أقسم بريتني أنّها لم تتخيّل يومًا كلامًا كهذا.
“ارسمي لوحةً…”
، شكّكت في أذنيها.
على عكس قلبها الذي هبط ببرودة، كان نبضها يتسارع كما لو كان يمزّق الأوعية الدمويّة.
نظرت حولها بعيونٍ شاردة، فوجدت داخل الجناح المنفصل حامل لوحةٍ كانت تراه كثيرًا في متاجر الأدوات الفنيّة، وفوقه لوحة قماشيّة مثبتة على لوح خشبي.
في وسط الغرفة النظيفة والمنظّمة، خلف الحامل، كانت هناك نوافذ فينيسيّة كبيرة، مزيّنة إطاراتها بتماثيل جصيّة صغيرة للزينة. بدت الغرفة وكأنّها مشغل فني.
“تبيعين لي موهبتكِ، وأنا سأوفّر لكِ أفضل بيئةٍ ممكنة.”
أشار الرجل بعينيه إلى اللوحة القماشيّة البيضاء في منتصف الغرفة، وقال:
“ماذا… فجأةً… أيّ لوحةٍ يجب أن أرسمها؟”
“افعلي كما كنتِ تفعلين دائمًا. أليس هذا عرضًا جيّدًا بما فيه الكفاية؟”
بينما كانت بريتني تبحث عن كلماتٍ للرد، واصل الرجل حديثه:
“لأنّه طلبٌ عاجل، قد يكون هناك نقصٌ ما. إذا احتجتِ إلى شيء، أخبريني. سمعتُ أنّ الألوان الآن تُباع في أنابيب، إذا أردتِ، سأحضرها لكِ.”
قبل أن تستمع إلى تفاصيل إضافيّة، جاء سكرتيره وقال:
“سيّدي، الماركيز بايرون يطلبك.”
“إذن، سأراكِ لاحقًا.”
بهذه الكلمات، غادر الرجل الجناح.
وحيدةً، أخذت بريتني تتفحّص الجناح ببطءٍ مرةً أخرى.
بدا الجناح جديدًا، إذ كانت رائحة المباني الجديدة لا تزال خفيفةً وغير مزعجة.
بسبب المفاجأة المطلقة، وقفت بريتني ساكنةً لمدّة خمس دقائق تقريبًا، ثمّ لاحظت وعاء الفرش وأنبوب الزيت على طاولةٍ صغيرة. اقتربت بحذرٍ منها.
الفرش التي فحصتها كانت من أجود أنواع فرش كولينسكي السيبل (فرش مصنوعة من شعر السمّور، باهظة الثمن، مرنة وتمتص الماء جيدًا).
بريتني، التي لم تستطع حتّى التفكير في شراء فرشٍ أرخص مصنوعة من شعر السنجاب، لم تجرؤ على لمسها واستدارت إلى الخلف.
على جدارٍ قرب النافذة، كان هناك خزانة مواد مصنوعة من خشب الماهوغاني، فجمعت شجاعتها واقتربت.
عندما نظرت بداخلها، وجدت أصباغًا ومواد رابطة ووسائط رسم.
بينما كانت تنظر بعينيها الذهبيّتين، نصفها خوف ونصفها الآخر فضول، إلى المواد التي لم ترَها إلّا في متاجر الأدوات الفنيّة، رأت لونًا أزرق يتداخل مع عينيها، فتراجعت مذعورة.
الأصباغ الموضوعة بعشوائيّة كانت أغلى من المعادن الثمينة، مثل اللازورد، وهو حجر شبه كريم. بجانبه، كان هناك لون قرمزي مستورد من بلادٍ بعيدة، يُعرف باسم الفيرميليون، وثمنه لا يُقدّر.
كانت بريتني تعمل لمدّة نصف شهر لتشتري خمسة أقلام رصاص فقط.
كلّ ما استطاعت الحصول عليه بجمع المال قرشًا قرشًا كان مواد جافة رخيصة نسبيًا مثل أقلام الرصاص، الفحم، أو الجرافيت.
لكن في هذه الغرفة، كلّ شيءٍ كان مخيفًا لدرجة أنّها لم تجرؤ على لمسه، أدوات فنيّة باهظة كانت تخشى حتّى لمسها عن طريق الخطأ في المتاجر.
بالطبع، لم تكن تعرف كيف تتعامل معها، وحتّى لو عرفت، لم يكن بإمكانها لمسها بتهوّر.
