ما يثير غضبه.
همست بمرارة:
“إنّه شخصٌ بغيض.”
لذلك، عندما حاولت استرجاع أي ذكرى جميلةٍ مع عائلتها، لم تجد شيئًا على الإطلاق. بل على العكس، الذكرى الوحيدة التي بقيت محفورةً في ذاكرتها كانت اليوم الذي فقدت فيه والديها أثناء نزهتهم العائلية الأولى.
أمسكت ديليا بالرسالة، واتجهت إلى مكتبها المتصل بغرفة نومها. جلست أمام مكتبها، والتقطت قلم الريشة، ثم بدأت تكتب الردّ:
[ إلى أخي جيريمي ،
مرّ وقتٌ طويلٌ منذ آخر مرةٍ تواصلنا فيها. آمل أن تكون بخير. لقد قرأتُ رسالتك وتفحّصت محتواها بعناية.
لم أكن أعلم أنّ هذه الشائعات قد انتشرت في العاصمة، إذ كنت منشغلةً بأمور القصر في الفترة الماضية. أما بخصوص حالة كَاليوس…]
توقّفت يدها عن الكتابة للحظة، وهي تمسك القلم بتردد.
رغم كونه شقيقها، إلا أنّها لم تكن واثقةً ممّا إذا كان من الحكمة إخباره بحالة كَاليوس.
لكن بعد لحظاتٍ من التفكير، بدا وكأنها اتخذت قرارها أخيرًا. غمست الريشة في الحبر، ثم واصلت الكتابة بحزم:
[لا يمكنني إخباركَ بالتفاصيل ، لكنه بخير. إنّه فقط … يركّز على أعمال الدوقية. لذا، لا تقلق كثيرًا. ومهما حدث، فلن أسمح بأن يلحق أي ضررٍ بعائلة بليك.]