لم يكن هناك إرثٌ ولا لقبٌ يمكن توريثه، لذلك كان بعض أبناء النبلاء يتشبّثون بالحرس الملكي طمعًا في لقبٍ يُمنَح باسم الحرس.
بالطبع، لا بدّ أنّ بعضهم كان يؤدّي خدمته بجدّية.
لكن أولئك كانوا قلّةً قليلة.
حين عُيّنت كلوي أوّل مرةٍ بصفتها مُساعدة، لم تفهم لماذا كان رجال الحرس يصفونها بـ”حُثالة البحرية”.
البحرية ليست مثالًا في الانضباط، هذا صحيح.
لكن الحرس الملكي أيضًا لم يكن بتلك الصرامة.
جيشٌ ينبغي فيه مراعاة أنساب الأفراد قبل مراعاة رتبهم العسكرية… أيُّ خيرٍ يُرتجى من جيشٍ كهذا؟
“هل رأيتِ الملازم ثيودورا دو تورنيا؟”
“نعم.”
“الفرقة التي قُدتُها في الحرب مع الممالك الثلاث كانت مكوّنةً كلّها من أمثالها. الملازم تورنيا كانت من المميّزات بينهم، لكن على أيّ حال… هؤلاء لا يثرثرون، ويعرفون كيف يراقبون الموقف دون أن يتصرّفوا بخفّة.”
وافقت كلوي على ذلك تمامًا.
فقد أُعجبت هي أيضًا بثيودورا تورنيا، ورأت فيها نموذجًا للجنديّ الكلاسيكي المنضبط.
تقوم بما يجب عليها فعله، لا حركةً زائدة في أدائها، ولا تسأل عمّا لا يلزمها معرفته.
لكنها تُراقب الموقف وتضع كل الاحتمالات في الحسبان.
وما فعَلَته حين جرّت لورا لو غوتيا جرًّا من مكانها بسرعةٍ تليق بأعضاء الفوج الثامن!
لو أنّ كلمتَي “العقلانية” و”الدقّة” تجسّدتا في هيئة إنسان، لكانتا هي.
“حين أصدر جلالة الملك أمره بتعييني في الحرس الملكي، لم أغضب كثيرًا في البداية. كنتُ أعرف أنه يريدني قريبًا من مجال بصره.”
“……”
“لكنّ جلوسي على رأس هذه الحثالة كان أمرًا يبعث فعلًا على الغيظ. ظننتُ أنه يريد أن يقتلني قهرًا.”
ضحكت كلوي بخفّة دون أن تشعر.
فتذمّر كيرتيس بصوتٍ منخفض.
“الجيش الملكي نُقِل من إيفانيس إلى سيلتي لسببٍ واحد: أنا. وبذلك، لم يبقَ في إيفانيس إلا الحرس الملكي. فهل تعتقدين أنّ القصر سيكون آمنًا في حال الطوارئ مع هذا الوضع؟”
نظرت إليه كلوي من جديد.
فالجيش الملكي كان متمركزًا في إيفانيس، ثم أمر الملك بنقله إلى سيلتي، التي تبعد ساعةً واحدة على ظهر الخيل.
ربما كان جلالته يخشى أن يقود كيرتيس شان بيرك الجيش ويُشعل انقلابًا.
يا للسخرية.
لو كان كيرتيس راغبًا في العرش، لما كان هو نفسه من قاد المفاوضات حتى الوصول إلى الهدنة مع الممالك الثلاث.
شيءٌ كان في مقدور كلوي أن تفهمه بسهولة، لكن الملك كان أعمى عن إدراكه بسبب غيرته.
“من منظومة الإمداد إلى تدريبات الطوارئ… لا شيء كان يعمل كما يجب. أنت تعلمين هذا، فقد عملتِ معي.”
“نعم، حسنًا… في البداية ظننتُ أنك مجرد عاشقٍ للحرب.”
