1
الفصل الأول : في مساء غائم من ليالي يونيو
في اليوم الأول من شهر يونيو، كما جرت العادة حين يُقام السوق، اشترت بريتني دفترًا وأقلامًا مما ادخرته من نقود قليلة.
كانت تدرك أن لا طائل من وراء ذلك، ومع ذلك، لم تتوقف يومًا.
كل مرة كانت تغادر متجر الأدوات الفنية، تحتضن ما اشترته كما لو أنها امتلكت العالم بأسره. كانت تلك الأدوات البسيطة كفيلة بأن تمنحها سعادة تمتد طوال اليوم.
أو ربما، كانت تحاول أن تقنع نفسها بالسعادة.
عندما ترسم، فقط حينها، تنجح في الإفلات من سيل الأفكار الذي لا يرحمها.
شغفها بالرسم قد لا يكون سوى هوس دفعته رغبة خفية للهروب من واقع كالجحيم.
“أين كنتِ تتجولين حتى هذا الوقت؟!”
كم تمنت لو استطاعت الهرب من الواقع الذي ينتظرها بمجرد عودتها إلى المنزل.
قالت بصوت خافت وهي تتجنب نظرات والدها، الكونت ريفن:
“ذهبتُ إلى السوق… لأشتري بعض الفاكهة…”
كانت قد غرقت في الرسم على دفترها الجديد حتى تلاشى الوقت، ولم تعد إلى المنزل إلا حين بدأت الشمس تميل نحو المغيب. وكما كان متوقعًا، استقبلتها عينا والدها المشتعلتان بالغضب.
“بسببك، بقيتُ طوال اليوم بلا طعام! ألم يكن من المفترض أن تعودي في الوقت المناسب لتعدي العشاء؟”
“سأجهزه فورًا، أبي.”
وقبل أن يتفاقم غضبه، أسرعت بخطواتها نحو المطبخ، وأخفت سلة الفاكهة في أحد الأركان، في محاولة لتفادي انكشاف أدوات الرسم التي خبأتها تحتها.
كانت تعلم أنه لا يخفى عليه شيء.
فهو يعلم تمامًا أنها تشتري أدوات الرسم كلما أُقيم السوق، ويعلم أنها تخفيها في السلال أو الحقائب أو حتى تحت مئزرها.
ولذا، حين قلب السلة بحدة، كاشفًا عما في أسفلها، لم يكن ذلك مفاجئًا.
“أيتها الفاجرة، مجددًا تضيّعين وقتك في الرسم عديم الفائدة بينما تنسين والدك؟”
كان يحمل دفتر الرسم الذي تدلّى طرفه من بين الفاكهة المبعثرة، وبنظراته القاسية، حدّق في وجهها المرتعش.
انحنت برأسها، متمنية أن تتلقى أقل قدر ممكن من الضربات، متظاهرة بالخضوع.
لكن ما لبث أن رمى الدفتر على الأرض وسحقه بقدمه، ثم رفسه بعصبية.
“من أين لكِ المال لتشتري هذه الأشياء؟”
لم ترد. التقطت الدفتر المسحوق وخبأته خلف ظهرها، رغم علمها أن ما كُشف لا يمكن إخفاؤه.
لكنها لم ترد أن يُشوّه أكثر.
هذا لم يرق له، فمدّ يده وخطفها من شعرها، مشدًا إياها بعنف.
“آه!”
“لا بد أنكِ بعت جسدك لذاك الوغد، ثيو، الذي كنتِ تتدلّلين عليه كالقطة؟ أيتها العاهرة الصغيرة…”
وقبل أن تُكمل الجملة، كان قبضته تهوي على خدها، مصحوبة برائحة الخمر التي أصبحت مألوفة حتى الغثيان.
قطّبت حاجبيها، لكن لم تمهلها اللحظة كثيرًا، إذ جذب شعرها نحو الخلف وواصل كلامه:
“لم ترثي من أمكِ سوى هذه العادة الحقيرة. لا تعرفين غير فتح ساقيك.
ترسمين؟! تظنين نفسكِ فنانة؟ أنتِ تجلبين العار لاسم آل ريفن!”
“لم أفعل ذلك، أقسم! أرجوك، دعني!”
