***
“عليك الحذر في استخدام ذراعك لفترة من الوقت.”
داخل غرفة استجواب تحت الأرض، محاطة بجدران رمادية كئيبة من كل جانب، تدلّى مصباح من السقف يتأرجح وينبعث منه ضوء شاحب.
كان ليونيل يستند باسترخاء إلى ظهر كرسيه، واضعاً ساقه فوق الأخرى بهيبة فطرية.
ومن بين الضمادات الملفوفة حول كتفه العاري، تفشّت رائحة المطهّر بشكل نفّاذ.
لم يرمش له جفن رغم الألم الذي كان يوخز جلده كالإبر؛ بل اكتفى بوضع طرف السيجار بين شفتيه واستنشاق الدخان ببطء.
“بالطبع، سيكون من الأفضل لو تلقيت علاجاً مناسباً في المستشفى.”
رداً على تذمّر الطبيب العسكري، أطفأ ليونيل سيجاره في المنفضة.
وبجانب المنفضة، كانت قصاصات الورق المتفحمة ونسخة من صحيفة ملقاة فوق بعضها بإهمال.
الأخبار التي توقّع صدورها صباح غد كانت قد طُبعت ونُشرت بالفعل كأنباء عاجلة.
【وقوع حادث إرهابي آخر! سلامة المواطنين تحت التهديد.. هل الوضع آمن حقاً؟】
وتحت العنوان المثير، كُتب عنوان فرعي بخط مائل:
【دوقة فالهام تظهر في موقع الإرهاب. ما العلاقة بين تجارة باردو والإرهابيين؟】
ومع الخبر، نُشرت صورته وهو يحتضن أنيس بين ذراعيه.
كان من الواضح أنها مقالة لُفّقت من عبارات مجتزأة تبادلها الجنود في الموقع.
“كم يعشقون الثرثرة.”
التوى طرف فم ليونيل ببرود.
“ماذا عن أنيس؟”
“تم نقلها بسلام إلى المستشفى، وسايمون بجانبها الآن.”
نقل كالت، الذي عاد للتو، حالة أنيس بإيجاز؛ فقد استنشقت دخاناً ساماً، وبدت غير مستقرة وكأنها ستفقد وعيها من شدة الصدمة.
كانت هناك شظايا زجاج عالقة بجسدها، لكن الجروح كانت سطحية ولن تترك ندوباً.
“يقولون إنها تخلد للراحة الآن.”
أخرج ليونيل سيجاراً جديداً.
كانت الممرات تضم صفوفاً من الأبواب الحديدية المتشابهة؛ حيث سُجن أفراد ريبلت وكلوي في غرف منفصلة.
أخذ ليونيل الورقة المحترقة؛ بما أن هناك دليلاً يربط أنيس بالأمر، فمن المنطقي استجوابها.
ومع ذلك، لم ترق له فكرة سحب أنيس إلى هذا المكان الكئيب؛ فالهواء الرطب لن يكون جيداً لامرأة يُغمى عليها لأدنى سبب.
حسم أمره؛ سيذهب هو بنفسه إلى غرفة المستشفى، فلا يوجد قانون ينص على أن الاستجواب يجب أن يتم هنا حصراً.
“امنعوا الدخول إلى غرفتها تماماً حتى أصل. خاصة الصحفيين، أخبروا الحراس ألا يقوموا بأي تصرف يلفت الانتباه.”
أشعل ليونيل سيجاره وفتح باب الغرفة التي تُحتجز فيها كلوي.
استنشاق—
خالطت رائحة السيجار اللاذعة رائحة المعدن الزفرة وهي تمر عبر قصبته الهوائية.
“لماذا قبضتم عليّ؟ لا أعرف ما هذا، لكنك ترتكب خطأً فادحاً يا سيدي الدوق.”
“خطأ؟”
ضحك ليونيل ضحكة قصيرة ودلّك حاجبه، والسيجار بين أصابعه.