إذا أفسدت مادةً ثمينة عن طريق الخطأ، فإنّ ديونها، التي لا تستطيع سدادها الآن، ستزداد أكثر.
‘لماذا طلب منّي أن أرسم أصلًا؟’
كما قال والدها، لوحاتها تافهة…. إذن، كيف يمكنها بيع موهبتها؟ لا يمكن أن يكون الرجل جادًا. ربّما يسخر منها.
لأنّ…
‘مهارتي لا تكفي لأصبح رسّامة.’
الرغبة في أن تصبح رسّامة هي طمعٌ يتجاوز الجشع. إنّها تمسّكٌ بشيءٍ مستحيل، إنّها غباءٌ وعنادٌ يجب التخلّي عنه.
يجب أن تكتفي برسمها كهواية. كلّما أرادت بريتني أن تصبح رسّامة، دفنت تلك الرغبة في أعماق قلبها. وعندما لم تستطع دفنها، حفرتها ومزّقتها بسكّينٍ حاد.
‘مهاراتكِ شائعة، لذلك لا يمكنكِ أن تصبحي رسّامة.’
تلك الكلمات التي تردّدت في أذنيها، ثمّ اخترقت قلبها ومزّقته، كانت بريتني تتذكّرها وتردّدها يوميًا.
كيف يمكنها أن تصبح رسّامة؟ لا يحقّ لها حتّى أن تحلم بذلك.
إنّها لا تستحقّ.
لقد قتلت حلمها بهذه الكلمات، حتّى لا يتحوّل ما تحبّه إلى شيءٍ تكرهه. لأنّ ذلك سيكون بائسًا جدًا.
لكن أحيانًا، كانت تأتي أيامٌ تسأل فيها نفسها: لماذا أحببتِ الرسم؟ إنّكِ لن تصبحي رسّامة أبدًا.
كانت تلك الفكرة كالنار التي تحرق وشمًا على الجلد.
كلّما أحرقتها مرارًا وتكرارًا، احترقت وتحوّلت إلى رماد، تاركةً ثقبًا في جانبٍ من قلبها.
من تلك النافذة التي لا تُغلق، كانت الرياح الباردة القاسية تهبّ يوميًا، تعصف بإحباطها العميق، وتجعل قلبها يرتجف من الألم.
في وسط هزائمها المتكرّرة، أصبحت عادة جلد الذات تُعمي عينيها عن الحكم العقلاني.
اعتقدت بريتني أنّه تصرّف بهذا الشكل ليُذكّرها بحدودها، ليقول إنّ فتاةً مثلها لا يمكن أن تصبح رسّامة، ليُعيدها إلى واقعها المؤلم.
إذا كان هذا هدفه، فقد شعرت بهذا الألم بما فيه الكفاية، وأرادت أن تقول له إنّه لا داعي لتذكيرها أكثر. تمنّت لو يفتح الباب الآن، ويسخر منها كما يشاء، ويضربها حتّى يهدأ غضبه.
حتّى لو ماتت من الضرب، فذلك أفضل من تحمّل هذا البؤس الطويل الذي يسحق روحها عبر عظامها.
***
عندما فتح كلاين باب المكتب، رأى رجلًا أشقر مألوفًا.
كان يجلس على الأريكة، ذراعه مرتخية على المسند، بوضعيّةٍ مريحة.
بدلًا من تحيّة صاحب المنزل عند سماع صوت الباب، رفع يده الأخرى التي كانت تمسك بكأسٍ كتحيّة.
“لماذا أنت مشغولٌ هكذا في وضح النهار؟ هل كنت تجمع الديون؟”
“يبدو أنّك لا تجد شيئًا تفعله في وضح النهار.”
الرجل الذي بدا عاطلًا في النهار، إيدن دي بايرون، كان يبتسم بملامح وسيمة، وشعره الأشقر الشاحب يعكس ضوء الشمس كخيوط الفضّة.
ببشرته البيضاء كلون شعره، بدا إيدن أقرب إلى شخصٍ عابثٍ منه إلى ماركيز.
كان يشرب خمرة كلاين بحريّة، وكأنّه لا يعرف من هو صاحب المكان. من مظهره، بدا وكأنّ كلاين هو الزائر في قصره.
لم يكن يومًا أو يومين منذ بدأ إيدن يتعامل مع مكتب كلاين كما لو كان بيته، لذا تجاهله كلاين كما لو كان غير موجود، وجلس إلى مكتبه ليبدأ عمله.
