على السريرِ الضيّقِ المخصّصِ للضابطِ المساعد، كان كيرتيس شان بيرك ممدّدًا إلى جوارها في خطٍّ مستقيمٍ واحد، وقد بدا عليه التبرّمُ الشديد.
كيف انتهى بهما الأمرُ إلى هذا الحال؟ القصّةُ ليست معقّدة. فكلّ ما دارَ بينهما قبل ذلك كان على النحوِ الآتي:
-‘أتبكين؟’
رفعت كلوي رأسها بسرعةٍ وقد كانت تُخفي وجهَها بيديها، متردّدةً في إنفاقِ ما تبقّى من فرصتَين.
-‘هاه؟ لا، لستُ كذلك.’
-‘كيف لا؟ عيناكِ محمرّتان. اللعنة.’
لقد كان صادقًا. أجل، كانت تخفي وجهها وتشعرُ بأنّها تودّ الموتَ قليلًا من شدّةِ الحرج، لكنها ما كانت لتعتبرَ ذلك بكاءً.
غيرَ أنّ كيرتيس بدا جادًّا للغاية.
-‘لم أعلم أنّ الأمر بلغ حدّ البكاء. آسف لأنّي سخرتُ منكِ.’
ربّما السببُ هو أنّها فركت وجهها بعنفٍ مفرطٍ أثناءَ تنظيفه الجافّ، أو لعلّ ألمًا خاطفًا أرهفَ كتفَها فارتجفَ دون وعي.
لكنّها لم تتوقّع أن يعتذرَ بذلك الجِدّ. حاولت نفيَ الأمر، إلا أنّ كيرتيس بدا أكثرَ جدّيّة.
-‘يا إلهي. قلتُ لم أَبْكِ حقًّا.’
-‘تبًّا. لا تتعاملين معي كالأحمق، أعلمُ أنّي تصرّفتُ كمجنونٍ أجبرَ امرأةً على ما لا تُريد.’
لا، ليس إلى هذا الحدّ!
ثمّ إن قالتها هكذا، فماذا سيُصبح شأنُها هي التي لوّحت بشعرها في وجهه رغم رفضه؟
وفي نهايةِ المطاف، حين قال كيرتيس إنّه سيجلسُ في مكتبه ويغفو هناك، أمسكت به كلوي دون تفكير.
“لا! لا داعي، الأمرُ على ما يُرام! أنا جيّدةٌ لدرجة أنّي يُمكن أن أشاركَ سمو الدوق نفسَ السرير!”
أصرّت على كلامها بكلّ ما أوتيت من قوّة.
“سمو الدوق لم يفعل ذلك لأنّه أرادَ صنعَ تاريخٍ مهيبٍ بيننا، أليس كذلك؟”
“أليس كذلك؟”
“أجل، وأنا أيضًا لم أفعل هذا لأنّي أكرهه حقًّا!”
…لكنّها أدركت أنّها ما كان ينبغي أن تقولَ ذلك إلّا بعدما تمدّدا جنبًا إلى جنبٍ على السرير.
“اللعنة. لا، هذا تجاوزٌ للحدّ…”
بطبيعة الحال، مساحةُ السرير لم تكن لتتّسع لشخصَين أبدًا. كان ضيّقًا ومهترئًا.
حتى عندما كانت كلوي تسهر فيه وحدها، كانت ساقاها تكادان تبرزان إلى الخارج.
أما الآن وقد تمدّدا معًا، فقد انضغط نصفُ جسدها تقريبًا بين الجدارِ والسرير.
لكنّ وضعها كان أفضلَ نسبيًّا.
أما كيرتيس…
“يا صاحبَ السموّ، هل أنتَ مرتاح؟”
كان نصفُ جسده تقريبًا يتدلّى خارج السرير. لو أنّه لم يسقط لكان ذلك حُسنَ حظّ.
“ليس من شأنكِ أن تقلقي، نامي فحسب.”
قالها وكأنّ الأمرَ لا يعنيه، رغم أنّ ملامحَه كانت تشي بعدمِ ارتياحٍ شديد.
لماذا لا يعترفُ ببساطة؟ أهو الكبرياء؟
طبعًا، هي أيضًا كانت قد أوصلت الأمورَ إلى هذه الحالِ بسببِ عنادها.
قالت بنبرةٍ ساخرة دون وعيٍ منها:
“خشيتُ فقط أن تكونَ قد أُغمي عليكَ من قذارةِ سريري.”
“هاه.”
ضحك كيرتيس وهو يحدّق في السقف بدهشة.