شعر برغبة في التقيؤ بمجرد محادثتها للحظة؛ من شدة الاشمئزاز.
‘أجل، عائلة باردو يجب أن تثير فيّ هذا الشعور.’
كانت أنيس هي “الاستثناء” الوحيد.
طرد صورة أنيس التي تهاجم ذهنه مجدداً، وألقى بالورقة أمام كلوي.
“ما هذا؟”
سألت كلوي وكأنها لا تعلم حقاً؛ وهذا طبيعي لأن أدريان هرب بالوثائق دون إخبارها.
“عُثر عليها مع من ارتكبوا العمل الإرهابي.”
“حقاً؟ لا أعرف عنها شيئاً.”
رفعت كلوي ذقنها بغطرسة:
“لا علاقة لي بالإرهاب، لذا استدعِ والدي.”
كانت تعابير وجهها واثقة، وكأنها علمت أن أدريان لم يُقبض عليه وأن هناك من يدعمها.
وكاستجابة لتلك الثقة، وصل زائر غير مدعو.
سُمع قرع مستعجل على الباب الحديدي، وعندما فُتح، دخل كالت ليبلّغ بصوت خفيض:
“أيها العقيد.. العقيد جيروم وينتربولت من حامية العاصمة قد وصل.”
وقبل أن ينتهي البلاغ، دخل جيروم مرتدياً زيه العسكري الذي لا يمت للأناقة بصلة؛ أزرار مفتوحة بإهمال وربطة عنق مرتخية.
دخل بتعجرف وكأنه لا يحتاج لإذن من أحد، وخلفه كان يسير أدريان باردو بوجه وقح.
“أهلاً بك، العقيد فالهام؟”
ألقى جيروم التحية بميلان، ثم أعلن فجأة:
“لقد عهد إلينا الإمبراطور بالتحقيق في إرهاب المسرح الكبير. ستتولى حامية العاصمة هذه القضية.”
لوّح جيروم بتكاسل بتفويض يحمل ختم الإمبراطور.
ساد الاضطراب المكان، وعضّ كالت على أسنانه:
“ماذا تعني بذلك؟ وحدتنا هي من طاردت ريبلت حتى الآن!”
“كالت.”
نطق ليونيل باسم مساعده بنبرة منخفضة لكي لا يتدخل، فأغمض كالت عينيه بقوة.
“يا للهول، المرؤوس يشبه رئيسه في قلة الأدب. من أنت لتجيبني؟”
ضحك جيروم بسخرية وحكّ سوالفه.
“كان عليك أن تؤدي عملك بشكل أفضل. بما أن العمليات الإرهابية تتوالى وأنت لا تحسن التعامل معها، كان ألزاماً عليّ التدخل.”
ابتسم بخبث وربت على كتف ليونيل المصاب:
“لا تحزن كثيراً. بما أن الأمر حدث في العاصمة، سأقوم بمسؤوليتي.”
“لا حاجة لذلك. التحقيق سيستمر من جهتنا.”
“انظر هنا يا عقيد فالهام. العاصمة هي منطقتي. اهتم أنت بالشمال كما تفعل دائماً.”
أمام هذا الاستفزاز السخيف، استنشق ليونيل دخان سيجاره بعمق، ثم ضغط عليه بيده حتى انكسر السيجار إلى نصفين.
“هل تظن أنك قادر على ذلك؟”
“…… ماذا؟”
“لقد بقيت في العاصمة لأنك تربيت بدلال ولا تقوى على المهام القاسية، أليس كذلك؟ وهذا العمل أقسى مما يبدو عليه.”
احمرّ وجه جيروم من الغضب في لحظة:
“أيها الوغد، ألا تصمت؟”
“أخشى أن تصاب بجرح في جسدك الغالي إذا تدخلت في أمر لا يخصك.”