بينما كان كلاين يرتب سندات دين الكونت ريفن التي لم تعد ضروريّة، اقترب إيدن وهو يُغنّي، وانتزع الوثيقة من يده.
جلس نصف جلوسٍ على المكتب، ونظر إلى النص بعينين متقلّصتين، ثم ظهرت علامات الدهشة على وجهه.
“هل سدّد ديونه بالفعل؟ لقد جاء إليّ يطلب قرضًا قبل أيام!”
أعاد إيدن الوثيقة إلى كلاين، وأضاف بنبرةٍ ساخرة:
“آه، بالطبع، أنا لا أمارس الإقراض الربوي مثلك.”
رفع يده اليمنى كما لو كان يشرب نخبًا، ثم رشف من كأس المينت جوليب.
تجاهله كلاين ببساطة، ووضع الوثيقة في ملفٍّ على الرف.
“بالمعنى الدقيق، لم يسدّد بعد.”
“إذن لماذا ترتبها؟”
“لأنّه بدلًا من ذلك، جلب حجرًا كريمًا يستحق عشرة آلاف جنيه.”
“ما هو؟ هل كان هناك منجم ألماس في قصر الكونت؟”
هزّ إيدن الكأس، ورشف رشفة، فتقلّص وجهه الوسيم بسبب طعم الكحول الحاد.
ضحك كلاين ساخرًا، ثم نقل نظره إلى دفتر بريتني الممزّق على المكتب، الذي التقطه من قصر الكونت الليلة الماضية.
“من ضحكتك، يبدو أنّك حصلت على جوهرةٍ قيّمة؟ هل هي مئة قيراط؟”
كان إيدن الآن يجلس تمامًا على المكتب، ساقه مرفوعة.
“حسنًا، شيءٌ من هذا القبيل. الكونت ريفن سينزع غيظه لاحقًا. لقد رفض نعمةً كانت أمام عينيه.”
“يبدو أنّها جوهرةٌ رائعة حقًا. ألن تمنحني جزءًا منها؟ لنعزّز علاقتنا أكثر.”
“يبدو أنّك حقًا عاطل، إذ جئت لتتدخّل في أمورٍ لا تعنيك.”
“هذا صحيح، لكن كلامك جارح. كما ترى، بسبب مظهري هذا، هناك الكثير من النساء يردن مقابلتي.”
“تف!”
ها قد بدأ من جديد. ألقى كلاين نظرةً ازدرائيّة، ثم هزّ رأسه.
“ماذا؟ ألا ينبغي أن تتظاهر بالترحيب على الأقل، حتّى لو لم تقدّر جهودي في زيارتك، متجاهلًا كلّ تلك النساء؟”
نظر إيدن إلى وجهه في المرآة المعلّقة على الحائط، يتفحّصه بتمعّن، بينما كان كلاين ينظر إليه بازدراء، ثمّ عقد ذراعيه واتّكأ على ظهر الكرسي بتكاسل.
“حسنًا، لم تأتِ لتتفوّه بهذا الهراء فقط.”
لم يكن يومًا أو يومين منذ بدأ إيدن يأتي إلى مكتبه دون سبب ويتحدّث بكلامٍ تافه، لكن تصرّفه المتزلّف اليوم يوحي أنّ لديه شيئًا يريد قوله.
“سريع البديهة كالعادة.”
وضع إيدن الكأس على المكتب، فاصطدم الثلج بالزجاج منتجًا صوتًا نقيًا. كما لو أنّ الأمر تافه، أدخل يدًا في جيبه وفتح فمه:
“ألم تقل سابقًا إنّك سترعى الفن؟ جئت لأوصي بممثلٍ مسرحيٍّ صاعد.”
“آه، إذا كان هذا، فقد أضعت وقتك.”
“لماذا؟ هل تشعر بالعبء لردّ هذا الجميل؟ أم أنّك تخشى أن يكون الممثل الصاعد صعب المنال؟ إذا أردت، يمكنني ترتيب لقاءٍ هذا المساء.”
“ليس هذا، لقد وجدتُ بالفعل.”
“من؟”
“رسّام.”
“رسّام؟ هل هو ألبرت الصاعد؟”
“لا.”
عدّل كلاين جلسته، وفرك ذقنه بيدٍ واحدة، مستعيدًا ذكريات الأمس.
القفّازات التي نسيها، عودته إلى قصر الكونت ريفن، والفتاة التي كانت هناك، واللوحة التي سقطت عند قدميها.
اكتشاف تلك الفتاة كان مفاجأةً غير متوقّعة.
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 8"