هزّت كلوي رأسها.
فمعظم ما اضطرت للتعامل معه حين عُيّنت في منصبها كان إعادة تأهيل الحرس الملكي.
إعادة تنظيم نظام التوجيه الطارئ لكل فرقة، وإعادة تشكيل السرايا… كلها أعمالٌ مزعجة، ولا تبدو ذات فائدةٍ إلا إذا كنت تستعد للحرب.
“صحيح. وسمعتُكِ أيضًا تنعتينني بالمجنون.”
“…عفوًا؟”
“لماذا تنظرين إليّ هكذا؟”
قهقه كيرتيس قليلًا، ثم تابع وهو ينظر إلى وجهها المذهول.
“من لا يقول ما يشاء ما دام الملك غير موجود؟ ما دمتِ لا تقولينه أمامي، فلا بأس.”
“أنا… متى قلتُ…؟”
“أتقسمين أنكِ لم تقولي ذلك قط؟”
“لا يسعني إلا أن أغتنم سَعة صدر سموّك.”
أجابته بسرعة، فقهقه وهو يسند ذراعه تحت رأسه.
كان الجوّ الثقيل قد تلاشى تمامًا.
فتحت كلوي فمها بعد أن هدأ ضحكه.
“مع أنني بالفعل كنتُ أظنّ سموّك مجنونًا…”
“اعترافٌ صريح، إذًا؟”
“…لن أنكر. على أيّ حال…”
كان كيرتيس يتأمل عينيها الزهريّتين الصافيتين، اللتين تتلألآن بلونٍ يميل إلى القرمزي تحت وهج الشموع.
منذ أن التحق بالحرس الملكي، لم يبتسم ابتسامةً حقيقية.
وإن ابتسم، فغالبًا لأنه كان غاضبًا لدرجة تدعو للسخرية.
حتى شاع بين جنود الحرس أن ابتسامة كيرتيس شان بيرك نذيرُ شؤم.
وسمع هو تلك الشائعة بنفسه.
ومع ذلك… كيف يكون ذلك ذنبه؟
اللوم يقع على الحمقى الذين يدفعونه إلى هذا النوع من الضحك.
لكن مع مساعدةٍ واحدة بالذات… كان يجد نفسه يبتسم بطريقةٍ مختلفة.
تارةً بدهشة، وتارةً بسخرية، ولأسبابٍ كثيرة لا تُحصى.
“إن أردتُ الصراحة… نعم. تزوّجتُ سموّك لأجل أن أُذلّك قليلاً.”
ها هو ذا… يضحك مجددًا.
انفلت منه ضحكٌ خافت.
نامت المرأة بعد وقتٍ طويل.
وكانت لا تزال نائمة في وضعيةٍ مضحكة.
أن تغفو وهي تسند ركبتها إلى الجدار؟
حتى هذا يحتاج إلى موهبة.
كان كيرتيس مستلقيًا على جنبه عند طرف السرير، يحدّق بها بصمت.
قبل دقائق فقط كانت تصرخ بلا توقّف… وها هي الآن نائمةٌ دون دفاع.
لكنه كان يعلم أنّ يومها كان مرهقًا إلى حدٍّ بعيد.
منذ حفلة الاستقبال لم تعد إلى منزلها، وبدأت يومها بالتحقيقات، ثم بقيت معه في غرفةٍ ضيّقة لساعاتٍ طويلة.
لا بدّ أنّها كانت مُنهَكة.
وقد هدأت قليلًا بعد أن تبادلا الحديث وهما مستلقيان.
لولا ذلك، لكانت ساهرة حتى الآن.
أو… ربما كانت ذهبت لتنام في مكتبه.
فكلوي كانت تتخيّل أنها إذا حرمتْه من سريره، سيعود هو إلى القصر الكبير وينام هناك.
لكنّ كيرتيس لم يكن ينوي ذلك منذ البداية.
