في اللحظة التي انهار فيها الهيكل الحجري فوق رأسها، انقضّ جسد ليونيل نحوها كالصاعقة.
“أنيس!”
ودون أن يمنحها فرصة لالتقاط أنفاسها، أحاطها بذراعيه القويتين وحماها بصدره. وفوراً، سقطت كتلة صخرية ضخمة لتضرب كتفه بقوة هائلة.
“سـ… سحقاً.”
ومضت رؤيته من شدة الألم الذي سرى حتى مفاصل عظامه، لكنه لم يُظهر أي تعبير على وجهه. عضّ على أسنانه وأحكم حصار أنيس داخل حضنه أكثر فأكثر.
تشك—!
تصدّع الهيكل الإنشائي بشكل متسلسل، وبفعل الصدمة بدأت الثريا المعلّقة في الأعلى تصدر صريراً مزعجاً، وكأنها على وشك السقوط في أي لحظة. زفر ليونيل نفساً قصيراً؛ لا يوجد مجال للهرب.
“…… اللعنة.”
وبدافع الغريزة، سحب مسدسه من خصره. وفي اللحظة التي ضغط فيها على الزناد—
بانغ—!
ومع دويّ الانفجار الذي صمّ الآذان، تحطمت الثريا في الهواء وتناثرت شظايا الكريستال كالمطر المنهمر. خدشت قطع الزجاج المتطايرة وجهه وظهر يده، تاركة خطوطاً حمراء نضح منها الدم مع شعور بالوخز، لكن اهتمام ليونيل كان منصبّاً على شيء واحد فقط.
عندما انقشع الغبار الكثيف، وقع نظره على أنيس داخل ذراعيه.
“أنتِ—!”
برزت العروق في رقبة ليونيل، واجتاحه غضب مفاجئ. أراد أن يصرخ في وجهها ويسألها: لماذا أنزلتِ يدكِ؟ كان عليكِ الصراخ لطلب النجدة! هل كنتِ تنوين البقاء تحت الحطام حتى الموت وأنتِ لا تستطيعين التحرك بمفردكِ؟
لكن حرارة جسدها الناعمة التي لفّت أصابعه جعلت كل تلك الكلمات تذوب في فمه. كانت أكتاف أنيس الموصدة داخل ذراعيه القويتين ترتجف بخفة، كعصفور مذعور. وعيناها الرماديتان، اللتان كانتا قبل قليل كأطلالٍ انطفأ نورها، بدأت تستعيد حيويتها تدريجياً.
“سيدي الدوق؟ لماذا أنت هنا……”
كان اضطراب نظراتها يعكس مدى دهشتها. حينها، أدرك ليونيل أن أنيس كانت تحتضن شيئاً ما بقوة.
‘…… حذاء باليه؟’
صندوق أبيض تحرسه أنيس بكلتا يديها. ومن بين شرائطه الممزقة، برز طرف حذاء باليه جديد ولامع. لقد كان هو الحذاء ذاته الذي حشره بيده في حاوية النفايات قبل قليل.
تصلبت نظرات ليونيل للحظة. في موقف كهذا، تحتضنين حذاءً تافهاً بكل هذا الحرص؟ امتزج الارتباك بمشاعر لا يمكن تفسيرها، مما جعل عينيه تهتزان ببطء. شعر بشيء ثقيل يعلق في حنجرته؛ شعور غير سار، لكن أثر ذلك الشعور لم يدم طويلاً، فقد بدأت أكوام التراب تتساقط من سقف المسرح الذي فقد ركائزه.
“انهضي. إلا إذا كنتِ ترغبين في الموت هنا.”
تجاهل ليونيل ألم كتفه النابض وحمل أنيس بين ذراعيه.
“كتفكَ مصاب……! سأتدبر أمري—”
“تتدبرين أمركِ كيف؟ وأنتِ لا تستطيعين المشي بمفردكِ.”
“……”
تحدثت أنيس بصوت مرتعش، لكن ليونيل لم يجبها. ورغم محاولتها عدم إظهار ذلك، إلا أن أنفاسها كانت متلاحقة، تماماً كما حدث حين انهارت في الملحق. بهذه الحالة وتريد تدبير أمرها؟ لفّ ليونيل يده حول رأسها وجعل وجهها يغرق في صدره.
“ستكونين بخير ما لم تتحركي، لذا ابقي هادئة.”
رغم لهجته الباردة، إلا أن كل حركة من حركاته كانت مفعمة بالحذر. كانت هذه هي المرة الثالثة التي يحملها فيها؛ وربما لهذا السبب، لم يعد ملمس جسدها غريباً عليه. بل شعر بشيء من الرضا وهي تتشبث به بجسدها الصغير بضعف.
عندما خرج من الممر المليء بالغبار، ظهر خيال كاين عند نهاية الردهة المتفحمة. عندما رأى كاين أنيس، حاول الاقتراب مسرعاً لكنه توقف فجأة بسبب شظايا الثريا المتناثرة على الأرض؛ فقد بدت حادة بما يكفي لاختراق نعل الحذاء بسهولة. وبينما كان كاين يتردد خوفاً من إصابة قدميه، تلاقت عيناه مع أنيس.
“آه، أوه…… سيدة أنيس.”
خطا كاين خطوة متأخرة، لكن ليونيل لم يكن لينتظره. أحكم ليونيل قبضته على أنيس وتجاوز كاين دون التفات.
وعلى عكس كاين، داس ليونيل بخطوات ثابتة فوق الشظايا، ليرنّ صوت تحطم الزجاج تحت حذائه العسكري بصدى مخيف في المكان.
“أيها العقيد!”