ربت ليونيل على كتف جيروم كما فعل الأخير:
“وأرجو منك الامتناع عن التحدث معي دون رسمية ونحن في نفس الرتبة. أم تفضل أن أتحدث معك بتبسط أنا أيضاً، يا عقيد وينتربولت؟”
صار وجه جيروم شديد الحمرة.
كان الجميع يعلم أن جيروم اشترى رتبته بماله وبكونه شقيق الإمبراطور، ولم يحقق قط أي إنجاز عسكري يُذكر؛ فقد كان يخشى الذهاب إلى المواقع الميدانية.
مسح جيروم وجهه بيده أمام جنوده محاولاً استعادة كبريائه:
“لقد قدم لي رئيس تجارة باردو هنا بلاغاً مثيراً للاهتمام. يبدو أن منظمة ريبلت تمتلك وثائق تجارية تخص عائلته.”
ضغط جيروم بإصبعه على الورقة المتفحمة فوق المكتب:
“ويبدو أن هذه هي تلك الوثائق.”
سحب جيروم الورقة وناولها لأدريان:
“ما رأيك يا رئيس التجارة؟ هل هذه وثائقك؟”
فحص أدريان الورقة بتذلل، ثم أومأ برأسه بهستيريا وهو يمثل دور المصدوم:
“نعم، إنها كذلك. هذه وثائق كانت تتعامل بها ابنتي الثانية. كيف وصل بها الأمر لـ—”
“إذن، هل يعني هذا أن دوقة فالهام تتواطأ مع ريبلت؟”
“هـ…هذا مستحيل!”
لوّح أدريان بيده بذعر مصطنع:
“أنيس فتاة طموحة نعم، لكنها لا ترتكب فعلاً شنيعاً كهذا. لا بد أن هناك سوء فهم.”
“هممم، حتى لو كان سوء فهم، يجب التحقيق فيه.”
ابتسم جيروم بخبث ونقر على شفتيه:
“على أي حال، يجب على العقيد فالهام رفع يده عن هذه القضية. كيف يمكن إجراء تحقيق موضوعي بينما زوجتك متورطة؟”
ضيّق جيروم عينيه بسخرية وأشار لجنوده خلفه:
“اعتقلوا أنيس فالهام، فوراً!”
كانت الجلبة تتعالى خارج غرفة المستشفى.
تداخلت همسات الصحفيين مع صوت اصطدام سيوف فرسان الدوقية في البعيد.
نظر سايمون إلى أنيس الجالسة وحدها على السرير الأبيض، وابتسم بحرج:
“الوضع في الخارج صاخب قليلاً.”
ألقى نظرة سريعة نحو الباب، ثم قال مطمئناً إياها:
“لا تقلقي. لقد أمر الدوق بإيلاء سلامتكِ عناية فائقة. الفرسان يحرسون الباب، لذا يمكنكِ الراحة بسلام.”
“الدوق يهتم بـ…… سلامتي؟”
كان تركيب الكلمتين معاً غريباً جداً على مسامعها.
أغمضت أنيس عينيها ببطء ثم فتحتهما.
“نعم. لقد كدتِ تصابين بأذى كبير. لم أرَ الدوق بمثل ذاك الذعر من قبل.”
التقط سايمون الصندوق الذي كانت تحتضنه أنيس ووضعه بعناية فوق الخزانة:
“قال الدوق إنه سيأتي قريباً، لذا استلقي وارتاحي حتى وصوله.”
“آه، ……حسناً.”
أجابت أنيس بذهول، ثم استلقت على السرير.
‘ليونيل ذعر بسببي؟ لأنني…… كدتُ أُصاب؟’
رفرفت رموشها الكثيفة.
ورغم أنها كانت تعلم أن سايمون قد يكون مبالغاً، إلا أنها شعرت بوخز من الدفء في أطراف أصابعها.
وخوفاً من أن يُكشف شعورها، سحبت اللحاف حتى أنفها.
التعليقات لهذا الفصل " 30"