تجاهلت جيزيل نظرة ألكايد الحادّة كالسهم متظاهرةً بعدم ملاحظتها،
واكتفت بالتحديق في كعكة الفراولة التي تجرّأت على إزعاج الآنسة.
“ألم تقولي إنّ الأطفال يُحبّون الأشياء الحلوة؟”
سأل ألكايد، وهو يطرق سطح الطاولة بطرف سبّابته طرقًا خفيفًا،
وكأنّه يحاول جذب انتباه جيزيل التي كانت تتعمّد التهرّب.
تَصَبَّبَ العرقُ من جيزيل.
في تلك الأثناء، كانت لور قد أنهت شرب الحليب الذي ملأ الكوب الصغير.
خفّ الطعم الحلو قليلًا، لكنّ فمها أصبح جافًّا.
مـ….مـاءً؟
إلا توجدُ أيُ مياهٍ؟
وبينما كانت تبحث بعينيها فوق الطاولة،
وقعت نظرتها على كأسٍ زجاجيٍّ شفافٍ مملوءٍ بمشروب.
كان لونه أصفرَ ذهبيًّا،
كعبّاد الشمس،
كالشمس نفسها،
ويبدو شهيًّا للغاية.
وحين ساد الهدوء بين الكبار،
نزلت لور من على الكرسي،
واقتربت بخطواتٍ صغيرة من الكأس الزجاجي.
وقفت على أطراف قدميها،
ومدّت ذراعيها القصيرتين إلى أقصاهما،
وأمسكت بالكأس.
“هِـنغ!”
“لور؟”
كان الكأس ثقيلًا قليلًا على طفلةٍ مثلها،
وحين رفعتْه بكلتا يديها وأطلقت ذلك الصوت الصغير،
التفت ألكايد وجيزيل إليها أخيرًا.
همّ ألكايد بالنهوض من مكانه.
فهو لا ينوي السماح لها بحمل شيءٍ أثقل من شوكة.
لكنّ جيزيل أوقفته بنظرةٍ سريعة،
ثم همست بصوتٍ منخفضٍ لا يصل إلى مسامع الطفلة.
“دَعْها تفعل ما تستطيع فعله بنفسها.
إنّها آنسة ذكيّة وشجاعة، أليس كذلك؟”
كُلْك… كُلْك.
في تلك الأثناء، كانت لور قد شربت نصف الكأس.
وبدا الطعم كأنّه عصير فواكه.
لم تعرف أيّ فاكهةٍ هي،
لكنّه لم يكن حلوًا بإفراط مثل كعكة الفراولة،
بل كان حامضًا حلوًا باعتدال،
وأعجبها كثيرًا.
“واااو!”
أشرق وجه لور كالشمس.
“عصير الفاكهة هذا لذيذ!”
لذيذٌ جدًا!
طعمه ينعش ويغسل لساني!
وبحماسة، رفعت الكأس إلى فمها مرّةً أخرى.
كان ألكايد وجيزيل يراقبانها بتركيزٍ كامل دون أن يشعروا.
“يبدو أنّه لذيـ—”
ما إن فتح ألكايد فمه حتّى همست جيزيل بسرعة.
“سيدي الدوق!”
انتبه ألكايد إلى نظرتها،
فرفع نبرة صوته قليلًا،
وأنهى الجملة بنبرةٍ أخفّ.
“—ذ؟”
فالأطفال يخافون من الأصوات العميقة الثقيلة مثل صوت الدوق،
وقد أخذ بنصيحة جيزيل بأن يتكلّم بصوتٍ مشرقٍ وخفيف.
لم يشأ أن يرى حتّى هذه الطفلة،
التي تُشبه إيلين، تخاف منه.
“نعم! لذيذ!”
هيهي.
ابتسمت لور ابتسامةً عريضة،
إلى حدٍّ ظهر معه الفراغ في أسنانها حيث سقطت إحدى أسنانها الأماميّة.
‘آه.’
تجمّد ألكايد تمامًا أمام تلك الابتسامة الدافئة المبهرة.
فقد تداخل وجه إيلين مع وجه الطفلة في نظره.
مع أنّه لم يرَ إيلين تبتسم بهذا الإشراق قطّ.
“هاااه…”
بعد أن أنهت لور الكأس تمامًا،
أطلقت زفرةً صغيرة،
وكأنّها تقلّد الكبار حين يشربون ويهتفون.
حين رأى ذلك،
تسرّب الدفء إلى صدر ألكايد المتجمّد،
كدفء براعمٍ تنبت في قلب الشتاء.
“اعثروا فورًا على الطاهي الذي صنع هذا العصير،
وأرسلوه إلى قصر الدوق.”
قالها بنبرةٍ أكثر جمودًا من المعتاد،
وكأنّه يحاول إخماد ذلك الإحساس.
‘آه… هل كنتُ قاسيًا؟’
ظنّ أنّ الأمر لا بأس به لأنّه يوجّه الحديث إلى جيزيل،
لكن لور كانت تسمع.
فأدرك خطأه سريعًا،
والتفت إلى لور متكلّمًا بألطف وأحنّ صوتٍ يستطيع إخراجه.
“سأجعلهم يوفّرون لكِ هذا العصير،
لتشربيه كلّ يوم،
إلى أن تملّي منه.”
“وااااه!”
أطلقت لور صيحة فرح.
أن تشرب هذا العصير اللذيذ كلّ يوم!
لور سعيدة جدًّا!