“قبل أن أُشوّه وجهك، يجب أن أُحطّم يديكِ… لكن من سيخدم في البيت إن فعلت؟ لا، وجهك أولًا، أليس كذلك؟”
“أه..! آسفة… أنا آسفة. أرجوك، سامحني!”
لم تكن مذنبة، لكنها اعتذرت وهي ترتجف.
أقسمت لنفسها ألف مرة أنها لم تبِع جسدها يومًا.
كانت تعمل في القرية، في شتى المهام المتعبة، وتتلقى أجرها بعرقها، رغم كونها ابنة كونت.
لكن والدها لم يكن ليسمع، ولا ليصدّق.
لذا، لم تجد أمامها سوى أن تركع وتطلب الصفح.
تكرّر كلمات “آسفة، أرجوك سامحني”، فقط لتتجنب الضرب.
رغم أنها لم تخطئ، إلا أنها ظلت تجثو على ركبتيها، رأسها لامس الأرض، تتوسل في ذل.
لكن، كما في كل مرة، لم يكن لهذا رجاء أي فائدة.
لم يكن الأمر يهم، سواء رسمت أو باعت جسدها.
لم تكن الضربات بحاجة إلى مبرر.
رغم ذلك، حالفها الحظ هذه المرة.
قبل أن ينفلت عنفه، جاء طرق على الباب.
واكتفى بصفعتين.
“تبًا! لا بد أن ذاك الوغد، ويندزور، جاء! نعم، لحظة واحدة! سآتي حالًا!
ما الذي تنتظرينه؟ اذهبي وأعدّي العشاء!”
خرج الكونت ليلقي التحية على الزائر على مضض.
أما بريتني، فجمعت الأدوات المكسورة والفاكهة المبعثرة، ثم اتجهت نحو غرفة الطعام.
“آه، حضرة اللورد ويندزور، تشرّفت بزيارتك.
لكن ما سبب قدومك المفاجئ؟”
دخلت بريتني الغرفة في اللحظة التي فتح فيها والدها الباب لاستقبال الزائر.
كان يعلم سبب زيارته، ومع ذلك تظاهر بالمفاجأة، محاولًا إخفاء انزعاجه.
وقفت بريتني في صمت بجانب الجدار، تستمع للحديث المتبادل من خلف الباب.
كان صوت الزائر مألوفًا. سمعته مرارًا في الشهور الماضية.
“كنت أتساءل إن كنت لا تزال بخير.”
لعل صوته كان جذابًا، لذا راودها الفضول لرؤية وجهه.
كم مرة تطلعت من النافذة حين يغادر، على أمل أن تلمح ملامحه، لكنها لم تره قط.
“بفضلكم، كل شيء على ما يرام.”
اختفى صوته الغاضب، وانقلب فجأة إلى تودد مذلّ.
“يسرّني أنك لا تزال بخير بفضل أموالي.
بدأت أظن أنك نسيتني.”
“كيف لي أن أنسى؟ مستحيل.”
“حقًا؟ لقد تجاوزت موعد السداد، ولم أسمع منك شيئًا.
هل جئتُ عبثًا؟”
“لا، لا، سأجهز المال… غدًا. غدًا سيكون جاهزًا ،
لكن، وقد قطعت كل هذا الطريق، لمَ لا تشربو شيئًا قبل أن تغادر؟”
“لا حاجة لي بالشراب.
لكن بخصوص المال الذي ستسدده…”
أُغلق الباب مع آخر جملة. على الأرجح دخلا إلى غرفة الاستقبال.
انتظرت بريتني حتى تأكدت أن الباب أُغلق تمامًا، ثم أغلقت باب غرفة الطعام خلفها، ودفنت فضولها كما اعتادت دومًا، وبدأت بإعداد الطعام لوالدها كأن شيئًا لم يكن.
منذ سنوات، تولت بريتني كل أعمال المنزل.
لم يعد لديهم خدم، بعدما أضاع الكونت كل ثروته في القمار.
بات لقبه فارغًا من أي مجد.
ربما لهذا السبب لم يُلقِ بها خارج المنزل.
فهو ما زال بحاجة لها… خادمة دون أجر.
وبينما كانت تنظف بعض الخضار، تذكّرت وعد والدها بتوفير المال حتى الغد، وابتسمت بسخرية.