ولأسبابٍ وجيهة لم يخبرها بها.
مكتب الدوق داخل الحرس الملكي.
حادثةٌ مُخزية وقعت لتوّها.
الدوقة، المُتّهمة، تنام وحدها في غرفة المساعدين …
أليست هذه ظروفًا مثالية لأيّ حقيرٍ يريد استغلال الوضع؟
وفي الحقيقة… قد وقعت بالفعل محاولتا اغتيال بعد الزواج.
كلوي لم تكن تعلم.
وكذلك إيزابيلا لا غلينترلاند.
فهي أيضًا أكثر أمانًا في زنزانة الحرس.
أما سلامتها، فلا تعنيه حقًا.
ما يعنيه هو سلامة موظّفته.
ولذلك… فهو لن—
‘…الإفراط في التفكير ليس علامةً جيدة.’
طرد أفكاره بصعوبة.
ومع ذلك، لم يستطع طرد كلمات كلوي من رأسه:
-‘كنتُ نصف فاقدةٍ لعقلي وقتها. ثلاثة أيامٍ من السهر، ثم فجأةً أجد نفسي حبيبة سموّك أمام الملك!’
لذلك أرادت إذلالي؟
يا للسخرية.
-‘وماذا عن عائلتك؟’
-‘ذلك خرج بلا قصد… لكن بعد أن قلتُه، لم يكن كلامًا غير صحيح.’
-‘حسنًا.’
-‘ثم… بصراحة، هذا الزواج لم يكن بالقسوة التي توقعتها. ليس بعد.’
كانت تُحدّق في سقف غرفة المساعدين وهي تقولها بهمس.
ربما خجلًا أو حرجًا.
كيرتيس فهم ذلك.
-‘وما قلته عن أن الزواج من سموّك كارثة… أجل، آسفة.لكن أيُّ كارثةٍ هذه التي تُدرّ عشرة آلاف سنويًا؟’
-‘صحيح.’
-‘طريقة موافقتك تثير أعصابي… على كل حال، هذا كل ما في الأمر.’
-‘ما الذي تعنينه؟’
فانفجرت كلوي غيظًا، وردّت على مضض:
-‘أعني أنه… ليس بالأمر السيئ، لا أكثر.’
-‘هل أنا وحدي مَن يجد قولك هذا ونحن متلاصقان في هذه الغرفة ذا دلالةٍ خاصة؟’
نظرت إليه بشزرٍ.
وأما هو، فلم يكن يدري لماذا قالها بذلك القدر من اللؤم.
لكن، ما إن مال برأسه قليلًا—
حتى جاءه جوابُها:
‘أعني… جرّب المواعدة بجدّية، فحسب.’
فبردَ قلبه فجأة.
الاستدارة عكسها لتجنّب إظهار انزعاجه بدا سلوكًا طفوليًّا، لذا بقي مُحدّقًا في السقف معها.
بدأ مصباح الحجر السحري يَخبو رويدًا رويدًا.
وحين ضعُف ضوؤه إلى الحدّ الذي كاد ينطفئ فيه، سمع أنفاسًا ناعسة من جانبه.
وبعد أن انطفأ الضوء تمامًا، استدار أخيرًا نحوها.
كان يعرف أنها نائمة، لكنه لم يفهم لماذا لم يستدر قبل ذلك.
“لا يبدو أنها تخاف النوم إلى جانب رجل….”
قالها، وهو يعرف أنها جملةٌ مضحكة.
فهو قد نام معها من قبل.
وكان عليه، على الأقل، أن يضمن ألّا تخشى النوم قربه أبدًا.
‘الفضيحة القادمة ستنفجر من فم الخادم.’
يبدو أنه مضطرّ للتصرّف كأحد النبلاء المجانين الذين ينامون مع زوجاتهم حبًّا وجنونًا… حتى تهدأ الفضيحة التالية.
التعليقات لهذا الفصل " 98"