“بابا هو الأفضل!”
رفعت ذراعيها عاليًا،
وقفزت بساقيها القصيرتين وهي تهتف.
“يعيش أبي!”
ابتسم ألكايد لا إراديًّا،
ثم توقّف فجأة.
‘متى… كانت آخر مرّةٍ أبتسم فيها هكذا؟’
منذ رحيل إيلين،
لم يبتسم ولو مرّة.
كأنّ ابتسامته رحلت معها.
بعد رحيلها،
صار العالم رماديًّا.
لم تُفرحه انتصارات الحرب،
ولا مدائح الإمبراطور ولا المكافآت.
الفراغ والخواء والاشتياق غطّت عالمه بالظلال،
حتى بهت كلّ شيء.
لكنّ هذه الطفلة وحدها،
كانت تتلألأ كوميض الماء تحت الشمس.
وكانت ابتسامتها تعيد النور إلى عالمه.
ليس هذا فحسب.
ضحكتها كانت كجدولٍ متجمّد يذوب مع الربيع،
مفعمةً بالحياة والبهجة.
وحين كانت تلك الضحكة تدغدغ قلبه،
كان ألكايد يبتسم معها دون مقاومة.
“آه!”
أطلقت لور صوتًا قصيرًا،
كأنّها تذكّرت شيئًا.
اختفت الابتسامة فورًا من وجه ألكايد.
وقبل أن يسألها عمّا حدث، انطلقت لور راكضة.
سارع ألكايد بدفع الكرسي والنهوض،
ظنًّا أنّها ستركض بعيدًا.
“آنستي؟ ما الأمر؟”
‘هل ملت من الحلويات؟ إلى أين تنوي الذهاب؟’
وفي اللحظة التي تردّد فيها،
بينما سبقتْه جيزيل بالوقوف—
دَبْس!
قفزت لور إلى حجر ألكايد.
قفزةٌ ممتازة،
وهبوطٌ مثاليّ.
ورغم ارتباكه،
ابتسم ألكايد برضا.
‘…رشاقة جيّدة.
إنّها تُشبهني فعلًا.’
حركة سريعة بلا تردّد.
لو درّبتُها على السيف لاحقًا لبرعت…
لا، لا.
جسدها ضعيف. يجب أن أمنع ذلك.
كان ألكايد غارقًا في أفكاره ،بوجهٍ جامدٍ كتمثال.
“لماذا—”
وقبل أن يكمل سؤاله، مدّت لور يديها الصغيرتين،
وأمسكت خدّي ألكايد وسحبتهما.
لم يجرؤ أحد قطّ على لمس دوق أتيليون بهذا الشكل.
تفاجأ ألكايد ، لكنّه استرخى وتركها تفعل ما تشاء.
“تشوك!”
“يا إلهي!”
قبّلت لور خدّه بنجاح!
شهقت جيزيل،
ثم وضعت يدها على فمها بسرعة.
فهذا المشهد لطيف جدًّا،
ولا يجب—أبدًا—إفساده!
“هيهي.”
ابتسمت لور بفخر.
“شكرًا لأنّك فكّرتَ بلور، يا أبي!”
قالت إنّها تحب عصير الفاكهة،
فجعله متوفّرًا لها كلّ يوم.
قالت أمّي إنّك إن أحببتَ شخصًا،
تفعل له ما يُحبّه!
هذا يعني أن أبي يحبّ لور!
ليس أنا فقط من يحبّ بابا.
بابا يحبّني أيضًا!
وحين فكّرتْ بذلك،
لم تستطع احتواء سعادتها.
لذلك،
فعلت تمامًا كما كانت تفعل مع أمّها حين تحبّها كثير
ركضت نحوه وقبّلت خدّه.
“آه…”
كان ألكايد قد بدأ ينهار منذ لحظة جلوسها في حجره.
لم يقترب منه أحد بهذه العفويّة منذ إيلين.
وحين لامست شفتاها الطريّتان خدّه…
اجتاحته موجة مشاعر هائلة.
وتحوّل عالمه، الذي كان لا يلمع إلّا حول الطفلة،
إلى لوحةٍ ملوّنة زاهية.
‘آه…’
أحاط ألكايد جسد لور الصغير بذراعيه بحذر،
وبقي يعانقها طويلًا دون حركة.
ولمرّةٍ نادرة،
كانت لور هادئة في حضنه.
كانت أمّها تفعل ذلك أحيانًا أيضًا.
ولا تعرف لور لماذا،
لكنّها كانت تفعل شيئًا دائمًا في تلك اللحظات.
سْووش… سْووش.
تمسّد ظهرها كأنّها تقول.
‘أحسنتِ.’ أو ‘لا بأس.’
شدّد ألكايد عناقه أكثر.
انتقل دفء الجسد الصغير اللطيف ، من حضنهما إلى قلبه.
خوفًا من أن يفقد هذا الدفء، لم يرخِ ذراعيه.
كانت لور تضحك بهدوء، في حضنه.
راقبت جيزيل المشهد بصمت،
ثم تنفّست الصعداء.
نعم.
فلنعترف.
المرحلة الأولى من موعدهما—
“التوقّف عند متجر الحلويات”—
فشلت فشلًا ذريعًا.
‘لولا تصرّف الآنسة اللطيف في النهاية…’
ارتجفت جيزيل.
‘آه، لا أريد حتّى تخيّل مالذي قد كان سيحدثُ لي لولاها.’
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 10"