كيف؟ وهم لا يملكون حتى قوت يومهم.
حتماً سيستدين من جديد.
وسيتضاعف الدين.
ومع هذا التدهور، قد يتحقق أسوأ ما تخشاه.
فهو لمّح مرارًا أنه قد يبيعها لرجل ثري مسن إن ضاق به الحال.
“وقتها سأهرب. سأغادر هذا المكان إلى الأبد.”
لكن، هل كان هذا المكان يومًا ما يُسمى بيتًا؟
سألت نفسها بسخرية.
هذا البيت لم يكن يومًا مأوى أو ملاذًا.
كل ما استقبلها فيه هو نظرات الكراهية، التأنيب، والضرب.
لم يكن بيتًا، بل سجنًا.
ورغم ذلك، استمرت ثلاث سنوات بعد بلوغها سن الرشد دون أن تهرب.
بل لم تتجرأ على التفكير في ذلك.
ظنّت دائمًا أن ما ينتظرها في الخارج أسوأ مما تعيشه في الداخل.
تنهدت بريتني تنهيدة خفيفة تعبيرًا عن حالها، ثم عادت تحرّك يديها بانشغال. وبعد أن أنهت، على عجل، إعداد طعام أبيها في غضون نصف ساعة تقريبًا، التقطت بعض الفواكه المهروسة التي اشترتها من السوق لتسد بها رمقها بدلًا من وجبة حقيقية. وبينما كانت تسد جوعها، أبعدت السلة الفارغة إلى أحد الجوانب، ثم صعدت إلى غرفتها عبر الباب الخلفي الذي لا يواجه غرفة الاستقبال.
ما إن دخلت الغرفة حتى تسلّل ضوء القمر الخافت عبر الستائر المصنوعة من الكتان المعلّقة على إطار النافذة. كان الصيف في أوجه، ومع ذلك فإن الشمس قد اختبأت خلف الغيوم، فخيّم الظلام سريعًا. أشعلت شمعة وأرخت جسدها على المكتب، فشعرت ببرودة لطيفة تلامس وجنتيها المتورمتين، كأنها تُطفئ شيئًا من وهج الألم الذي اشتعل فيهما منذ قليل.
شراء أدوات الرسم، ثم انكشاف الأمر، ثم الضرب المبرح… كانت تلك دورة تتكرر في حياتها باستمرار. لم تكن أدوات الرسم وحدها ما يثير الضرب، بل أي شيء يثير استياء والدها كان كافيًا لأن تنهمر عليها يداه القاسيتان. لم تعد تتذكر متى بدأت هذه المعاملة، فقد كانت تتعرض لها منذ صغرها، حتى ظنت أن ذلك هو الطبيعي.
لكن التعود لا يعني أنها لم تكن تشعر بالألم. تمامًا كما أن الاعتياد على الجراح لا يعني أنها لم تكن تحزن. ولهذا لم تكن قادرة على كبح دموعها المتدفقة.
وسط هذه الحياة القاسية، كانت الرسم بمثابة شعاع نور يتسلل إلى عتمتها. كانت ترسم على الورق كما لو أنها تفرغ قلبها المكبوت، فتشعر أخيرًا بأن روحها تختنق أقل. في تلك اللحظات، كانت تنسى حتى أنها تُدعى “بريتني دي ريفين”.
«عليّ أن أُكمل ما بدأته نهارًا…»
وما إن خفَّ وهج الألم الذي استقرّ على خديها، حتى شعرت بأنها استعادت بعضًا من قوتها. رفعت وجهها عن سطح المكتب، ومسحت دموعها بعجلة بظاهر يدها، ثم أخرجت قلم الرصاص الجديد من جيب مريولها. كان قد انكسر، لكن رغم ذلك بدا صالحًا للاستخدام. مقارنةً بالمرة السابقة حين اضطرّت إلى لف شظايا الأقلام بقطعة قماش رقيقة لتتمكن من الرسم، فإن حال هذا القلم كان أفضل بكثير.
شحذت القلم، ثم أخذت نفسًا عميقًا وأعادت تنظيم أنفاسها. بدأت تبحث عن دفترها بين طيات المريول، لكنه لم يكن هناك. بدا أنها أوقعته حين انهالت عليها الضربات.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 منتدى المانهوا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 منتدى الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 1"