“لقد غيّر خدمُ القصرِ الملاءاتِ بعد الظهر، أليسَ كذلك؟”
“لكنّني أنا التي استلقيتُ عليها بعد ذلك.”
كان قد رفع ذراعه فوق رأسه حتى لا تلامسَ كتفَه كتفَها، وأجاب بفتورٍ دون أن يُشيح ببصره عن السقف:
“لي معاييري الخاصة.”
“أعرفُ ذلك. لكنّك لا تستعملُ أبدًا أيَّ شيءٍ سبقَ أن استعمله غيرُك.”
قهقه بخفّة، ثم ألقى عليها نظرةً جانبية.
تابعت كلوي كلامها وهي تُحاول ألّا تُظهرَ افتخارًا:
“السريرُ يجب أن تُبدَّل ملاءاته مرّتَين في اليوم سواءَ استخدمه أحدٌ أم لا، ويُمنعُ أن تُتركَ عليه شعرةٌ واحدة.”
“….”
“والأريكةُ، مهما كان مَن جلسَ عليها، لا تلمسُها قبل أن تُنظَّف. السجادُ لا تلمسه بيدِك مطلقًا. وكذلك الأقمشةُ المعلّقة.”
تابعت تُعدّد التفاصيل واحدةً تلو الأخرى.
قالت إنّ ستائرَ المكتب تُبدَّلُ مرّةً أسبوعيًّا على الأقل، وإنّ مفرشَ الجلدِ فوق المكتب لا يرضى أن يلمسه الخدمُ بل يلمّعه بنفسِه يوميًّا بقطعةِ قماشٍ مبلّلةٍ بالزيت.
وأنّه يستخدم ريشة غبارٍ جديدةً كلّ يومٍ لمسح رفوف الكتب، وأنّ فنجانَ الشاي يُستبدل به بعد ساعةٍ بالضبط من صبّ الشاي فيه.
وأنّه، رغم أنّه لا يُمانع رؤيةَ شعرِه الخاصّ، إلا أنّه إذا سقطَ شعرٌ منه على الأرض التقطَه فورًا ورماه، وغالبًا ما يتبعُ ذلك نوبةُ غضب.
لهذا كانت كلوي، متى رأت شعرةً في المكتب، تسارعُ إلى التقاطها بحركةٍ قتالية.
في العادة، تتراكمُ الأوراقُ وبقايا الأشياءِ فوق المكتب أثناء العمل، وكان تنظيفُها من مهمّاتِ الخدم، لكنّ كيرتيس لم يكن يحتملُ ذلك المنظر. فوضع سلّةً إلى جوار المكتب ليرمي فيها كلَّ شيءٍ بنفسِه.
وكان بعضُ الوزراءِ الذين يزورونه يتذمّرون قائلين إنّ كراسي المكتبِ الخشبية تجعل المكانَ يبدو كوخًا لا قصرًا. لكنّ كلوي كانت تعرفُ السبب. فالتنظيفُ أسهلُ وأسرعُ بهذه الطريقة.
كان لديهم أريكةٌ رسميّةٌ لأجل كبار الزوّار، لكنّ الملاءاتِ التي تغطّيها تُبدَّل يوميًّا. وإن جلسَ عليها أحد، أُمِرَ الخدمُ باستبدالها فورًا بعد مغادرته.
“كلوي، أنتِ…”
‘أجل، أنا مزعجةٌ بعضَ الشيء، لكنّني مُساعدةٌ كفوءة، أليس كذلك؟’
“هل يُعقلُ أنّكِ كنتِ مُعجبةً بي؟”
“سأنامُ على المكتب، يبدو لي أنّها فكرةٌ ممتازة.”
“كنتُ أمزح.”
“ومزاحُكَ هذا ليس مضحكًا على الإطلاق.”
لمّا همّت بالنهوض، ابتسمَ كيرتيس وأعادها برفقٍ إلى السرير. تمتمت وهي مستلقية:
“تظنّ أنّي أمضيتُ ثلاثةَ أشهرٍ ضابطةً مساعدةً لك كيفما اتّفق؟ كان عليّ أن أنالَ جائزةً على الأقلّ!”
“أتحتاجين إلى جائزة؟”
“وهل الجوائزُ تُمنحُ لأنّ أحدًا يحتاجُها؟ إنها وسيلةٌ لرفع المعنويات.”
“سأمنحكِ جائزةً: سريرًا جديدًا لهذه الغرفة.”
“آه!”
صرخت كلوي غاضبةً. نظرَ إليها كيرتيس بذهولٍ، لكنّها لم تستطع كبحَ انفعالِها.
التعليقات لهذا الفصل " 97"