بمجرد رؤية الهيئة الخارجة من مدخل المسرح حيث يختلط الغبار بالنيران، ركض كالت روكوود، مساعد ليونيل، بخطوات غاضبة نحوه.
“هل تعلم كم ذعرنا عندما قفزت فجأة داخل المسرح؟”
“توقف عن المبالغة.”
ألقى ليونيل نظرة جانبية على كاين الذي خرج خلفه ووقف متردداً، ثم قطّب حاجبيه بضيق. كان الوضع خارج المسرح عبارة عن ساحة من الفوضى؛ فقد كان الصحفيون أسرع مما توقع، حيث اتخذوا مواقعهم بين المتفرجين الذين تم إجلاؤهم.
“انظروا، إنه العقيد فالهام!”
“سيدي العقيد، ما الذي يحدث؟ هل وقع هجوم إرهابي آخر؟ هل هي منظمة ريبلت مجدداً؟”
“لحظة، أليست تلك زوجة الدوق؟”
من كل جانب، دوت أصوات غوالق الكاميرات وانفجرت فلاشات آلات التصوير بالأبيض والأسود كالصواعق. انهمر الضوء الساطع على وجه أنيس الشاحب، والتقط الصحفيون صوراً لها كوحوش عثرت على فريسة شهية.
بمجرد رؤية ذلك، خلع ليونيل سترته وغطى بها وجه أنيس، ثم سلّمها فوراً إلى كالت.
“خذها إلى المستشفى. كانت بجوار الانفجار تماماً عندما وقع.”
“وماذا عنك يا سيدي الدوق؟”
أمسكت أنيس بليونيل بينما كانت تستند إلى كالت:
“أنت مصاب أيضاً.”
حدق ليونيل في يدها النحيلة التي تتشبث بكم بدلته العسكرية. انتقلت نظراته الزرقاء ببطء من يدها المرتعشة إلى وجهها.
“لا أعتقد أنكِ تدركين حالتكِ الآن لتفوهي بكلام كهذا.”
كان على وجنة أنيس البيضاء خط أحمر طويل ناتج عن جرح. كاد ليونيل أن يمسح الجرح دون وعي، لكنه تراجع وأطلق صوتاً بلسانه:
“تلقي العلاج أولاً. أما عن أحداث اليوم… فسنتحدث عنها لاحقاً.”
حركت أنيس شفتيها لتتحدث، لكن ليونيل كان قد شاح بنظره وبدأ يمسح الحشد بعينيه. في تلك اللحظة، همس كالت سراً قبل أن يغادر:
“لقد تم إخلاء جميع الزوار، لكن اثنين منهم فرّا. قبضنا على واحد، ويبدو أن الآخر اختبأ بين الحشود.”
تبدلت نظرات ليونيل لتصبح حادة كالنصل في لحظة. اخترقت نظراته نقطة معينة في الحشد؛ حيث كانت هناك آثار أقدام متفحمة ورائحة بارود لم تختفِ تماماً بعد.
“أيها العقيد…..؟”
ومع نداء كالت، أمال ليونيل رأسه بحدة نحو شاب يندس بريبة وسط مجموعة من كبار السن الذين يحاولون تهدئة روعهم. كانت ياقة قميص الشاب ملطخة بسخام بارود أسود.
انتشر التوتر في المكان في لحظة. التفت المساعد والفرسان في آن واحد نحو ذلك الاتجاه. أدرك الشاب أنه كُشف، فنطق بشتيمة منخفضة:
“تباً، سيادة العقيد يملك حساً ثابتاً لا يخطئ، سواء في ساحة المعركة أو هنا.”
ظهر شعار ريبلت من بين طيات ثوبه الممزق، وانقضّ الشاب بصرخة وحشية:
“من أجل نهضة سيركاديا!”
في لمح البصر، ضيّق الفرسان الخناق حوله، لكن نصل خنجره كان يتجه بالفعل نحو صدر ليونيل. في تلك اللحظة—
“رايل! هذا خطر!”
نفضت أنيس يد كالت واندفعت للأمام بترنح. ورغم أن جسدها الذي فقد توازنه كان على وشك السقوط، إلا أنها ألقت بنفسها نحو ليونيل، وكأنها تحاول حمايته.
‘……!’
اهتزت عينا ليونيل بعنف.
تحميني…… أنا؟ أنيس باردو؟
رغم ذهوله، ضغط ليونيل غريزياً على زناد مسدسه.
طاخ!
خدشت الرصاصة خصر الشاب.
رنين—
سقط الخنجر من يد الشاب واصطدم بالأرض الحجرية محدثاً صوتاً معدنياً. أطلق الشاب صرخة ألم وأمسك بخصره وهو يترنح، ثم دفع الناس بيده الملطخة بالدم وفرّ هارباً نحو الأزقة.
“اقبضوا عليه!”
بمجرد صدور أمر ليونيل، استلّ الفرسان سيوفهم وطاردوه، ودوى صوت أحذيتهم العسكرية على الحجر في كل أرجاء الشارع.
وسط كل تلك الجلبة، كانت أنيس لا تزال تحتضن ليونيل وكأنها تحرسه. ومع دوي الطلقات المتتالية والصرخات، تشنجت أكتاف أنيس بشدة.
التقط ليونيل أنفاسه وتمتم بصوت منخفض:
“هل قمتِ بحمايتي للتو؟ لماذا؟”
“لقد أنقذتني أنت أيضاً يا سيدي الدوق. وقد قلتُ لك سابقاً…… أنا أكره أن يتعرض أحد للأذى.”
رغم أن صوتها كان خافتاً جداً، إلا أن تلك الكلمات ترددت في أذن ليونيل بوضوح غريب.
التعليقات لهذا الفصل " 28"